مفاتيح النهضة والتقدم في منهج الإمام علي (ع)
(1)
مرتضى معاش
2022-02-14 03:55
(لَا تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ)
مع حلول ذكرى ولادة امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) المباركة في شهر رجب نحاول ان نستلهم العبر والدروس التي نحتاجها ونستذكرها في هذه المناسبة.
نحاول أن نعرف أو ندخل في مضامين هذه الشخصية العظيمة، ولا يمكن أن نفعل ذلك فهي قضية صعبة جدا، فالإمام علي (عليه السلام) محيط واسع بحجم الكون الواسع، إنما نحاول أن نسير على شاطئه لنستلهم بعض الرؤى والبصائر من أجل تغيير حياتنا وواقعنا.
عندما كنت أتأمل في كلماته (عليه السلام) في نهج البلاغة، كنت أنظر وأرى كم نحن حرمنا أنفسنا من هذه الكلمات القيمة لتغيير حياتنا، إنها كلمات عظيمة لم نعمل بها ولم نقرأها ولم نتأمل بها، وهذا من الحرمان الشديد الذي فرضناه على أنفسنا.
حينما حصلت جائحة كورونا، ورأينا كيف تخبّط العالم وأصبح فوضويا، بعد انتشار الفايروس في كل العالم، فالغني عزل نفسه في قصره وجزيرته، والفقير بقي بلا عمل يكابد الحياة الصعبة، كتبت مقالا تحت عنوان (إنقاذ العالم بإنصاف الإمام علي عليه السلام)، ورأيت أن هذا العالم يحتاج إلى إنصاف الإمام علي (عليه السلام)، حتى يستطيع أن ينقذ نفسه ويتغير ويحقق المساواة والعدالة ما بين الناس. (عالم يحتاج الى الامام علي (عليه السلام) وقيمه ومبادئه وعدله وتقواه وورعه وانصافه، حتى يتمثل به ويتأسى بأخلاقه وينضج بشخصيته ويتحول بعقلانيته الواقعية، لإيقاف ذلك الانحدار الكبير الذي يعيشه العالم وتغرق فيه مجتمعاتنا، وإيقاف مسلسل الكوارث والأزمات والخسائر).
نحن نحتاج الى مقارنة مع الوضع الذي نعيشه من تخلف ونقارنه بمنهج الامام علي (عليه السلام) حتى نستطيع تغيير واقعنا باستلهام قيم النهضة والتقدم، من نهج الامام (عليه السلام)، فكل كلمة منه هي بصيرة للتغيير، ومفتاح للتقدم والتغيير.
كيف نحيي منهج الإمام علي؟
إننا مقصرون كثيرا في إحياء منهج الإمام علي (عليه السلام). فلا محاضرات تقدَّم ولا مؤتمرات تُعقَد، والكتب التي تتناول هذه الشخصية قليلة بالقياس الى عظمته، لذلك يُفترض أن يكون لدينا شهر كامل على الاقل لإحياء مناسبة ولادة امير المؤمنين (عليه السلام)، كإقامة المؤتمرات والندوات ومعارض الكتب وبرامج توعوية وفنية في المدارس والجامعات والحوزات.
لابد أن يكون هناك إحياء كامل في كل منطقة وبيت لهذه المناسبة العظيمة، ولابد من أن تكون هناك حركة مستمرة في العلم والفكر حتى يصبح المجتمع نابضا بمنهج الإمام علي (عليه السلام)، لكن هذا الأمر قليل في برامجنا ونشاطاتنا، وهذا تقصير كبير سنُحاسَب عليه في يوم الحساب، فلدينا هذا المحيط العذب الواسع ولم ننهل من هذا الماء النقي الطاهر كي نحاول أن نغير حياتنا ونجدد أنفسنا.
في كل كلمة بحر عميق من المعاني
إذا قرأتَ نهج البلاغة يوميا، كلمة كلمة، فإن في كل كلمة بحر عميق جدا من المعاني للاستفادة منها، يقول أمين نخلة في كتاب المئة: ووالله لا أعرف كيف أصطفي لك المئة من مئات، بل الكلمة من كلمات، إلاّ إذا سلخت الياقوتة عن أختها الياقوتة، ولقد فعلتُ ويدي تتقلّب على اليواقيت، وعيني تغوص في اللمعان...
