القيادة وفيروس عدم الثقة
محمد علي جواد تقي
2021-11-07 01:46
أسبابٌ كثيرة تُبحث في عدم نجاح الثورات أو حركات الإصلاح الاجتماعي والسياسي، في مقدمتها؛ مسائل القيادة، وفي نقطة اكثر دقّة؛ أزمة الثقة بين القيادة في قمة الهرم، والشريحة المثقفة (القيادة الوسطى) في الهرم القيادي، في امكانية تطبيق الافكار، وحقيقة الاهداف والغايات، واختيار الآليات والاساليب، واسباب اخرى تزرع هذه الحالة السلبية في النفوس، وبما أن حديث النفس هذا لن يكون بصوت عال، إنما همسات بين هذا وذاك، فان الضحية تكون الشعوب عندما تُفاجأ بالخيانات، او الانسحابات، او التحولات نحو خيارات بعيدة عن طموحات الشعب والاهداف المرسومة والمرجوة.
شعارات مثل؛ الحرية، والعدالة، والمساواة، والكرامة الانسانية تحفز النفوس للتفاعل والاستجابة على أمل تحقيقها والخلاص من حياة الذل والحرمان، واحياناً يكون الإيحاء بان الطريق لتحقيق هذه الشعارات ليس بالطويل، تكفي تظاهرات واحتجاجات شجاعة في الشوارع، وتحدي التهديد بالاعتقال والتعذيب وحتى القتل لانتزاع الشرعية من الحاكم، ثم تعبئة الرأي العام وتعميم المطالب على أكبر عدد من الجماهير فينهار النظام، او يستجيب للإصلاح والتغيير، كما حصل في تجربة "الربيع العربي".
وفي أحيان اخرى يكون الطريق أطول بعض الشيء لان الشعارات هنا تأخذ بعداً عقدياً، فهي تحتاج الى الايمان بالتضحية من اجل الآخرين، والايثار، ومنظومة اخلاقية متكاملة تجعل الحرية والعدل والمساواة مطلباً ليس مرحلياً وآنياً، بقدر ما يكون مسيرة متواصلة مع الزمن، فإن لم يتحسسها الآباء وينعموا بها، فان الابناء او الاحفاد سيكونوا هم الوارثين، وهو ما يعبّر عنه علماء ومفكرون بـ "المطالب الحضارية".
في الحالة الاولى، تكون الصدمة أقلّ كون آليات التغيير واضحة للناس، فهي سياسية بالدرجة الاولى، تأتي على يد احزاب سياسية تقود الحراك الجماهيري في الشارع، ثم يكون الموعد "السياسي" في القصر الجمهوري، وفي أحسن الاحوال؛ "قبة البرلمان" وينتهي كل شيء، ولسان حال الناس: "لا عتب عليهم"!
أما في الحالة الثانية يختلف الامر تماماً، فالصدمة أشد وأمرّ، لأن الآليات يفترض أنها طاهرة ونظيفة، وربما تكتسي نوعاً من القدسية، وأنها تفضي الى تطبيق أحكام وقوانين القرآن والاسلام، وتسعى لإحياء سيرة النبي الأكرم.
إذن؛ فلماذا يجد فيروس عدم الثقة ثغرته في هذا الوسط الطاهر والمقدس؟!
سوء الفهم وهشاشة الإيمان
لمن يتأمل آيات الذكر الحكيم فيما يتعلق بتجارب الانبياء والمرسلين، نجد ان القرآن الكريم سبق الانسان في نبذ الظلم والانحراف والنفاق والازدواجية وكل ما من شأنه تسميم الحياة وجعلها جحيماً يسبق ما موجود في الآخرة، لذا جاءت الدعوات للحذر من مغبة السقوط في هذه المنزلقات والتمسك بالصراط المستقيم، وبقيم السماء وأحكامه وقوانينه المطابقة تماماً لمصلحة الانسان.
وعندما تختلف الرؤية، ومن ثمّ الفهم لهذه الإرادة السماوية يبدأ الانشقاق تدريجياً وبشكل غير محسوس، فاحياناً تكون المشكلة في القائد، وطريقة تفكيره، وتفسيره وقراءته للنصوص الدينية وما يدور حوله، مما ينتج عنها تشكيك من المحيطين به، وفيما بعد يكون التخلّي، أو الانشطار، واحياناً اخرى تكون المشكلة في الشريحة المثقفة في عجزها عن فهم واستيعاب ما يطرحه القائد من افكار و رؤى ربما ذات مديات بعيدة، مما يوهم البعض أنها مثالية! أو انها غير واقعية ومستحيلة، والمضي في هذا الطريق مضيعة للوقت وللجهود!
