ما بعد خليجي 25: سقوط الاوهام!
عبد الامير المجر
2023-01-30 06:14
من بين الطرائف التي يتداولها الناس، والتي تتحدث عن الأمور المتأصلة في الانسان وصعوبة تغييرها، حكاية متخيّلة عن مبشّر ديني، جاء أرض المسلمين بقصد نشر ديانته، وقد اختار مجموعة من الاشخاص وراح ينفق عليهم ويلقي المحاضرات بشكل يومي، حتى صار شبه موقن من انه نجح في مهمته.
في احد الايام وبينما كان يلقي محاضرته، انقطع التيار الكهربائي، وباتوا في شبه ظلام داخل القاعة، وبعد وقت قصير عاد التيار، واذا بالقاعة تضج بالصلوات على النبي محمد!!... الحكاية وكما قلنا متخيّلة، لكنها تعكس حقيقة مهمة مفادها، ان الكثير من التفاصيل في حياة الانسان من الممكن تغييرها، باستثناء ثقافته.
فهذه مهمة معقدة وتحتاج الى جهد كبير، لأن الأقوام التي شكلت الامم والدول لم يتحقق لها هذا الاّ بواسطة الثقافة التي تحصّلت عليها المجموعات السكانية بعد ان تصاهرت وتلاقحت وتداخلت مع بعضها عبر مراحل تاريخية لتصبح بما هي عليه، او بعد ان انتجت ثقافة مشتركة باتت تشكل هويتها النهائية، اذ تبين وبالأدلة العلمية ان موضوعة العرق او الدم الواحد النقي، اكذوبة وان الذي يجمع الشعوب والامم ويوحدها ويجعلها متكافلة هو الثقافة، لاسيما اللغة المشتركة، واذا تعززت هذه ببعد آخر فهذا عامل مضاف لكنه يبقى دون اللغة، فالتجارب الانسانية تقول، ان ابناء الديانات الواحدة تقاتلوا فيما بينهم كثيرا تحت غطاء هوياتهم اللغوية المختلفة.
من بين ابرز ما اشتغلت عليه قوى محلية ودولية في عراق ما بعد 2003 هو تغييب هوية العرب فيه، والذين يشكلون اكثر من 80 بالمائة من سكانه ويتوزعون على اكثر من 90 بالمائة من ارضه، وكان الاسلوب المتبع في هذه اللعبة، هو تفعيل الهويات الفرعية ودفعها الى اكثر ميادين الصراع إغراء، وهما السلطة والمال، وبات استخدام الهويات الفرعية هذه، كالطائفية والمناطقية، يمثل الوسيلة الوحيدة للوصول الى هذه المكاسب.
وقد حققت تلك الجهات نجاحا لا يمكن اغفاله، لاسيما في السنين الاولى التي اعقبت الاحتلال الاميركي، حتى باتت تسمية المكونات من المسلمات التي يتعامل معها الاعلام والساسة بشكل يومي، واطمأن بعضهم الى ان الهوية الكبرى (العربية) باتت في خبر كان، وان الحديث عنها يثير الشبهة احيانا ويجعل صاحبه في وضع المتهم بالإقتراب من محظورات معروفة!
لقد كانت الصدمة الاولى لمن تبنوا هذه اللعبة واستثمروا بها سياسيا، هي ثورة تشرين التي لم يقتصر حجمها على ميادين الاحتجاج، وانما باتت ثقافة مجتمعية تعبّر عن الرفض القاطع لتكييف فكرة المكونات بالصيغة التي اريد فرضها على العراقيين، او العرب منهم تحديدا، والقفز على ثقافتهم الرئيسة كمدخل لتقسيمهم بين القوى الطائفية وتوزيع الغنائم السياسية بينها.
وعلى الرغم من كل الذي جرى من ارهاب مصطنع او حصل تحت ظل ظروف ملتبسة، اشتغلت عليها قوى الشر في الداخل والخارج، ومحاولتها الباسها لبوسا طائفيا بقصد توسيع الهوة بين عرب العراق، لكن هذه المشاريع اسقطت فورا بعد ان انجلت الغبرة وتبين ان العراقيين العرب، في مشاعرهم تجاه بعضهم البعض، اكبر من كل هذه الألاعيب وان التجربة المريرة جعلتهم يدركون ان ما حصل من كوارث سببها ابعادهم عن ثقافتهم الجامعة، واضعافهم لصالح مشاريع محلية تنتهي بتقسيم البلاد وتجاوز البعض على حقوق البعض الاخر.
بطولة خليجي 25 التي اقيمت في البصرة مؤخرا، كشفت عن اكثر من حقيقة، اهمها ان العراقيين ازاحوا من الاذهان المقولة التي اشتغل عليها الاعلام المغرض الموجه، والمتمثلة بانهم باتوا ينبذون هويتهم الكبرى العربية، وانهم توزعوا بين هويات فرعية.. ومع انهم يعتزون بتلك الهويات الفرعية لكنها لن تكون البديل الكامل لهويتهم الكبرى العربية، التي تتعايش معها الهويات القومية الاخرى، كالكردية والتركمانية، وتتكامل على ارض الرافدين منذ القدم... العرب في الخليج وغيره ايقنوا بعد هذه البطولة وما شاهدوه، ان الاشتغال على هذه اللعبة فشل في صناعة نمط ثقافي لدى شباب العراق ممن هم دون الثلاثين والذين يشكلون الاغلبية من سكانه، والذين كانوا هم المستهدفون اصلا في هذا الخطاب، وان هؤلاء باتوا رأس النفيضة في التصدي للطائفية والمناطقية واكثر الداعين حماسة للعراق الواحد وبهويات ابنائه الرئيسية التي تحتفظ لكل منهم بثقله الحقيقي غير المجزأ لأغراض معروفة.
ترى هل استوعب الدرس اللاهثون وراء المشاريع الطائفية التي لم تجلب للعراق سوى الخراب والدمار، ام انهم سيعملون على تجاوز ما حصل في خليجي 25 والعمل على استيعابه ثقافيا كما يعتقدون، او مثلما تخيلوا وتوهموا من قبل، انهم استوعبوا تشرين ومخرجاتها، وتبين لهم لاحقا ان تشرين حقيقة حيّة وهي بداية التغيير الذي اكدته وكرسته بطولة خليجي 25 مثلما ستؤكده غيرها لاحقا!