حركة طالبان وقاتل مدير بلدية كربلاء
الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
2021-08-17 05:14
في هذا المقال سنعرض حدثين غريبين، قد يظن القارئ لأول وهلة عدم وجود ترابط بينهما، ولكن في الحقيقة يوجد بينهما ترابط وثيق للغاية، وهذين الحدثين هما:
الحدث الأول: في يوم العاشر من شهر آب –أغسطس الجاري قام المهندس عبير سليم الخفاجي مدير بلدية كربلاء بقيادة مفرزة أمنية وعدد من عمال وآليات البلدية والتوجه الى مجموعة أبنية تم انشائها بطريقة غير قانونية على قطعة أرض عائدة للبلدية من قبل شخص يدعى حسين جواد عبد الأمير، وذلك بعد أشهر من الدعاوى القضائية بين الطرفين، والتي تم حسمها لمصلحة البلدية، وعندما بدأت عملية إزالة الأبنية غير القانونية خرج المدعو حسين امام انظار العشرات من المدنيين وعمال البلدية والمنتسبين الأمنيين حاملا مسدسه الشخصي ومتحركا بثقة وثبات وتصميم نحو مدير البلدية، فاطلق عليه ثلاثة رصاصات مميتة استقرت في صدره، ليقف بعد ذلك على الضحية، وقبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة، مخاطبا اياها بغضب ثم تحرك مبتعدا عن مكان جريمته.
ان ما أثار صدمة وذهول المتابعين ليس حصول الجريمة، وانما طريقة حصولها اذ فر بطريقة مثيرة للسخرية رجال الامن، الأفضل تسليحا والأكثر عددا، من مواجهة قاتل واحد لا يحمل سوى مسدسه الشخصي فتركوه وجها الى وجه امام الضحية الاعزل لينفذ جريمته، والانسحاب بهدوء دون القبض عليه في ساحة الجريمة.
الحدث الثاني: ما ظهرت عليه حركة طالبان خلال الأيام الماضية، اذ على الرغم من ان الحكومة الأفغانية تمتلك جيشا مدربا يبلغ تعداده اكثر من ثلاثة اضعاف مقاتلي الحركة، فضلا على تسليحه المتقدم، وسيطرته المفترضة على معظم أراضي بلاده، والنظر الدولي للحكومة كحكومة شرعية مدعومة من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الامريكية، وادارتها لموارد الدولة في اطار مؤسسات حديثة اشرف الغرب على تطويرها لعشرين سنة، الا ان كل هذه الامتيازات وعناصر القوة لم تقلب الميزان لصالح الحكومة، وانما بدأت الولايات الأفغانية الـ 34 تتساقط بيد طالبان كتساقط احجار الدومينو، حتى اربك سقوطها السريع توقعات الأجهزة الاستخبارية الامريكية التي كانت تتوقع حدوثه في ثمانية عشر شهرا بعد الانسحاب الأمريكي نهاية آب –أغسطس الجاري الا انه حصل في أيام معدودة.
والمثير أكثر في المشهد الافغاني، ليس فقط سيطرة طالبان السريعة على الدولة، وانما استيلائها على مخازن أسلحة الجيش الافغاني بعد استسلام عناصره او هربهم مما زاد من قوة الحركة، الامر الذي سيساعدها قطعا على التحول من حركة مقاتلة الى حركة تقود دولة وتؤسس جيشا محاربا ستكون له تداعياته خلال الأشهر والسنوات القادمة ليس على أفغانستان وحدها، بل وعلى محيطها الإقليمي والدولي.
ان الرابط المهم بين هذين الحدثين هو عجز القوى الأمنية المدججة بالسلاح امام عدو يتخلف عنها كثيرا في العدة والعدد، فمجرم كربلاء، وحركة طالبان واجها القوى المفترضة للدولة وانتصرا عليها في اللحظة الحاسمة، قد تكون صورة النصر مختلفة كثيرا في الحدثين الا انه يبقى انتصارا؛ فعندما يردي المجرم ضحيته امام انظار الدولة، وعندما تسقط الدولة بيد حركة مسلحة تريد الاستيلاء عليها فهذا انتصار لهما بلا شك، ولكن لماذا حدث هذا الانتصار؟
هذا التساؤل يستدعي الإجابة عنه الاستعانة بالأدبيات القديمة في المجال الاستراتيجي والعسكري، تلك الادبيات التي تحدثت عن دور المعنويات في شحذ الهمم، وتأثيرها على اندفاع الانسان للقيام بالفعل المؤثر عندما يواجه خصمه، حتى قيل: ان المعنويات في ساحة المعركة تساوي ثلاثة اضعاف قوة الخصم المادية؛ فالقوة الحقيقية ليست في السلاح الذي حمله المجرم في كربلاء، وتحمله حركة طالبان، وانما في اليد التي تقبض عليه، وتكون مستعدة لاستعماله في الدفاع عما تؤمن به.
