المسلمون في موزمبيق بين لعنة الموارد ونيران العنف الأصولي
د. سامر مؤيد عبد اللطيف
2021-02-13 04:45
لقد كانت جمهورية موزنبيق ضحية التفاعل غير الموفق ما بين الجغرافية والتاريخ من جانب وما بين الثقافة والاقتصاد من جانب اخر؛ إذ تطورت هذه الجمهورية الواقعة في جنوب شرق أفريقيا والمطلة على الشواطئ الغربية للمحيط الهندي، ككيانين جغرافيين وثقافيين منفصلين يقسمهما نهر زامبيزي؛ اعتمد القسم الشمالي الساحلي فيها على الزراعة والصيد وتأثر بالثقافة الاسلامية والسواحيلية، بينما اعتمد قسمها الجنوبي ذو المناخ الصحراوي على تجارة الذهب والماس والمنغنيز والتيتانيوم متأثرا بالثقافة المسيحية البرتغالية، بفعل خضوعها الطويل للاحتلال البرتغالي الذي غادرها عام 1975. مخلفا لها تركة ثقيلة من الفقر والانقسام العرقي والديني والحكم الاستبدادي، انتجت حربا اهلية دامت حتى مطلع الثمانينات من القرن السابق راح ضحيتها الالاف وتشرد بسببها أكثر من مليون انسان.
وبعد فترة من الهدوء النسبي الديمقراطي والانفتاح والتحول المضطرب الى الرأسمالية والخصخصة مطلع التسعينات، تولدت عند مدينة الراس المنسي (كابو ديلجادو) ذات الاغلبية الاسلامية المهمشة في شمال موزمبيق والغنية بمواردها واستثماراتها الغربية، نواة أزمة جديدة نسج خيوطها، الصراع الدموي بين المصالح الاقتصادية المتنامية والثقافات الموروثة المتناحرة ومعها سياسة الاهمال والتهميش والافقار الحكومي للأقلية المسلمة(1) التي تعاني من البطالة والتخلف والفقر في هذه المدينة؛ لتعيد لنا فصول القصة المأساوية المكررة لمتلازمة الافقار والارهاب حينما اندفع الشباب المسلم في هذه المدينة إلى طريق التطرف والعنف المسلح تحت مظلة الميليشيات المسلحة لانصار السنة والجماعة وتنظيم داعش، ونتيجة للفقر والبطالة والتهميش.
إن الانتقال غير الآمن وغير المدروس من الاقتصاد المركزي الى الاقتصاد الرأسمالي غير المنضبط قد أوجد نخبةً سياسيةً وعسكريةً فاسدةً متحكمةً بمفاصل الاقتصاد بدلاً من رجال المال الأعمال. وكانت الخصخصة لمئات من الشركات الحكومية مكرسةً بشكل تفضيلي لحسابِ قادة الجيش وزعماء حزب فريليمو الحاكم.
وقد زاد اكتشاف أكبر حقول الغاز الطبيعي من قبل شركة الطاقة الأمريكية "أناداركو" في إفريقيا قبالة ساحل مدينة (كابو ديلغادو) في عام 2010 من محنة الاحتكار الاقتصادي والفساد السياسي في هذه الدولة عامة وفي هذه المقاطعة الاسلامية بوجه خاص. وبدلاً من أن ترفل هذه الاخيرة بالرخاء الاقتصادي بوصفها مركزاً للاستثمارات الاجنبية، باتت تعاني الفقر والتخلف والتهميش والبطالة بعد ان صودرت اراضي سكان المنطقة عنوة واستقدمت العمالة الاجنبية من خارج البلاد للعمل مع الشركات الاستثمارية الاجنبية في هذه المقاطعة؛ الامر الذي تسبب في نتيجتين اولهما النزوح القسري واسع النطاق لسكانها المسلمين، وثانيهما اندفاع المتبقين منهم الى التشبث بهويتهم الثقافية الاسلامية وحقهم في الدفاع عن مصدر رزقهم ووجودهم عبر الانخراط المكثف في التيار الاصولي المتشدد الذي انتشر بين شباب هذه المقاطعة وغيرها من المقاطعات الاسلامية المجاورة.
بموازاة ذلك، مارست الخصومات العرقية دورًا مهما في نمو التطرف واذكاء العداوة بين من يملك السلطة والمال، من مجموعة “ماكوندي” العرقية، وبين المهمشين من المسلمين المنتمين الى مجموعة “كيمواني” العرقية؛ فتحولت المساجد وبعض المجمعات التابعة لها إلى ما يشبه معسكرات التدريب. وطفت على السطح تشكيلات شبه منظمة تدعى “أهل السنة والجماعة” او الشباب الاسلامي منذ عام 2015، غايتها اقامة المجتمع الاسلامي العادل وسبيلها لذلك العنف المسلح تحت عنوان (الجهاد)؛ فانخرطت هذه المجموعات الاصولية، منذ عام 2017، في مواجهات مسلحة دامية مع السلطات الامنية وضد مراكز الشرطة والمباني الحكومية، راح ضحيتها أكثر من 500 شخص.