وفي مقارنة الوضع الذي نعيشه اليوم، نلاحظ وجود مجموعة من النقاط تدور حول منهج الإمام علي (عليه السلام):
النقطة الأولى: إن منهج الإمام علي (عليه السلام) هو منهج من أجل بناء الإنسان، فهو ليس منهجا عقائديا ودينيا فحسب، وإنما هو منهج لبناء الإنسان المتكامل من جميع الجهات، نلاحظ ذلك في الكلمات التي نقرأها في نهج البلاغة وكتب أخرى، نلاحظ عملية تكامل بين الجمل والعبارات تؤدي إلى مجموعة من القيم التكاملية، تؤدي إلى بناء الإنسان بشكل متكامل ماديا ومعنويا وأخلاقيا واقتصاديا وسياسيا، إنها مجموعة قيم متكاملة من أجل بناء الإنسان. يقول (عليه السلام): (فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
البناء التراكمي للإنسان
النقطة الثانية: إن منهجه كان إيجابيا، ولم نلحظ أي نوع من السلبية في منهجه، ولا تشاؤم، وإنما كان منهجا إيجابيا يحاول أن يقدم إصلاحا شاملا للبشرية، وبريق أمل في الحياة، وطريق تقدم يجب أن تسلكه، فكل إنسان في المجتمع توجد لديه إمكانية التقدم إلى الأمام لو أنه استفاد من تلك القيم والمناهج التي قالها الإمام علي (عليه السلام). فعنه (عليه السلام): (اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ).
إن منهجه إيجابيّ بعيد المدى، معظم البشر أو 99% منهم قصيرو المدى، حيث يبحثون عن منافع آنية شخصية، وليس لديهم نظرة نحو المستقبل، ولا نظرة للبناء التراكمي للإنسان، الإمام علي (عليه السلام) لم يتنازل في منهجه للأشياء التكتيكية البسيطة، وإنما كان بعيد المدى في رؤيته لبناء الإنسان وتكامله وارتقائه. فعنه (عليه السلام): (وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً).
منهج الوعي والإرشاد
النقطة الثالثة: إن منهجه قائم على الوعي والارشاد وانفتاح القلوب للتغيير والتحوّل، حيث يحّرض الإنسان على التغيّر من خلال مخاطبة قلبه وعقله وتوعيته، وإرشاده وتحريضه على التخلص من السلبيات التي تجعله متمسكا بالدنيا وملتبسا بالمعاصي والذنوب. فعنه (عليه السلام): (أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَذلله بِذِكْرِ الْمَوْتِ).
منهج العِبرة والاعتبار
النقطة الرابعة: إن منهجه قائم على العِبرة والاعتبار، والاستفادة من التجارب الماضية، فلا تجعل تجاربك تتكرر في خط افقي، وإنما يجب أن تستفيد منها لتغيير واقعك، ولا يصح إعادة واستنساخ تجاربك الماضية وتكرارها وبعضها فيه فشل وتراجع.
فمنهجه (عليه السلام) ليس مجرد افتخار نفتخر به، بالطبع الإمام علي (عليه السلام) فخر لكل البشرية، وفخر للبشرية أن يكون فيها شخصية مثل الإمام علي (عليه السلام)، لكنه يرشدنا للاعتبار والتعلّم من منهجه ومن تجاربنا لكي نعرف كيف نعيش حياتنا بصدق وواقعية. فعنه (عليه السلام): (فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ وَاعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ).
مفاتيح النهضة والتقدم
النقطة الخامسة: كل كلمة في نهج الإمام علي (عليه السلام) هي مفتاح نحو التقدم والخير والنمو، وهذا أمر مطلق غير قابل للنقاش، كل كلمة منه تفتح أبواب السماء لنفسك وكنوز الدنيا والآخرة.
