الفرد بوصفه قيمة
احمد شحيمط
2021-06-30 08:15
الفرد كائن بيولوجي مزود بالغرائز والرغبات، وكل ما هو أصيل وطبيعي لا دخل للفاعلية الإنسانية في تكوينه، وفي نفس الوقت يعتبر الفرد جزء من الكل، نتاج لشروط معقدة، بالغة التنوع وشديد التعقيد، بوصفه ذات تمتلك قدرات ومقومات، ومجموعة من السمات والخصائص النفسية والاجتماعية والأخلاقية، قيمته في ذاته ومع الآخرين، محاط بالأشياء والكائنات الأخرى.
يعيش في وسط معقد ومركب، يختار العزلة والانزواء أحيانا كما يفرض عليه المجتمع التواجد ضمن الجماعة للغايات القصوى، منها التعاون والتضامن، وتحصيل المنافع، خوفه يزداد من العدم والسقوط في اللاوعي الجمعي، وبالتالي يفقد ذاته عندما يتم تذويبها في المجتمع، وينغمس الفرد كليا في التقاليد دون الاحتفاظ بمسافة معينة عن الآخرين.
الكائن المتفرد والمتميز في أقواله وأفعاله، الجزء الذي لا يتجزأ، ولا يمكن فهمه إلا كبنية شاملة ومركبة، غائب وحاضر في سياقات متنوعة، مفهوم قابل للتطور والتجديد، وذلك عندما يتم ربطه بالعصر وأنماط الإنتاج، قدرته على التحرر والشعور بالحرية ممكنة لأجل التجاوز للصعوبات والحتميات، يعتبر الفرد في سياق الفلسفة اليونانية قيمة في ذاته خصوصا عندما تبلورت فلسفة تعنى بالإنسان باعتباره قيمة عليا ومقياس للأشياء كما في الفكر السفسطائي، حيث اقترنت الحقيقة بالفرد، والمعرفة بالنتائج العملية من خلال العناية بالإنسان كأسمى الموجودات.
فالفرد بما هو إنسان حسب الرواقية هو الوحيد القادر على تحقيق السعادة، وليتحقق هذا المطلب يجب أن يكون فاضلا، ووسيلته في ذلك هو معرفة الطبيعة وإتباع قوانينها(1). الفرد هنا محدد بالأهداف والغايات التي يسعى إليها، وهي تحصيل السعادة والتجرد من الأهواء والغرائز، جانب آخر من الأفلاطونية لكنها ممزوجة بالدعوة للتفلسف في أفق إسعاد الفرد الحكيم، الذي يتجرد من كل العوائق التي تمنع الارتقاء نحو بلوغ الكمال، بمعنى آخر السيطرة على الذات من خلال تهذيب الانفعالات، وكل القوى المضادة للعقل، ضرورة الفلسفة للشباب والشيوخ معا، ضرورة تمليها الرغبة الملحة في المعرفة والاستقامة.
الفلسفة كما يجدها أبيقور تمرين للاهتمام بالذات، نوع من المتعة الفكرية حسب أرسطو، لكن ما يعاب على الفكر اليوناني تقسيم الناس بين الأحرار والعبيد، الفرد هنا غائب عند عمالقة هذا الفكر بدعوى أن للمجتمع أسبقية على الفرد، من منطلق أن الكل أكبر من الجزء، والعناية بالمجتمع الكبير أعلى درجة من العناية بالفرد، فكانت الهواجس هنا تتعلق ببناء الدولة المدينة، من خلال الالتزام بالقوانين وروح الثقافة، قوة التحكم في الذات تمنح الفرد قيمة فكرية وأخلاقية، أما مشاركته في الحياة الاجتماعية والسياسية فإنها تضفي على الفرد قيمة بوصفه مواطنا، ومشاركا في الحياة المدنية، وبناء الدولة والمجتمع معا، في المجتمع اليوناني لم يكن للفرد إلا الخضوع للدولة المدينة، حريته مفيدة في خلق مجتمع الأحرار، وفكره يرتقي حتى يستجيب لما يعتبره الفلاسفة حضارة وحكمة، هكذا شرع أفلاطون وأرسطو بتقسيم المجتمع تقسيما تراتبيا، وفي هذا التقسيم لا يوجد حراك اجتماعي، ولا وجود للفردية إلا كجزء من كل، كعالم المثل الذي يحتوي كل الأجزاء(2).