ومع إمتداد ساحة المواجهة ومدتها وتنامي خبرات وعلاقات وقدرات هذه المجاميع المسلحة على تجنيد الانصار والحصول على مصادر الدعم والتمويل اللازم لإدامة زخم هجماتها وتطوير أساليبها لاسيما بعد إعلان انضمامها الى تنظيم داعش في عام 2018، بدأت حركة (الشباب الاسلامي) في الاقتراب من المدن والأقاليم المختلفة وإنشاء عددٍ من المراكز الخاصة بالإمدادات وتجنيد المسلحين عبر استثمار الفراغات الامنية التي خلّفتها هشاشة الدولة وانعدام كفاءتها، في مسعى منها إلى نيل الاعتراف والسيطرة على الأرض والتمركز فيها، حتى نجحت مطلع عام 2020 في السيطرة لفترة وجيزة على مدن صغيرة واستراتيجية وأبرزها “موكيمبوا دي برايا” التي رفعوا عليها فيما بعد علم “داعش” وساعدهم في ذلك ضعف الجيش الموزمبيقي من جهة، والتعاطف من قبل مسلمي الشمال الذين يعانون الفقر والتهميش من جهة أخرى.
في بداية دوامة العنف المحلي المتفرق والمتقطع، لم تكن حكومة موزمبيق راغبةً او حتى قادرة على الانخراط في مواجهة مسلحة واسعة النطاق مع تلك الجماعات المسلحة التي تحظى بتأييد المسلمين من السكان المحليين، مثلما انها (أي الحكومة) لم تكن تملك استراتيجيةً محددة ًاو فاعلةً لمعالجة اسبابِ الازمةِ وجذورها، بيد أن استفحال خطر التهديد الامني وتمادي المسلحين وتمددهم في تلك المناطق، واستحواذهم على بعض القرى والقواعد العسكرية والموانئ، قد أجبر الحكومة على اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية وقسوة في مواجهة هذا الخطر المسلح، بعد الاستعانة بالجيش ومجاميع المرتزقة الاجانب مثل: (مجموعة فاجنر الروسية وشركة دييك الاستشارية الجنوب إفريقية)؛ كانت حصيلتها مقتل المئات وتشريد الآلاف من المدنيين وتنفيذ المئات من الاعتقالات التعسفية في تلك المقاطعات الاسلامية.
غير أن خيار القوة العسكرية المفرطة من جانب الحكومة المستندة الى شراكات اجنبية وما تسببت به هذه القوات من فظائع بحق المسلمين من سكان المنطقة، قد عقّد من الازمة واسهم في تنامي مشاعر النقمة والاستياء بينهم، الامر الذي اسهم في تحوّل المزيد من الشبان المسلمين نحو العنف المسلح، وتراجع قدرة القوات الحكومية على احتواء التهديد المتفاقم بعد ان تحولت المقاطعات الاسلامية في شمال موزمبيق الى قاعدة لاستقطاب الجماعات الاسلامية والمتطرفة في جنوب القارة الإفريقية برمتها، وراح تنظيم داعش ينشر خلاياه الناشطة مستثمراً أجواء النقمة والوهن الامني في هذه المناطق، ليعوض بها، ما خسره من قواعد في الشرق الاوسط، الامر الذي بات ينذر بانتشار خطر الارهاب في منطقة جنوب القارة الافريقية قاطبة، ويهدد سلام واستقرار دولها مستقبلاً.
مما تقدم يتضح لنا ان دوامة العنف في شمال موزنبيق الاسلامي كانت نتاج مركب معقد من المتغيرات والعوامل الجغرافية والتاريخية والعرقية والاقتصادية التي تراكمت وتفاعلت عبر السنين في ظل اجواء وممارسات سياسية اقصائية واستفزازية، قد زادتها احتقاناً، بسبب عجز النظام عن تلبية حاجات المواطنين، وانتشار الفساد بشكل واسع، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة نسبة الفقر إلى ما يقترب من 50% من سكان موزمبيق، إضافةً إلى تراخي القبضة الأمنية، الذي افضى بالنتيجة الى سقوط عدد من المقاطعات بيد التنظيمات المسلحة؛ وفقدان ثقة المسلمين بحكومتهم ونقمتهم عليها.
وهكذا تحولت موزمبيق –على حد تعبير احد الباحثين المهتمين بشؤون المنطقة- بعد مرور ثلاث سنوات على التمرد الاصولي المسلح في شمالها الاسلامي، الى دولة فاشلة مصابة بـ "لعنة الموارد"؛ تلك اللعنة التي اصابت النخبة الحاكمة في موزمبيق بالتخمة والفساد والتجبر، واصابت الاقلية المسلمة في شمالها بالفقر والاقصاء والتهميش، وجعلت العنف المسلح هو الخيار الوحيد المفضل والمقدم على ما سواه لإنجاز الاهداف لدى الطرفين (الحكومة والجماعات الاصولية المسلحة).
بيد ان الركون الى هذا الخيار المسلح الدامي والسير في طريقه لن يورث البلد، غير المزيد من الدمار والتراجع، مع ارتفاع حجم الديون والفساد والبطالة بسبب تكاليف الحرب الاهلية وظروفها من جانب اقتصادي، وتنامي فرص التدخل الاجنبي الاقليمي والدولي في شؤونها الداخلية من جانب الدول الطامعة والمعادية والتنظيمات الارهابية مع احتمال توسع النزاع وشيوع الفوضى وانعدام الاستقرار في ربوع هذا البلد وفي اركان نظامه السياسي القائم.
واذا كان الخيار المسلح قد فشل -طوال تلك السنين- في استعادة السلام والمساواة الى ربوع موزمبيق، بعدما أورثها المزيد من الفقر والدمار، فان الحوار المخلص البناء، وتوسيع قاعدة المشاركة والتداول السلمي للسطلة، وتكريس العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين ابناء البلد الواحد وتطوير فرص الامن والحياة الكريمة في مدن الشمال الاسلامية، هو الخيار الآمن المتبقي لتسوية هذا النزاع وحسمه.