من عالم الأشخاص إلى عالم الأفكار
زكي الميلاد
2022-10-25 05:06
من النماذج التحليلية التي استند إليها المفكر الجزائري مالك بن نبي في دراسة وتحليل علاقة المجتمع بالأفكار تقدما وتراجعا، النموذج الذي يمكن تسميته بالعوالم الثلاثة المتصلة والمتعاقبة، وهي: عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار.
وقد وجد ابن نبي إمكانية تطبيق هذا النموذج التحليلي على عوالم الفرد والمجتمع وحتى عالم الحضارة، فالفرد من الناحية الطبيعية والحسية والنفسية يمر في نظر ابن نبي في الطور الأول من حياته بعالم الأشياء، فكل ما حوله بالنسبة إليه هي أشياء، ولا يمتلك القدرة على التمييز والفصل بين هذه الأشياء، وفي الطور الثاني وبعد نمو إدراكات الفرد الطفل ينتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص، فيبدأ بالتعرف على من هم حوله من الأشخاص كالأم والأب، وفي الطور الثالث وبعد نمو واتساع إدراكات الفرد ينتقل من عالم الأشخاص إلى عالم الأفكار.
هذا في مرحلة القوة، ويحصل التراجع العكسي والتقهقر في مرحلة الضعف بعد اكتمال النمو والوصول إلى حالة الشيخوخة، فيبدأ التحول عند الفرد من عالم الأفكار إلى عالم الأشخاص بعد تراجع قدراته الذهنية، وبعد التقدم في العمر وانتكاس قدراته الذهنية قد يتحول من عالم الأشخاص إلى عالم الأشياء.
ويرى ابن نبي أن هذه العوالم الثلاثة تظل تتعايش طوال حياة الإنسان جنبا إلى جنب، مع تفوق أحدها تبعا للفرد، ولنموذج المجتمع الذي يندمج فيه.
وعلى صعيد المجتمع، لاحظ ابن نبي أوجه التشابه بين مظاهر النمو العقلي عند الفرد والتطور النفسي للمجتمع من جهة تلك العوالم الثلاثة، فالمجتمع في حالة التقدم والصعود يمر بتلك الأطوار الثلاثة، فينتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص ثم إلى عالم الأفكار، ويعكس سيره في حالة التراجع والهبوط فيتحول من عالم الأفكار إلى عالم الأشخاص ثم إلى عالم الأشياء.
والملاحظة التي نوه بها ابن نبي أن الانتقال هنا بالنسبة إلى المجتمع من مرحلة إلى أخرى، هي ليست بالوضوح الذي نراه عند الفرد، فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عالمة الثقافي المعقد، ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة الأشياء والأشخاص والأفكار، ولكن يظل هنالك دائما رجحان لأحد العوالم الثلاثة، وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره، يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات.
وقد لاحظت قياسا على هذا النموذج التحليلي، أن الحالة الغالبة في مجتمعنا الراهن تميل وتتنبه إلى الأشخاص أكثر من ميلها وتنبهها إلى الأفكار، أي أن عالم الأشخاص يتقدم غالبا على عالم الأفكار، كما لو أننا ننتمي إلى وضعية تتحدد من الناحية الروحية والثقافية في نطاق عالم الأشخاص، ولم نصل بعد إلى وضعية عالم الأفكار.
فنحن غالبا ما ننشغل بعالم الأشخاص ولا نقترب كثيرا من عالم الأفكار، وتتجلى هذه الحالة في كثير من الصور والمواقف والمشاهد، وفي كثير من الإشارات والدلالات والرموز التي تحصل يوميا وتتكرر في الحياة العامة، وتظهر في الأحاديث والنقاشات والتساؤلات التي تجري بين الناس.
ومن شدة وضوح هذه الحالة فإن من السهولة التنبه بها، والالتفات إليها، والتعرف عليها، وتجميع وتأطير ما لا يحصى من الصور والمواقف والمشاهد.