تقول الآية الكريمة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف 96. هذا الانفتاح الذي يحدث من بركات السماء يحتاج إلى مفاتيح، وهذه البركات بحد ذاتها كلّها مفتوحة، لكن الإنسان هو الذي يغلقها بسلوكه السيّئ، (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)، أي أنهم أغلقوا أبواب البركات والخير بأيديهم. واليوم نحتاج إلى تغيير حياتنا، من خلال الاستفادة من تلك المفاتيح التي تفتح لنا الأبواب، والمقصود هنا المفاتيح المعنوية.
هناك قيم ومفاتيح موجودة في كلمات الإمام علي (عليه السلام) تفتح هذا الخير والبركة، فهناك شرط في هذه القضية هو الأسباب والمسبّبات، إذ لكل شيء سبب، وكل مسبب وراءه سبب، فإذا أراد الإنسان أن يفتح أبواب الخير عبر سلوك الأسباب التي تؤدي إليها. فعنه (عليه السلام): (لَا تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِيحِهِ).
إن البركة كلمة قيمة في الخطاب الإسلامي، فهي لا تشمل جميع الخيرات فقط، وإنما هي النمو المتواصل للخيرات، سواء خير عقلي أو فكري أو أخلاقي أو مادي، كما يحدث في نمو النبتة، فهي الأساس والجذر الثابت في الأرض لكنها تنمو باستمرار، كذلك بركات الحياة هي نمو متواصل وتنمية متواصلة حتى يستطيع الإنسان أن يستفيد من الخيرات لكي يتقدم إلى الأمام.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَلَو أنّ الأمَّة منذ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّه اتّبعُوني وأطاعُوني لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهِم رَغَداً الى يَومِ القِيامة).
لقد تناولنا هذا المعنى في مقالات سابقة حول مفهوم (وطاعتنا نظاما للملة) الذي ورد في الخطبة الفدكية للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والطاعة تعني بأن الإنسان يستخدم عقله وفكره في اتباع القائد السليم الصحيح فيطيعه، والإمام المعصوم طاعته واجبة عقليا، فيمكن نفسه من هذا الإمام واتباعه اتباعا حقيقيا بأفعاله وأقواله.
ولو أطاع الناس الإمام علي (عليه السلام) وساروا على منهجه، وتخلوا عن قضايا السلطة والمال والشهوات والاهواء والنزوات التي تجعلهم ينحرفون عن الطريق، (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغدا)، والرغد هو العيش الطيب، والناس حاليا يأكلون لكنهم لا يستمتعون بالطعام، لأنه يعيشون ماديا فقط، ولا يعيشون معنويا، والأكل يكون لذيذا وطيبا حين يكون الإنسان مرتاحا نفسيا وروحيا، ولديه استقرار نفسي وعندما يأكل الطعام يلتذ به التذاذا حقيقيا.
بعض الحكام لديه انجازات مادية كبيرة كأن يشيّدون أبراجا ومولات وسواها، لكن كل هذا ليس له قيمة، لأن الإنسان لم يتطور فكريا وعقليا واخلاقيا، لكي يستطيع أن يتكامل مع الجانب المادي، لذلك يفتقد اللذة الصحيحة، فكلمة رغدا هو التكامل بين المادة والمعنى.
أما حين يعيش الإنسان في حالة مادية، ويملك المليارات لكنه يبقى يعيش في قلق نفسي، ولديه حرص وحب أكبر للدنيا، وبخيل ويخشى من الإنفاق على الآخرين، وسبب هذا هو العيش في الفراغ والقلق النفسي والخوف من ضياع مكتسباته الدنيوية، أما الرغد فهو سعة العيش من الناحيتين المادية والمعنوية، والدنيوية والأخروية.
كيف تتوفر الراحة النفسية والجسدية؟
حين حكم الإمام علي (عليه السلام) توفرت جميع الاحتياجات المادية للناس، ولهذا كانت أفضل فترة في تاريخ البشرية حيث توفرت فيها الراحة النفسية والجسدية، وليس هناك عاطلا واحدا، وكان بيت المال يفرغ بعد توزيع الإمام (عليه السلام) للمال على الناس، فلم يوجد شخص واحد جائع في حكومة الإمام علي (عليه السلام).
