الدولة والتوازن المجتمعي

د. عبد الحسين شعبان

2021-11-15 05:08

تقوم الدولة العصرية على قاعدة المواطنة‮ ‬وهذه تشمل مبادىء الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة‮. ‬ولا‮ ‬يمكن الحديث عن مواطنة دون الحديث عن المواطن أو الشخص الطبيعي‮ ‬المجرد،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يدفع للحديث عن المجتمع المدني‮ ‬والبنية الاجتماعية المتطورة قياساً‮ ‬بالبنية التقليدية،‮ ‬وتمتاز الأولى عن الثانية،‮ ‬في‮ ‬كون المجتمع المدني‮ ‬يقوم على أساس منظمات مدنية طوعية‮ ‬يكون الانتساب إليها وفقاً‮ ‬لاختيارات حرة واعية وهي‮ ‬منظمات‮ ‬غير حكومية وغير إرثية،‮ ‬أي‮ ‬أن العضوية فيها لا تتوارث عن العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو الدين أو‮ ‬غير ذلك،‮ ‬وهي‮ ‬منظمات‮ ‬غير ربحية وهو ما‮ ‬يميّزها عن القطاع الخاص،‮ ‬فضلا عن أنها منظمات حداثية وديمقراطية،‮ ‬أي‮ ‬تمارس الديمقراطية في‮ ‬جميع أعمالها وعلاقاتها الداخلية،‮ ‬بين هيئاتها وأفرادها وبينها وبين محيطها الخارجي‮.‬

كما‮ ‬يفترض فيها قبول التعدّدية والاختلاف والتنوّع في‮ ‬حين أن البنية التقليدية،‮ ‬يمكن أن تشكل مجتمعاً‮ ‬أهلياً‮ ‬عشائرياً‮ ‬وراثياً‮ ‬أو دينياً‮ ‬أو طائفياً‮ ‬أو جهوياً،‮ ‬ينتمي‮ ‬إليه الفرد بصورة أوتوماتيكية وليست طوعية اختيارية‮.‬

وإذا كانت الدولة العصرية قد استقرّت وأصبحت كياناً‮ ‬قائماً‮ ‬ومعترفاً‮ ‬به لا‮ ‬يمكن إلغاؤه،‮ ‬لأنه‮ "‬معطى تاريخي‮" ‬يقوم بوظيفتين أساسيتين هما‮: ‬حفظ وصيانة أرواح وممتلكات المواطنين،‮ ‬وضبط النظام والأمن العام،‮ ‬فإن هذه الدولة لا‮ ‬يمكنها أن تستقيم دون وجود مجتمع مدني‮ ‬حر ومستقل وفاعل‮ ‬يسهم في‮ ‬الرصد والمراقبة والشراكة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وان وظيفتها اتسعت وتشعبت مدنياً‮ ‬وسياسياً‮ ‬واجتماعياً‮ ‬واقتصادياً‮ ‬وثقافياً،‮ ‬وفيما بعد تفرّعت عنها ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يطلق عليه‮ "‬دولة الحماية‮" ‬أو‮ "‬دولة الرعاية‮" ‬أو"دولة الرفاه‮" ‬بتشعب وتنوّع وتوسع مهمات وواجبات ووظائف الدولة،‮ ‬تلك التي‮ ‬يمكن تطويرها من خلال الدور الذي‮ ‬يقوم به المجتمع المدني‮ ‬لتعديل التوازن الاجتماعي‮ ‬مع الدولة،‮ ‬عبر الضغوط المتواصلة وتوازن القوى للجماعات والفئات الاجتماعية،‮ ‬التي‮ ‬يمكن أن تسهم في‮ ‬تأمين احترام حقوق الإنسان وحرياته المتطورة والمتوالدة‮.‬

وقد تمكّنت الدولة العصرية من تحقيق عدد من المنجزات السياسية‮ (‬التعايش والصراع السلمي‮ ‬بين الطبقات والفئات والمراتب الاجتماعية،‮ ‬ولاسيما في‮ ‬ظل اتخاذ الصراع الطبقي‮ ‬إشكالاً‮ ‬جديدة‮) ‬والاجتماعية والاقتصادية‮ (‬اكتساب الصراع بُعداً‮ ‬تنافسياً‮ ‬بين الفئات والتيارات الاجتماعية،‮ ‬لاسيّما من خلال الخدمات والضمانات والبرامج والاقتصادية وارتفاع مستوى الأجور وتحسين شروط العمل واستثمار أوقات الفراغ‮ ‬والراحة‮) ‬والثقافية‮ (‬بالاستفادة من منجزات الثقافة والفن والأدب والعمران والجمال وغيرها‮).‬

وقد خفّت حدّة النزاعات القومية والإثنية والدينية في‮ ‬الدول المتقدمة،‮ ‬وأصبحت المواطنة قيمة عليا،‮ ‬تقوم عليها القاعدة الدستورية للدولة وهي‮ ‬العنصر الناظم للكيان الاجتماعي،‮ ‬وهو ما زالت الدول النامية تفتقر إليه ومنها في‮ ‬عالمنا العربي‮ ‬والإسلامي،‮ ‬لاسيما وأن بنيتها الدستورية والقانونية،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن أساسها الاجتماعي‮ ‬ضعيفاً،‮ ‬وكذلك ضعف تأثير المجتمع المدني‮.‬

ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً‮ ‬واجتماعياً‮ ‬بعد تحريمها قانونياً،‮ ‬ينبغي‮ ‬حظر العمل والنشاط السياسي،‮ ‬وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك،‮ ‬إذا كانت تسعى لنشر الطائفية أو المذهبية‮ (‬التمييز الطائفي‮ ‬أو المذهبي‮)‬،‮ ‬بصورة علنية أو مستترة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬بحصر الانتساب إلى ذلك الحزب أو المنظمة أو الجمعية أو تلك،‮ ‬بفئة معينة،‮ ‬بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها.

إن بناء دولة مدنية دستورية عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة‮ (‬أي‮ ‬دولة تستند إلى حكم القانون‮) ‬يقتضي‮ ‬وضع حدّ‮ ‬للطائفية السياسية تمهيداً‮ ‬لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها،‮ ‬وهي‮ ‬الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهويّة الجامعة‮ ‬– المانعة وحسب زياد الرحباني‮ "‬يا زمان الطائفية‮.. ‬خليّ‮ ‬إيدك على الهويّة‮".‬

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال ق لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عدل اللّه تعالىدور مهارات إدارة الأموال في التنمية المستدامةهل نجحت الولايات المتحدة الأميركية في كبح التصعيد بين إيران وإسرائيل؟الحاجة الماسة للوعي المروريصمتُ الباطن بوصفه ثمرةً لصمت اللسان