ولم يتبلور مفهوم الفرد في العصر الروماني لأن الحكم بقي مطلقا، والسياسة كانت تميل نحو ثقافة الجماعة، تبلور الفرد نوعا ما في سياق الالتزام بالقانون، وفي الجانب الديني من خلال مسؤوليته أمام الله، النزعة الفردانية هنا بدأت بالتشكل في عصر النهضة، ومن خلال الإصلاح الديني، ورفض وصايا الكنيسة على الإنسان، يعني الدعوة للتحرر من تقاليدها وتدخلها في الحياة العامة والخاصة للأفراد، ونقد الضغوط التي يمارسها المجتمع على الأفراد.
معالم الفردية تبدأ مع ديكارت في الظهور لأول مرة في الإطار الفلسفي، إذ كان أول من نقلها من المجال الديني والفني إلى المجال الفلسفي، وقد كان للفلسفة الفردية صراع دائم مع الفلسفات التي أهملت الذات(3)، لنقل بصريح العبارة أن الذات في تفردها وتميزها واستقلاليتها عن باقي الذوات لم تبدأ بالفعل إلا في فلسفة الذات مع ديكارت، النزعة الفردية هنا ضد الغلو الخاص بالنزعة الموضوعية، ضد اختزال المعرفة في الطبيعة، لكن مرحلة التأسيس لهذا النوع من الفلسفة كانت تمليه الحاجة نحو إعادة النظر في التراث الفلسفي اليوناني، وضد الفلسفة المدرسية التي جعلت من التوليف والتوافق بين الدين والفلسفة أساس ومنطلق كل تفكير، الفرد هنا يصبح مصدر القيم الأخلاقية، قيمة في ذاته، يسمو على جميع الكائنات بفضل ملكة العقل، وبفضل الفردانية الأخلاقية كما تبلور ذلك في الفكر الفلسفي الحديث، الذات الفردية صانعة للقانون الأخلاقي المنبثق من الإرادة المشرعة، ومن الحرية الفردية، ومن كل القناعات الذاتية.
صورة جديدة للذاتية انطلقت من عصر النهضة، وتبلورت أكثر في عصر الأنوار، عصر الحرية وإعمال العقل، وتحرير الفرد من سطوة الكنيسة، وأعباء التقاليد. نزعة إنسانية تشكلت في غمار الأهداف المعلنة من قبل الفلاسفة والأدباء، والتي نادت بالتحرير للفرد من كل الوصايا والقيود، أساس الحياة إرادة الأفراد، ومنطق الفعل الحفاظ على الفرد وصيانة حقوقه ضد كل أشكال القهر والتعسف، يولد الإنسان حرا، ويوجد الإنسان مقيدا في كل مكان، وهو يظن أنه سيد الآخرين، وهو يظل عبدا أكثر منهم(4)، تلك قناعة تولدت في سياق البحث عن المجتمع الجديد الذي يمنح للفرد قيمة عليا، ويعلي كذلك من الفردانية كنمط وأسلوب جديد في الاختيار، الفرد المطلوب هنا غاية وليس وسيلة، وحدة متكاملة في إطار المجموع الكلي دون أن ينزع المجتمع لإخضاعه بالقسر والإكراه، ودون أن تنال من حريته الجماعة.
