المعارضة الجزائرية بين القناع والاقتناع...!
مصطفى قطبي
2015-06-08 02:49
يعتقد العديد من المحللين السياسيين أن الجزائر، التي تتمتع بموقع استراتيجي هام وتتمتع بثروات من الغاز والنفط، هي على قائمة الدول التي يخطط لتفجير أحداث فيها على غرار ما جرى في مصر وليبيا وتونس واليمن، وما يجري في سورية الآن، حيث إن قوى دولية غير عربية تعمل بهذا الاتجاه، والغريب في المسألة أن وسائل الإعلام العربية لدى عدة دول لديها معلومات عما يتم التحضير له، إلا أنها تتجاهلها خبراً وتحليلاً...
فقد بقيت معركة تخريب الجزائر مؤجلة حتى الآن، لم تهب عليها رياح التحالف الإمبريالي ـ الإسلاموي بعد، ولكن ليس إلى الأبد. فلم تفلح الانتفاضات فيها في العامين الأخيرين في حشد دعم شعبي واسع لتغيير النظام، وفشل الاسلاميون في الحصول على أي نفوذ. ولأن الجزائر ليست مثل سوريا، فيصعب افتعال صراع مسلح فيها بدون عامل خارجي.
لقد تتبعت أصداء الحركات الاحتجاجية التي تشهدها الجزائر، ووجدت هذه الاحتجاجات تراوحت بين خطاب عقلي واع وبين تشنجي لا يهتدي لبوصلة في الاتجاه، وآخر مبطن يخفي أجندته وإن كان يُظهر التلويح بسقف مطالبه... وآراء مراقبين أجانب تشدهم الأحداث يتسابقون إلى رصدها ومعرفة ما يعتمل في هذه المنطقة، وتحديداً في هذا البلد العريق، الذي أذلّ الاستعمار الفرنسي...
ولعله من قبيل الاهتمام بهذه المنطقة الاستراتيجية وما تتوفر عليه من مكامن الطاقة المحركة لعجلة الاقتصاد العالمي من نفط وغاز، ولحساسيتها الجيوسياسية، ووقفت على ما قدمته من تأويلات وتفسيرات لهذه الظاهرة، كلٌ من منظوره واعتقاده وأحياناً استناده لمصادره وقراءته للمشهد، فضلا عن مراسلي وكالات الأنباء والصحافة والعالمية وبعض القنوات الفضائية العربية والعالمية وما تناقلته من أخبار وتقارير وتحليلات حول هذه الاحتجاجات وتداعياتها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي...
ولعل ما استوقفني في هذه المتابعة بحكم اهتمامي الشخصي كمواطن مغاربي في المقام الأول يعيش وقع ما يجري في وطنه المغاربي الكبير، وليس بأقل من ذلك واجبي في منظومة الإعلام العربي، معني بهذه المتابعة أو ما يمكن وصفه بهذا الزخم الواسع من التفسير والتأويل لوقائع المشهد وتداعياته، وبخاصة من أولئك الذين يطلقون العنان لخيالاتهم في التحليق خارج فضاء المشهد، وما ينسجونه ويبتدعونه من أوهام وتهويل وتعقيد فوق ما يحتمل المشهد الجزائري...
ولعل أكثر ما يتبدى أفقاً مظلماً وموجعاً أن يكون الهدف هو إسقاط الدولة الجزائرية، هيبة وسيادة أو إضعافها على الأقل كما نرى ونتابع! ولا يوجد أي جزائري يمكن أن يرضى لدولته أن تسقط أو تضعف.
ولنعترف أولاً أن ثمة فارقاً بين إصلاح الدولة وإسقاطها، ولا يمكن أن نصدق أن من يسعى لإسقاط الدولة يريد إصلاحاً من أي نوع... ويبدو أن كثيراً من الممارسات هي في مضمونها تسعى جهلاً أم عمداً إلى إسقاط مؤسسات ومظاهر الدولة وهو الأمر الذي لا ينبغي لأي جزائري أن يقبله بأي صيغة...
والكل يستطيع أن يميز بين إسقاط نظام وتغييره وبين إسقاط الدولة، ولسنا بحاجة لكبير جهد ونحن نقرأ الآن الأحداث من نتائجها.... أو من محاولة استقراء نتائجها القادمة... المستقبل ينبئ أننا بهذه الطريقة مقبلون على عدة مظاهر خطيرة على الجزائر كدولة وكوطن...