ولا نعني بعالم الأشخاص هنا الجانب الاجتماعي والإنساني في تفقد أحوال الناس، والتعرف على شؤونهم وحاجاتهم، كنوع من سلوك التراحم الاجتماعي والتواصل الإنساني الحميد والمحمود في الأديان والشرائع والقيم والأخلاق.
وإنما نعني بعالم الأشخاص الجانب الكاشف عن الوضع الروحي والثقافي للمجتمع، والذي يختل فيه التوازن الذهني والقيمي بطريقة يحل فيه الأشخاص محل الأفكار، ويتقدم فيه عالم الأشخاص ويغيب فيه عالم الأفكار أو يتقلص أو يتأخر.
وبتأثير هذه الحالة تتأثر وضعية الأفكار في المجتمع، فمن جهة يختل الجانب القيمي والاعتباري، ويميل ميزان التفاضل لصالح عالم الأشخاص وليس لصالح عالم الأفكار، ويكون الجانب الاعتباري للأشخاص إما بتأثير عامل المال أو الإعلام أو عناصر التأثير الأخرى، أما الأفكار فتكون خارج الجانب الاعتباري أو تكون بعيدة عنه، أو في منزلة أدنى.
ومن جهة ثانية، تتراجع حركة الأفكار في المجتمع ولا تزدهر، وإذا ظهرت تصبح أفكارا بلا حركة، ومآلها إلى التقلص والانكماش، وتظل في حالة تقهقر إلى أن تندثر وتضمحل، ومن دون أن ينتبه أحد إلى نهايتها.
فالأفكار بلا حركة هي أفكار بلا أثر ولا تأثير، أي أن الأفكار التي لا تنشط ولا تتحرك فإنها لا تخلق أثرا وتأثيرا، ومن دون الأثر والتأثير النفسي والثقافي والاجتماعي لا تبقى الأفكار، وتفقد سمة القدرة على البقاء، ولا ينتظرها إلا مصير الزوال والأفول.
وبمعنى آخر، إن الأفكار بلا حركة هي أفكار لا تحيا وتظل لا حياة لها في المجتمع، لا تحيا لأن الأفكار تحيا بالحركة، وتظل لا حياة لها لأن الأفكار لا تبقى إلا بالحركة، لكون أن الحركة هي عنوان الحياة، والكائن الحي هو كائن يتسم بالحركة.
وإذا أردنا أن نشخص وضعية الأفكار في مجتمعنا وجودا وحضورا، فإننا نجد صعوبة في معرفة وتحديد طبيعة الأفكار السائدة، وقد نختلف من الأساس في هل توجد لدينا أفكار سائدة أم لا؟ ولا نسأل عن هذه الأفكار، ولا نتعامل معها بمنطق السؤال!
والملاحظ أننا نفتقد إلى هذه العلاقة الدينامية بين الأفكار ومنطق السؤال، فنحن لا نضع الأفكار في دائرة السؤال، لكوننا نفتقد إلى ما اسميه منطق السؤال، ونعني به المنطق الذي يعنى بضبط العلاقة بين الأفكار والسؤال، وجعل العلاقة بينهما متلازمة بطريقة جدلية لا تنقطع ولا تتوقف، تجعل من الأفكار محبة للسؤال تولده وتبحث عنه، تتصل به ولا تنفصل، تتلازم معه ولا تنقطع، ولا تتحرج منه ولا تخشاه أو تهابه، ولا تكون طاردة له، وتجعل من السؤال محبا كذلك للأفكار يطلبها ويفتش عنها، ويتجه إليها، ويظل يتلازم معها.
ومن دون منطق السؤال فإن الأفكار لا تتوهج، ولا تشعر بالقدرة على التحفز، وتفقد مع مرور الوقت حس التنبه، وسرعان ما تصاب بالخمول، ومن ثم تتعرض إلى التقلص والانكماش، وينتهي بها المآل إلى الأفول والاندثار.
وما ينبغي التنبه له إننا نعاني من فقر شديد في الأفكار كشفا وتجددا وابتكارا، ولن نتمكن من معالجة هذا الفقر إلا بالتحول والانتقال من وضعة عالم الأشخاص إلى وضعية عالم الأفكار.