يولد الإنسان وفي نفسه نزعة ذاتية نحو التحرر والحرية، أما المدنية التي كان ينشدها بعض الفلاسفة من أمثال جون جاك روسو فسرعان ما انتهت نحو القيود الخاصة بالقوانين الوضعية، نالت القوانين من الفرد الكثير وربما يكون روسو بالغ في صورة المجتمع المنشود، فعاد هذا الإنسان من جديد يحن للعودة إلى حالة الطبيعة، الفردانية في عصر النهضة كذلك جعلت من الفرد نواة المجتمع، رفعت من قيمته لأنه صانع للقانون العام، مشرع للقوانين الوضعية، ومؤسس للمجتمع المدني وللدولة الحديثة، القوة المؤسسة، فالاستقلال الذاتي والقدرة على الفعل يعني إمكانية التغيير، فجاءت الأفعال بالنتائج الحسنة في عملية بناء الفرد فكريا وأخلاقيا وسياسيا، تبلورت أفكار جديدة، فالوجود الفردي هنا غير منفصل عن الوجود الكلي، أصبحت القيم تميل للوحدة بين الناس على أساس الحق والقانون.
الانقسام الذي كان يميز الحضارة اليونانية والرومانية معا بدأ يتلاشى ويختفي تدريجيا نحو الوحدة بين السيد والعبد، والجدلية الأزلية التي طبعت الصراع التاريخي في تحليل الفيلسوف هيجل أصبحت تتبلور في نماذج أخرى للصراع داخل المجتمع الرأسمالي الجديد من خلال الانقسام الطبقي والتنافس السياسي، بداية الليبرالية كفكر وفلسفة قائمة على فكرتين أساسيتين وهما: الحرية والفردية، هنا تتمثل معالم الفرد في الاستقلالية والحرية عند القول والتعبير، وإبداء المواقف، وما على الدولة إلا حماية وصيانة هذه الحقوق، والعمل على تطويرها وتوسيع هامشها، فالانتصار لحق الفرد لا يعني الخروج عن سياق الجماعة والتنصل من قيمها، لكن الروابط التقليدية كالانتماء للقبيلة والعشيرة والعائلة بالفعل تراجعت لصالح الأمة والجمهور، أضحت الحرية الفردية علامة للعصور الحديثة، النزعة الفردية هي التأكيد الذاتي للذات الفردية باعتبارها ذاتا فردية وبغض النظر عن مشاركتها في عالمها، والفردية بهذا التصور هي المقابل للنزعة الجمعية(5)، فكرة جديدة ترتقي بالفرد فكريا ووحدانيا، وتدل على النضج في المواقف.
ليست الفردانية هي الأنانية أو الحب الجارف للذات بقدر ما هي فلسفة وأسلوب في الحياة تنفلت من الرقابة والتنميط، يحاول الفرد جاهدا الميل نحو الاستقلال بذاته، والنأي عن سطوة الجماعة، يعني السير وفق خطى الذات بعيدا عن المجتمع الكبير في قدرته الهائلة على القهر والإكراه، شجاعة الفرد في تحسين ذاته ومجابهة القوانين المكبلة لحريته، القرن التاسع عشر يعتبر بمثابة قرن الفردانية، لاحت في الأفق أفكارا جديدا جاءت من خلال هيمنة المجتمع الصناعي الرأسمالي، وظهور مواقف وتيارات تدعو إلى تحرير الفرد من الهيمنة الرأسمالية، ومن عملية الاستلاب والاغتراب، الفرد كما يزعم كثيرا ماركس والماركسيين لا يعيش الحرية الحقيقية، لأنها ببساطة حرية مزيفة في عالم المؤسسات الرأسمالية، والقوانين الوضعية الخاصة بالطبقة البورجوازية، لا بديل عن المجتمع الاشتراكي والملكية العامة، والوعي الطبقي لدى العمال السبيل الوحيد للقضاء على الطبقية بثورة عمالية، عكس هذا التيار لا يرغب رواد الفكر الليبرالي بذلك ويعتبرون العقل الجمعي استبدادي، والمجتمع الاشتراكي المهيمن تهديد صريح للحرية الفردية ومبدأ المساواة، لان الشعوب الديمقراطية تميل بفطرتها إلى الحرية.
