هل يمكن للدولة الواحدة أن تكون بديلاً عن حل الدولتين؟
د. إبراهيم أبراش
2020-08-12 06:03
طرح فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية كما يقترح مثقفون ومحللون سياسيون ويهدد سياسيون وقياديون من السلطة ومنظمة التحرير كرد على تعنت إسرائيل ووصول خيار حل الدولتين لطريق مسدود مغامرة غير مضمونة النتائج، صحيح أن إسرائيل رفضت سابقاً هذا الحل ولكن ماذا لو قبلت إسرائيل بحل الدولة الواحدة كأساس للتفاوض وكنوع من المناورة كما جرى مع مشاركتها في مدريد وأوسلو انطلاقاً من فكرة (الأرض مقابل السلام)؟!!
في هذه الحالة سيتم تجاوز حل الدولتين ونهاية المشروع الوطني التحرري وسنشهد سنوات من المفاوضات العبثية التي لن تؤدي إلى شيء وخلالها ستواصل إسرائيل الاستيطان والضم ما دام في أفق المفاوضات سراب يسمى الدولة الواحدة!!!.
مع احترامنا لذوي النوايا الوطنية والصادقة ممن يطرحون فكرة الدولة الواحدة ومع أن حل الدولة الواحدة يتضمن حمولة أخلاقية ويتوافق مع ما هو موجود في كثير من دول العالم حيث تتعايش قوميات وطوائف متعددة في دولة واحدة، إلا أن الأمر يحتاج لتفكير عميق بسبب طبيعة دولة إسرائيل اليهودية العنصرية والكراهية والخوف التاريخي عند اليهود من الأغيار وكيفية تعامل إسرائيل مع المواطنين العرب فيها.
حل الدولة الواحدة ليس بالجديد فقد تم طرحه أو المطالبة به بصياغات مختلفة في أوقات سابقة من عدة جهات فلسطينية وإسرائيلية ودولية وبعض الطروحات كانت سابقة لقرار التقسيم 181 الصادر عام 1947 الذي أسس لفكرة حل الدولتين - ويمكن الرجوع في ذلك إلى مقال موسع ومتميز للدكتور عز الدين المناصرة تم نشره في مارس 2018 تحت عنوان (مشروع الدولة الواحدة- ثنائية القومية)، وإعادة تداوله الآن يثير كثيراً من القلق لأنه لا ينطلق من موقع قوة بل ضعف شديد للنظام السياسي الفلسطيني كما يعكس حالة تخبط وضياع البوصلة في المشهد السياسي حيث أصبحت الساحة الفلسطينية حقل تجارب لمشاريع وأفكار وأيديولوجيات متعددة ومتضاربة.
فالرئيس أبو مازن والخط الرسمي في المنظمة يحاربون في الأمم المتحدة ودولياً لتثبيت دولة فلسطين في الضفة والقطاع، وحركة حماس وبدعم من الإخوان المسلمين تعمل على تحويل غزة التي مساحتها 360 كلم2 (1,5% من مساحة فلسطين) لدولة/إمارة تكون جزءاً من الخلافة الإسلامية القادمة، ومخطط لتوسيع غزة لتشمل جزءاً من سيناء في سياق مخطط إسرائيلي أمريكي أوسع، وجماعات مصالح تشتغل في الضفة لإدارة ما قد يتبقى من الضفة بعد تنفيذ الضم الإسرائيلي، وآخرون يقترحون مشروع الكونفدرالية الثنائية مع الأردن أو الثلاثية التي تضم إسرائيل أيضاً، بالإضافة إلى طرح الفيدرالية بين الأردن والضفة، ويأتي طرح فكرة الدولة الواحدة أو الثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية ليزيد المشهد السياسي تعقيداً وارباكاً.
عندما طرحت حركة فتح نهاية الستينيات فكرة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل تراب فلسطين التاريخية وتم تبنيها رسمياً ضمن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971، اعتقدت حركة فتح أن الفكرة ستجد استحساناً من أطراف يهودية عالمية وأطراف دولية لأن هذه الدولة ستمنح اليهود المقيمين في فلسطين نفس الحقوق التي للعرب الفلسطينيين حيث قالت الحركة: (نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم... مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية ). وتأكيداً من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلا: (إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق).
وفي الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني سبتمبر 1969 قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مذكرة للمجلس حددت فيها أن هدف النضال الفلسطيني: (إقامة دولة فلسطين الموحدة بعد إزالة الكيان الإسرائيلي وتقضي على التمييز العرقي والعنصري، وتعتمد على حل ديمقراطي للتناحر القائم يستند إلى تعايش الشعبين العربي واليهودي)، نفس الموقف اتخذته الجبهة الشعبية التي أكدت على المضمون الأيديولوجي لفلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية اللينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير: (فلسطين المحررة ستكون جزءاً من مجتمع عربي ثوري جديد... وأن اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي).