وكما تلقي صفات وأحوال القائد بظلالها على مجمل المسيرة، فان الطبقة الثانية في الهرم القيادي هي الأخرى لها نفس الحال، فهي عبارة عن ذوات تمثل مستويات مختلفة من الوعي، والثقافة، والتقاليد، والأذواق، فهم ليسوا على نسق واحد، وهو أمر طبيعي تماماً، ومن الملاحظ جداً في تجارب عديدة بالعالم الاسقاطات الذاتية على مسار الحركة والعمل، حتى في أعلى مراتبه؛ الجهاد، فهناك من يجر خلفه طباع الكِبر، والغرور، وحب المال والامتيازات والشهرة، وهو يخوض غمار الجهاد، والعمل "في سبيل الله"، علماً أن الى جانب هؤلاء؛ المخلصون، والنزيهون، ومن يغلّبون القيم والمبادئ على أية مصلحة شخصية مهما كلف الأمر.
من هنا جاءت التوصية بأن تكون التربية من أولى مهام حركة الإصلاح والتغيير، فهي خطوة متقدمة في هذا المجال لضمان نجاح كل الاعمال وتحقيق الاهداف بدقة متناهية، وكان المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- من نوادر رواد النهضة في الأمة في القرن الماضي، دعا الى "زهد القادة" في كتابه القيّم؛ "السبيل الى إنهاض المسلمين"، الذي يُعد بحق دستور متكامل للعمل الحركي والتنظيمي ضمن الأطر والموازين الاسلامية، يضمن مصالح العباد والبلاد، وفي "هذا الاساس من أخلاقيات الحركة الاسلامية"، يضع المرجع الراحل يده على ورم نفسي قديم سببه حب المال المغروز في النفوس، والذي شكل العقبة – من جملة عقبات- في طريق الانبياء والمرسلين لهداية الناس الى طريق الحق والفضيلة، لذا يربط بين هذه الخصلة الاخلاقية وبين نجاح الحركة في تحقيق اهدافها، من خلال اعتماد مفردة دينية لها عمقها في العقيدة؛ الزهد، "فان الزاهد يوجب أولاً؛ كثرة العمل، وثانياً؛ التفاف الناس، فان الناس جبلوا على الالتفاف حول من لا يرغب في المادة، وبالعكس من ذلك الذين يرغبون في الماديات فان الناس ينفضّون من حولهم".
إنما المشكلة تنمو وتظهر بقوة خلال المسيرة لدى شعور البعض بصعوبة تجاوز الحاجات المادية بشكل عام، ليصل الى جوهر العمل باتجاه الاهداف المرسومة وهي؛ نشر الثقافة الصحيحة، ورفع مستوى الوعي لدى ابناء الأمة، وتعزيز العقيدة والايمان والاخلاق في النفوس من خلال الإجابة على كل التساؤلات في عالم متطور بشكل مستمر، بل والأهم من كل هذا؛ تعزيز المواقع في مسرح الاحداث مع وجود متنافسين أشداء في حرب فكرية مكشوفة ومعلنة تتطلب أقوى الأدوات وأسرع الاجراءات.
البعض يتصور أن عليه توفير السكن الجيد، والسيارة، والراتب المجزي لتغطية تكاليف المعيشة قبل أن يتقدم خطوة واحدة صوب تلكم الاستحقاقات، فهي ربما تشكل بالنسبة له حافزاً قوياً! كما لو أنه الرجل الأول في طريق الدعوة الى الحق وقيم السماء، ولم يكن هنالك رجال، وحتى نساء على طول التاريخ خاضوا المسيرة، وقاموا بأعمال كبيرة سجلوا فيها مواقف مشرفة للتاريخ والاجيال بتضحياتهم، مع أنهم كانوا يعيشون بشكل طبيعي كما يعيش الناس، يأكلون ويشربون، وينامون، ويتزوجون.
عندما نسمع أو حتى نشكو انقطاعنا عن أمجاد الماضي، فالسبب في أنها تحولت الى كتب مرصوفة في المكتبات، نتصفحها بين الفينة والاخرى لنروي لابنائنا ما كنا نمتلكه في السابق! كما يسرد الاجداد الحكايات المعبّرة للاطفال لتمهيد الاجواء للنوم! بينما يكتفي البعض الآخر بتعليق صور القادة على الجدران، والتفاخر بمؤلفاتهم وتراثهم ومواقفهم.
طبعاً؛ هذه ليست النهاية الحتمية المفروضة، بل تبقى المسؤولية على عاتق المثقفين والمفكرين من طليعة المجتمع بأن تعود الى التراث وتنظر في التجارب؛ الفاشلة منها والناجحة، ثم تطوير الافكار والرؤى بعد فهم كامل يفضي الى إيمان عميق وصادق يبعث الروح في المسيرة من جديد، بما يوحي للناس جميعاً بأن دماء الشهداء ما تزال ساخنة، وقادرة على تغيير الواقع نحو الاهداف والغايات السامية التي ضحوا من اجلها، ومن أجلها يواصل الناس تضحياتهم بالصبر والاستقامة والتحدي.