وغياب الفردانية يعني التقليل من مشروع الحداثة، هذا الرهان بدأ من فكرة الفرد بوصفه قيمة عليا، المؤسس الفعلي للمجتمع والدولة المدنية، ذات مبدعة وفاعلة في تبديل المجتمعات، من الاستبداد والسلطة المطلقة نحو الحرية والتحرر، الفرد مبدع للقيم وثائر على الجمهور والتقاليد الراسخة، شبه نيتشه المجتمع بالروح الثقيل، أما الفرد فأشبه بالطير في خفته، فالفرد سريع التحول والفهم والحركة والتمرد، أما المجتمع فبطيء التفكير وتقليدي(6)، تمرد الفيلسوف على القيم البالية والجمهور لأسباب يمكن تلمسها في العدمية السائدة التي تعرقل مسار الفرد في التطور والارتقاء، السقوط في العالم بالمعنى الوجودي يعني أن تتحول الذات المبدعة والفعالة إلى ذات تتحكم فيها باقي الذوات، وهنا لا يتحقق الوجود الأصيل الذي يجعل من الفرد سيد ذاته وصاحب مواقفه، يعني إلغاء الذات والسقوط في اللاوعي الجمعي.
الفرد جوهر الحداثة الغربية، طاقة حرة ومتجددة، لا تعني الفردانية الانعزال والتمركز على الذات، لكنها بناء متطور للفرد، نوع من الاستقلال، وقدرة في اتخاذ القرار المناسب وفق الإمكانيات المتاحة، الفرد المتفرد عن الجماعة، الكائن الذي يعيش وسط المجتمع بدون سلاسل وقيود التقاليد غير ما يراه مناسبا في ذلك، لا يقاد بالسلاسل لكنه يعبر عن إمكانيات لا محدودة من العطاء، وهو في ذلك يسعى إلى تعزيز منطق الذاتية، ولا يعني الوجود الحقيقي للفرد دن سواه، هذا نوع من الأنانية التي لا تؤسس للروح الفردية، دوره أساسي في تكوين الجماعة، صلابة مواقفه دليل آخر على هامش واسع من الحرية والاختيار، استقلالية الفرد تلك رؤية الفكر الليبرالي، والعدمية تعني انحطاط الشخصية الإنسانية، ومتاهة الفرد في وسط المجموع الذي لا يعبر عن تطلعاته وأحلامه، الفرد هنا بوصفه مواطنا يتمتع بكامل الحقوق الطبيعية والمدنية، ويمتثل للواجب، غاية المجتمع رعاية الفرد وصيانة كرامته.
أما في واقعنا العربي فالفردية تعادل الأنانية والانعزال، ضد القيم الجماعية وروح الأمة، يذوب الفرد في الوسط الاجتماعي، يعبر عن هواجسه ضمن الوحدة، يتكلم بصيغة الجمع، ويتقبل المعايير والتقاليد العامة، وغالبا ما يكون الاختيار جماعيا، ومن يخالف الجماعة يمكن أن يتعرض للنبذ والإقصاء، والحرمان أحيانا من الامتيازات، آراء ضد التيار العام تعتبر آراء شاردة ومنعزلة، لأن الاجتماعي أقوى من النزعة الفردية، انمحاء الذات في الجماعة وذوبان للنزعة الفردية في القيم الجماعية، مجتمعاتنا ليست ليبرالية ولا ديمقراطية، وبالتالي فإن الفردانية كفلسفة وأسلوب في الحياة لا زالت غائبة، ومهما سعى الفرد للتحرر من سلطة الجماعة والقيم الراسخة نحو إثبات ذاته، يعيش الفرد منبوذا أو يعيش في ضروب من القلق والخوف في حالة الميل نحو النزعة الفردية، فلا زال العقل الجمعي يهيمن والمخيال الشعبي العام يسيطر، والحياة يرسمها المجتمع الكبير، وبالتالي ولادة مفهوم الفرد يحتاج بالفعل إلى التغيير في أسس المجتمع وبنيته الفكرية والأخلاقية والسياسية، لا بد من ميلاد الدولة الحديثة بكل آلياتها، ولا بد من انبثاق المجتمع المدني وتربية الأجيال الصاعدة على فلسفة حقوق الإنسان.