مع عدم تجاهلنا لأهمية العامل الإنساني في تبني هدف "فلسطين الديمقراطية" وعقلانية هذا العامل آنذاك في إطار التعامل مع القضية دولياً، إلا أننا نعتقد أن الدافع الرئيسي وراء تبني هذا الشعار والهدف هو تلمس بعض العناصر القيادية في م.ت.ف. وفي فتح تحديداً الفجوة الكبيرة ما بين إمكانيات الثورة والشعب الفلسطيني من جهة وتحرير فلسطين عسكرياً وإرجاع اليهود من حيث أتوا من جهة أخري.
كان تبني هدف «فلسطين الديمقراطية» منطلق التفكير بحلول وسط بالرغم من أن الثورة الفلسطينية والحالة العربية كانتا أفضل مما هي عليه اليوم، إلا أنه وبالرغم من التنازل المُتضمن في هدف فلسطين الديمقراطية، وهو القبول بالتعايش مع اليهود المتواجدين في فلسطين وليس طردهم منها كما ينص الميثاق الوطني، إلا أن الكيان الصهيوني الذي قام على عقيدة شعب الله المختار رفض هذا الموقف الفلسطيني حيث اعتبره وصفة لإنهاء المشروع الصهيوني ولأنه يريد إقامة دولة يهودية نقية خالصة.
بعد فشل تسوية أوسلو وحل الدولتين وبعد الانقسام ووصول المشروع الوطني التحرري بشقيه المقاوم والسلمي لطريق مسدود عاد الحديث عن الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية، والملفت للانتباه أن طرح الدولة الواحدة جاء من كُتاب ومثقفين ومن طرف قيادات في حركة فتح ومنظمة التحرير منهم السيد أحمد قريع كبير المفاوضين وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير آنذاك، الذي تحدث عن الموضوع لأول مرة في يناير 2005 عندما كان رئيساً للوزراء وعندما كانت المفاوضات تمر بمأزق، وكرره بعد ذلك في أغسطس 2008 وأخيراً في 13سبتمبر الماضي 2012 حيث قال في تصريح له خلال لقاء صحفيين صهاينة بمناسبة مضي تسعة عشر عاماً على توقيع اتفاق أوسلو ونشرت الإذاعة العبرية جزءاً منه: "إن الفلسطينيين مستعدون لخوض مباحثات مع إسرائيل حول إنشاء دولة ثنائية القومية"، وكان أبو علاء قريع وصف في مقال له في شهر أبريل من نفس العام حل الدولتين بأنه "أقرب ما يكون إلى حرث في البحر، إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة"، كما تطرق للموضوع بما يشبه صيغة التهديد لإسرائيل صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا يخرج عن هذا السياق وإن كان بصيغة مختلفة حديث الرئيس أبو مازن عن حل السلطة أو تسليم المفاتيح لإسرائيل، فعندما يقول الرئيس بذلك دون أن يُعلن العودة لحالة التحرر الوطني ويتمسك بالحل السلمي فكأنه يتبنى خيار الدولة الواحدة. وعاد الموضوع للنقاش من عديد المثقفين والسياسيين بعد الإعلان عن مشروع ضم أجزاء من الضفة وتأكيد أغلب الأطراف بما فيها القيادة الفلسطينية باستحالة تطبيق حل الدولتين بالرؤية الفلسطينية.
قد يقول قائل إن المراد من الدعوة للدولة ثنائية القومية من طرف مثقفين ووطنيين فلسطينيين تبليغ رسالة احتجاج على تعثر المفاوضات واستحالة التوصل لحل الدولتين وتهديد للإسرائيليين بتخويفهم من الخطر الديمغرافي أو قطع الطريق على يهودية الدولة الخ، إلا أن صدور هذه التصريحات من قيادات في منظمة التحرير أو أن تفكر القيادة الفلسطينية تبنيه الآن سينبني عليها تداعيات خطيرة ويعطي مؤشرات تستدعي منا التوقف عندها وعند فكرة الدولة الواحدة بشكل عام:
1- لا يجوز التلاعب بالحقوق الفلسطينية وبهدف النضال الوطني بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر كلما تعثرت المفاوضات أو فشلت النخبة السياسية في تحقيق الهدف الوطني، فالوضع الطبيعي والعقلاني عندما تفشل القيادات السياسية في تحقيق الأهداف أن تتنحى عن مواقعها أو أن تراجع أدوات عملها على أقل تقدير، وليس تغيير الأهداف مع بقاء نفس القيادات.
2- لا يجوز للضعيف التهديد بالانتقال من هدف يمثل الحد الأدنى –دولة على حدود 1967-إلى حد أعلى –الدولة الواحدة- وفي ظل الوضع الفلسطيني الضعيف الراهن فإن استعمال ورقة الدولة الواحدة كتهديد وتخويف لإسرائيل لن تنجح.
3- طرح فكرة الدولة الواحدة سيُحدث ارباكاً في الموقف الرسمي الذي تتبناه القيادة طوال سنوات والذي يقوم على اعتراف دولي بدولة وطنية خالصة للفلسطينيين على حدود 67 وتطبيق قرارات الشرعية الدولية حول فلسطين كما يُضعف تحرك الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة ويكشف غياب رؤية مشتركة عند الفلسطينيين.