لذلك إذا سار العالم على منهج الإمام علي (عليه السلام)، سيرا صحيح وليس سيرا شكليا، فإن الناس جميعا سوف يتنعّمون، ويعيشون عيشا سعيدا، لكن بلادنا اليوم تملك ثروات هائلة، يمكنها أن تُشبع شعوبا كثيرا، لكننا نلاحظ الفقر في كل مكان، فالحكم الموجود لا يعمل بالإنصاف والعدالة، فهناك فساد واستئثار وهدر وتبذير للموارد، وتضييع الاستثمار في تنمية الإنسان وبنائه.
إن منهج الإمام علي (عليه السلام) هو منهج الرغد والسعة في الحياة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) الجن 16. وهي آية شبيهة بالآية السابقة، لأن الماء هو أساس الحياة، وهو الذي يحرك الحياة كلها، لذلك بمجرد حدوث جفاف وعدم سقوط الأمطار تحدث أزمة كبيرة، فلا تفيدك أموالك فهي هذه الحالة.
الماء الغدق أي الوفير والكثير ويغذي الأراضي والناس بالبركات لان الماء هو الطاقة الكبيرة والمورد الأكبر الذي تحتاجه البشرية من أجل أن تعيش عيشة منعمة.
الوصول الى مفاتيح النهضة
من خلال الآية القرآنية (فتحنا عليهم)، هناك تأملات لكي نستطيع ان نصل الى فهم ومعرفة مفاتيح التقدم والنهضة في منهج الامام علي (عليه السلام)، منها:
أولا: إن التقدم عملية بناء عقلاني، قائم على ثلاثة أسس هي: الإيمان، التقوى، الصدق.
هذه الثلاثية هي التي نستطيع أن نعتبرها المنهج الأساسي والاستراتيجي الذي تقوم عليه عملية فتح بركات السماء ومن ثم التغيير والتقدم والنهضة.
(ولو أن أهل القرى أمنوا) بمعنى الإيمان (واتقوا) أي (التقوى)، (ولكن كذبوا) والكذب هنا في مقابل الصدق، وثلاثية (الإيمان التقوى الصدق)، موجودة في آيات قرآنية اخرى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة 119، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) الأحزاب 70.
فالإيمان هو بالنتيجة أساس ارتباط الإنسان مع دينه ومجتمعه ومع المثل والقيم التي يرشد نحوها الدين، والتقوى هي تطبيق عملي لهذا الإيمان، والصدق هو نتيجة تطابق الحقيقة مع الواقع، فالصدق هو الواقع، والكذب هو الواقع المزيف الذي يصنعه الإنسان من خلال انحرافه عن الطريق الذي يوصله إلى الواقع. والصدق يعني أيضا الانسجام مع الواقع الموجود، من ناحية المبدأ والنتيجة.
كيف نقهر الموت؟
وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) الإيمان بقوله: (سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَبِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ...).
الإنسان يستطيع أن يتجاوز الموت، ليس بمعنى أنه لا يموت، ولكن قد يموت ميتة غير صالحة، لكنه عندما يعيش عيشة إيمان وعمل صالح، تكون لميتته نتيجة، فيحرز الدنيا ويصل إلى الآخرة، أي يجمع بين الدنيا والآخرة، فالإيمان هو النور الذي يقود نحو الطريق الواضح والعمل الصالح، وبنيان العلم وبالنتيجة يقهر الإنسان الموت ويكون سعيدا بحصوله على كل شيء في الدنيا من خلال هذا المفتاح الأول وهو الإيمان.
وفي حديث آخر عن الإمام علي (عليه السلام) يقول فيه: (إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتِ اللُّمْظَةُ). واللمظة هو النقطة وهنا تعني النقطة البيضاء.
