حماية الإنسان من السقوط خارج التاريخ
ابراهيم أبو عواد
2020-12-21 08:25
(1)
التفاعلُ الرمزي بين الإنسان والتاريخ يَعكس أهميةَ التواصل بين الذات والإطار الحاضن لها، وبما أن الذات لا تَنشأ في الفراغ، ولا تَنمو في العدم، فمن الطبيعي أن تبحث الذات عن بيئة مُناسبة للإبداع، تَكون كالتُّربة الخِصبة بالنِّسبة للوردة.
ولكن الإشكالية أنَّ الإنسان يَنبهر بالوردة، ويُركِّز في قَطْفها، ويَنسى الأشواكَ التي تُحيط بها، وهذه العملية الخطيرة تُشبِه الانبهارَ بالتاريخ، والتَّركيز في الحَدَث، ونِسيان الدوافع الخَفِيَّة التي تقف خلف صناعة الحَدَث، وتعمل على تَوجيهه بشكل مُغرِض، اعتمادًا على الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية.
وكما أنَّه لا تُوجد فائدة مِن عطر الوردة وجَمَالها، إذا كانت سَامَّةً وقاتلةً، كذلك لا تُوجد فائدة مِن رُومانسية التاريخ ورَوعته، إذا كان قائمًا على حضارة القتل، واستغلال القويِّ للضعيف.
(2)
عندما يُدرِك الإنسانُ دَوْرَه المركزي في الأنساق التاريخية، باعتباره فاعلًا لها، ومُنفعلًا بها، سيُدرِك طبيعة العِلَّة والمَعلول في التاريخ واللغة، فالعِلَّةُ هي قُوَّةُ الإنسانِ الفاعلةُ في تراكيب التاريخ وبُنى اللغة، والمُؤثِّرةُ في الظواهر الاجتماعية المُتوازنة رُوحًا ومَادَّةً، والمُعاشة مَعنًى ومَبنًى.
والمَعلولُ هو الأثر الاجتماعي المُترتِّب على العِلَّة (قُوَّة الإنسان الفاعلة)، والناتج عنها. وهذا الترابطُ المصيري بين السَّبب الإنساني والنتيجة الاجتماعية، يعني أنَّ الإنسان هو قائد حركة التاريخ، والقادر على إيجاد علاقة شرعية بين التاريخ واللغة، وإحداث توازن منطقي بينهما، مِن أجل تَوظيف التاريخ لخدمة الأبعاد اللغوية الرمزية الحاملة لمشروع الحضارة الرحيمة، وتوظيفِ اللغة لخدمة المفاهيم التاريخية الوجودية الحاملة لشرعية الظواهر الاجتماعية الإيجابية.
(3)
تُشكِّل عمليةُ السُّقوط خارج التاريخ أكبر خطر على مركزية الإنسان في نظام المجتمع ومنظومة الحضارة، لأن هذه العملية تعني أنَّ الإنسان دخل في الانتحار التدريجي لعدم وجود أرضية صُلبة يقف عليها، ومساحة إبداعية يتحرَّك فيها، والمجتمع دخل في المَوت البطيء لعدم وجود شرعية لأحلام الحاضر ومشروعية لآمال المُستقبل، والحضارة دخلت في اليأس العنيف لعدم وجود ثقافة حُرَّة ومُتحرِّرة مِن الخَوف والوَهْم، وابتكارات تكنولوجية صديقة للإنسان والبيئة والمناخ.
وفقدان هذه المسارات الثلاثة (الإنسان والمجتمع والحضارة) للأمل والشَّغَف والرُّوح، يَدفع البعض إلى استخدام الوسائل العنيفة للتَّعبير، لشُعوره بالعجز التام وخسارة الأحلام وغياب الضَّوء في نهاية النَّفَق.
وإذا حُشر الإنسانُ في الزاوية الضَّيقة، وأيقنَ أنَّه وصل إلى طريق مَسدود، وأنَّه لَم يَعُدْ هُناك ما يَخسره، فَسَوْفَ يَرمي إنسانيته وراء ظَهْره، ويتحوَّل إلى وحش كاسر ضِد أخيه الإنسان، ويُحوِّل التاريخَ مِن منظومة إنسانية راقية إلى مَنظومة عُقَد نَفْسِيَّة مُركَّبة، قائمة على الصِّراع والصِّدام، والشُّعور بالظُّلم، وثنائية الضحية والجلاد، واستغلال القويِّ للضعيف، وابتزاز مَن يَملِك لِمَن لا يَملِك، وحُب الانتقام والأخذ بالثأر.
وعِندئذ، سيعمل الإنسانُ جاهدًا لتحطيم المُنجَزات الحضارية التَّراكمية، لقناعته بعدم وُجود مكان له في الحضارة، وأنَّه خارج اللعبة السياسية العالمية، وأنَّه مُجرَّد مُتفرِّج على اللاعبين بمساره ومصيره.
وهذه المشكلةُ الخطيرة تَدعو إلى ضرورة حماية الإنسان مِن نَفْسه، وحماية المجتمع مِن الإنسان، وحماية الحضارة مِن الإنسان والمجتمع معًا. وهذه الحمايةُ الشاملةُ لا تتحقَّق إلا بجَعْلِ الإنسان مُشَارِكًا في بناء نَفْسه، وتَطويرِ مُجتمعه المحلي وحضارته العالمية، وجَعْلِ الجوهر الإنساني مَوضوعًا للتاريخ، وبذلك يُصبح التاريخُ حُلْمًا إبداعيًّا مُعاشًا باستمرار، وبارقة أمل، ونافذة على المُستقبل المُشرق، ولَيس لَعنةً على الإنسان، وتَهديدًا لوجوده، وتَدميرًا لأحلامه.