4- طرح الفكرة اليوم وصيرورتها موضوعاً للحديث والجدل عند السياسيين والمثقفين الفلسطينيين يعني إسقاط هدف الدولة المستقلة في الضفة وغزة أو تجاوز المشروع الوطني الفلسطيني الذي وُضِعت أسسه في دورة المجلس الوطني في الجزائر 1988.
5- لقد فشلت الفكرة عندما كان الفكر السائد في إسرائيل معتدلاً ومتفتحا، فهل للفكرة نصيب من النجاح اليوم في ظل فكر ديني توراتي يسيطر على المؤسسة الرسمية الإسرائيلية ويعم إسرائيل التي تعلن رسمياً أنها دولة يهودية خالصة.
6- كيف ستقبل إسرائيل التعايش مع خمسة ملايين فلسطيني وهي غير قادرة على التعايش والتكيف مع أقل من مليوني فلسطيني متواجدين فيها منذ اثنين وسبعين عاما وتمارس معهم العنصرية؟ وفي حالة توسيع جغرافيا إسرائيل لتضم الضفة أو بعضها فستكون دولة يهودية عنصرية أيضاً وليس دولة ديمقراطية ثنائية القومية.
7- إن خطورة طرح الفكرة اليوم تكمن في تجاوز كل قرارات الشرعية الدولية والعربية، من قرار التقسيم حتى المبادرة العربية وحل الدولتين، والتأسيس لشرعية ومرجعية جديدة لا نعتقد أن الوضع الدولي والعربي والفلسطيني مستعد وقادر على تأسيسها ونجاح مقاصدها. وما هو مصير قرارات الشرعية الدولية حول الدولة واعترافات دول العالم بها ومصير السفارات والاتفاقات التي تم توقيعها باسم الدولة الفلسطينية؟!.
8- لا شك أنه في حالة فشل كل خيارات التسوية ليس أمام الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق إلا التشبث بأرضهم ولكن فرض حل الدولة ثنائية القومية بالرؤية الوطنية يحتاج لنضال لا يقل عن النضال من أجل الدولة المستقلة وهذا يتطلب وجود استراتيجية فلسطينية واحدة حول هذا الهدف ولا يبدو في المدى القريب إمكانية وجود هذه الاستراتيجية وخصوصاً مع الانقسام.
9- إن من يفكرون بحل الدولة الواحدة إن فشلت كل الخيارات الأخرى عليهم أن يعلموا بأن أول خطوة بهذا الاتجاه هو حل السلطة بحكومتيها في غزة والضفة كما يتطلب أيضا عودة احتلال قطاع غزة حتى يكون العامل الديمغرافي مؤثراً وضاغطاً على إسرائيل.
10- مع بقاء قطاع غزة منفصلاً وخارج المعادلة الوطنية ومع ضم المستوطنات ومنطقة الغور قد تقبل إسرائيل بفكرة الدولة ثنائية القومية كأساس لتسوية جديدة ما دامت تملك الأغلبية السكانية وكمناورة لإفشال حل الدولتين وتجاوز كل قرارات الشرعية الدولية.
11- إن الوصول إلى الدولة الواحدة بالرؤية الوطنية الفلسطينية يحتاج إما لحرب شاملة تُهزم فيها إسرائيل ويفرض الفلسطينيون رؤيتهم وإرادتهم، أو سلام شامل وتفاهم استراتيجي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبين المسلمين واليهود يسمح بقيام هذه الدولة، وضمن الظروف الحالية لا نرى إمكانية تحقق أي من الاحتمالين، مما يجعل الدولة الواحدة فكرة طوباوية.
12- إن ما نخشاه أن يؤدي طرح فكرة الدولة الواحدة في ظل حالة الضعف الفلسطيني والفصل ما بين غزة والضفة واستمرار تآكل السلطة الفلسطينية في الضفة واستمرار الاستيطان وتزايد عدد المستوطنين أن تقتصر فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية على الضفة الغربية فقط، وهذا أمر حذرنا منه منذ سنوات ونعتقد بأن مراكز تفكير استراتيجي إسرائيلية تفكر اليوم بهذا الأمر والذي قد يشكل بديلاً عن سياسة الضم.
وأخيراً لا نروم من ملاحظاتنا السابقة أن تستمر الأمور على حالها أو أن حل الدولتين بالمفهوم الوطني قريب الإنجاز، بل التحذير من حالة التيه السياسي وصيرورة الحقوق الوطنية ورقة مساومة، وأهمية وضرورة إعادة بناء النظام السياسي والتوافق على استراتيجية وطنية يتم الاشتغال عليها من الجميع. إن كان لا يوجد أمام الفلسطينيين غير خيار الدولة الواحدة فيجب وضع استراتيجية وطنية لدراسة الأمر والبحث في كيفية تحقيقها بما لا يهدد الوجود الوطني لأن الوصول لها لن يتم عن طريق مفاوضات مع إسرائيل بل من خلال نضال متعدد الجبهات والأشكال.