ان القوى الأمنية في العراق وأفغانستان تملك فعلا عددا كبيرا من الافراد، ولديها أسلحة حديثة للغاية، ولكنها تفتقر الى المعنويات اللازمة للدفاع عن الدولة امام خصومها سواء كانوا مجرمين عاديين عازمين على ارتكاب الجريمة او حركات وقوى مسلحة تروم اسقاطها او اضعاف هيبتها والاستيلاء على خيراتها.
هذا الضعف في المعنويات يدل على وجود أزمة ايمان تعاني منه قوى الدولة سواء كان ايمانا بمؤسساتها او ايمانا بفكرة وجودها، وضعف الايمان هذا لم يتولد من فراغ، فكلا الدولتين شكلت مؤسساتهما الأمنية والدستورية امتدادا لسلطة محتلة لم تحسن إدارة ملف الاحتلال سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما انهما غارقتان في الفساد حد النخاع، حتى بات فسادهما موضوعا للتندر داخلهما وخارجهما، وتواجهان تناميا مضطردا في معدلات الصراع السياسي المبني على ولاءات ضيقة مزقت النسيج الاجتماعي واضعفت هويته الوطنية الجامعة، وتعانيان من تضخم كارثي في معدلات الفقر والبطالة والجريمة والتدخل الخارجي، وغياب العدالة في توزيع الدخل والثروة والفرص بين المواطنين، فضلا على فقدان الثقة شبه التام بالزعماء السياسيين وتحميلهم مسؤولية تردي الأوضاع مقابل إصرار هؤلاء الزعماء على البقاء في السلطة وعدم استعدادهم لتقبل التغيير، بصرف النظر عن طبيعته وشكله.
لقد امتلكت مؤسسات الدولة في العراق وأفغانستان مشروعيتهما القانونية، ولكنهما تفتقدان بشكل كبير الى شرعيتهما الشعبية، وهذا يجعل العاملين فيها مجرد موظفين يقبضون الرواتب في نهاية الشهر فيما يفتقرون الى الحماسة والحافز، لتطويرها او الدفاع عنها بوجه التهديدات، مهما كان شكلها. وما يزيد الطين بلة هو افتقار هذه المؤسسات والعاملين فيها –أيضا- الى الدعم الشعبي؛ بسبب ما اشرنا اليه أعلاه من استفحال ازمة الثقة من جانب، ولعدم كفاءتها في تقديم الخدمات للناس من جانب آخر، فتبدو في النهاية مؤسسات فاسدة مترهلة داخليا، ومقطوعة الجذور والاحتضان اجتماعيا، لذا تكون سهلة الكسر والتجاوز عليها وعلى العاملين فيها، وسريعة الانهزام والانهيار امام من يمتلك الحماسة والتصميم من اعدائها، ففي النهاية لا يكون الانسان مستعدا للتضحية بحياته من اجل مؤسسات فاسدة لدولة لا يؤمن بها.
هذه الصورة التي بدت فيها الدولة في العراق وأفغانستان لا تقتصر عليهما فقط، بل ستتكرر في كثير من الدول التي من هذه الشاكلة، ولكن ربما تكون الدولة في أفغانستان في طريقها الى أخذ مسار خاص بها لا يمكن التكهن به الان، وستحكمه طريقة طالبان في إدارتها وتعاملهم مع خصومهم في الداخل والخارج، الا ان الدولة في العراق لا زالت تترنح وهي مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، ولا يمكنها النجاة من المخاطر المحدقة بها ما لم توقف عجلة تدهورها وانحدارها، فالدولة التي ينجح مجرم واحد من هزيمتها امام انظارها تكون الخشية من انهزامها امام أعداء أشد قسوة وضراوة متوقعة في أي وقت، وما حدث في سنة 2014 لا زال درسا بليغا عالقا في الاذهان بحاجة الى تأمل عميق قبل تكرار الكارثة.