وهذا يعني أن القلب متنور بالإيمان، ويتراكم فيه الخير والنور من خلال العمل المتواصل الذي يحققه الإيمان، فيصبح القلب سليما منيرا صالحا وغير مريض، على العكس مما لو ارتكب أحدهم ذنبا، فتصبح نقطة سوداء في قلبه. فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن النفاق يبدو لمظة سوداء، فكلما ازداد النفاق عظما ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب).
في بعض الأحيان عندما تحاور الإنسان تلاحظ في وجهه نورا، فترتاح إلى كلامه وإلى محاورته والجلوس معه، هذا الإنسان يوجد في قلبه لمظات عديدة من الإيمان، بحيث أصبح مليئا بالخير، في حين هناك إنسان لا ترتاح لمجالسته، تشعر بالتوتر معه وتشعر أن لديه مشكلة، لأن قلب هذا الإنسان فيه نقاط سوداء متجمعة حتى وإن كان لا يعلم بذلك، هذه النقاط السوداء تؤثر عليه وتجعله غير مريح للآخرين.
كيف تملأ قلبك نورا؟
ونفهم من قول الإمام علي (عليه السلام)، أن الإيمان يجعل في قلبك مشاعر وأحاسيس طيبة، ومن ثم سلوك طيب، من خلال عدم ارتكاب الذنوب والتعامل الحسن مع الناس، بالكلمة الطيبة والعمل الصالح، كل هذا يؤدي إلى حياة مضيئة لأن الإيمان يجعل القلب منيرا، ويمتلئ بالنور، ولكي تملأ قلبك نورا ولا يمتلئ بالظلام يحتاج إلى عمل متواصل، يقوده إلى سلوك جيد، مثلا المشاعر الموجودة لدى الإنسان على نوعين، أما مشاعر إيجابية أو مشاعر سلبية، والقلب هو مصدر المشاعر، فتأتي المشاعر الإيجابية من خلال ما يحمله القلب من اللمظات والنقاط البيضاء التي يحصل عليها من العمل الصالح، وعلى العكس كلما تزداد النقاط السوداء في قلبه يزداد الإنسان سلبية وظلاما تجاه الآخرين.
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ، الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ)، لذا على الإنسان أن يجانب الكذب أي يبتعد عنه لأنه يعارض الإيمان ويتناقض معه، ولا يجتمع الإيمان والكذب، لأن الكذاب بالنتيجة هو منافق، فلا تجد لديه الإيمان لأن الكذب يقوده إلى النفاق.
فالنفاق هو نتيجة للكذب الذي يمارسه الإنسان باستمرار، والصادق تجده ناجيا دائما، ولديه كرامة في حياته، على عكس الكاذب الذي يكون ذليلا ومهانا عند الآخرين، وعند نفسه، لأنه يشعر بعقدة النقص، فالكاذب عندما يكذب يشعر في داخله بأنه كاذب، فتزداد في داخله الهوّة التي تجعله يحتقر نفسه.
كل شيء سيّئ يقوم به الإنسان من الذنوب والمعاصي والكذب والحسد، والبخل والطمع، من الصفات السيئة تجعله يحتقر نفسه، وحين يزداد احتقاره لنفسه تصبح لديه عقدة شعور بالنقص فيصاب بالاغتراب ويتضارب مع واقعه. فالكاذب ذليل، لأنه يقوده إلى النفاق وإلى انحرافات كثيرة، كالحسد.
والصدق هو نجاة وكرامة ومفتاح من مفاتيح التقدم والنهضة، المجتمعات التي يكون فيها الصدق غالبا هي مجتمعات نهضة ومتقدمة في حياتها.
والصادق المؤمن المتقي يكون حجة علينا ويجسد لنا الحياة الحقيقية التي نحتاجها، لذلك إذا أردنا طريق النجاة في حياتنا، علينا أن نسلك طريق هذه الشخصية الفذة العظيمة حيث يلتزم به الآخرون ولو كان في مضامينه، ونحن الذين ندّعي التمسك بمنهجه (عليه السلام) نبقى بعيدين عن تطبيق منهجه حتى ولو كان شكليا.
وللكلام تتمة...