أولى هذه النتائج لمثل هذا الحال هي إضعاف للدولة سياسياً واقتصادياً بحيث تضعف مناعتها العامة وتصبح أكثر عرضة للأخطار والأطماع. وثانيتها فإن الهم الإثني سيكون حاضراً في الواقع وفي الخيال وفي الخلفية أمام كل استحقاق قادم في حياة الجزائريين...
في هذه الحالة تصبح الجزائر أكثر من أي وقت مضى مسؤولية الجميع كل الجميع، وبغض النظر عن مواقع التموضع في السلطة أو المعارضة أو الحياد، ولا يحق لأحدٍ سلطة كان أو معارضة ـ المعارضة الوطنية الصادقة ـ أن يحتكر الحق في تقرير مصير الجزائر وأهلها تفكيراً وتقريراً وتنفيذاً، بل لابدَّ من إشراك الجميع في البحث عن الحلول لما تواجهه الجزائر من مخاطر وتحديات داخلية وخارجية، ولاسيما عندما يعمل الخارج المخادع على اللعب بورقة تفرد السلطة بقرار معالجة الأزمة، ليوحي للعالم كله أن في الميدان سلطة مستبدة في جهة وشعباً أعزل ومعارضة مشلولة في جهة أخرى، ليسَهل من خلال ذلك مشروع التدخل الخارجي الذي لا يعود على الجزائر وأهلها إلا بالخراب والدمار والضياع في متاهات لعبة الأمم الطامعة بالجزائر ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وحتى لا تضيع فرصة التوحد في موقع الدفاع عن الجزائر بين السلطة والمعارضة والمخلصين من أفراد الشعب، ينبغي للجميع أن يسعوا لِلقاءِ في منتصف الطريق على أرضية القواسم المشتركة التي تجعل الجميع يعيشون الشراكة الحقيقية في مواجهة تحديات المرحلة، وربما تكون السلطة أكثر من المعارضة معنية بالتحرك نحو مواقع اللقاء لأنها تملك كل شيء مقابل المعارضة الوطنية التي لا تملك إلا كلمتها وموقفها الوطني الإيجابي الذي تعبّر عنه بما يصدر عنها من كلمات وتحركات، والمرهون دوماً بحصولها على الثقة بجدية السلطة في التّحوّل من الانفراد بكل شيء إلى التشارك مع بقية مكونات الشعب ـ ولاسيما الطبقة المثقفة منه ـ في صناعة القرار الوطني ورسم مسارات الإصلاح التي يُراد للجزائر الولوج فيها بشكل جدي، وبهذا نقطع الطريق على مشاريع الخارج المتسابقة بهجماتها على الشعب الجزائري لتكسب على أرضه المعارك التي خسرتها في المواقع الأخرى. وأمام كل هذا نطرح تساؤلاً مشروعاً وملحاً:
لماذا لا تتيح وسائل الإعلام الجزائرية المقروءة والمسموعة والمرئية ـ الخاصة منها والعامة ـ المجال أمام رجالات الفكر والسياسة والمجتمع من وجوه المعارضة الوطنية الشرفاء لبيان وجهة نظرهم في تشخيص الأزمة والحل، بحيث يكون هناك صوت آخر ورأي آخر غير رأي السلطة يعبّر عن هموم الناس وآلامهم وآمالهم بشكل موضوعي وعقلاني ووطني صادق، وبشكل مختلف عما هو سائد ومطروح على لسان المسؤولين في الدولة، لتتلاقح الأفكار وتتكامل الرؤى والحلول بين المؤيد والمعارض، ويكون الصوت الوطني المعارض بديلاً أو نِدّاً لتلك الأصوات النشاز التي تنطلق من هنا وهناك لتنطق بإسم المعارضة الجزائرية على حين أنها لا تمثل بكل ما يصدر عنها إلا مشاريع الخارج المعادي والمتآمر؟!
إنهم ليسوا أكثر من شرذمة، خطرها يعظم بما تشغله من مراكز للتأثير ومنابر للدعاية والضجيج، وجدناهم يعبثون بعقول الناس البسطاء ويستغلون حاجاتهم. فعندما تلتقي مصالحهم معك تراهم مخلصين ومتعاونين ولكن ينقلب كل شيء عندما تفترق حاجاتك مع حاجاتهم ويتحولون إلى وحوش كاسرة. إنهم انتهازيون لدرجة التطبيع، إنهم مثار للسخط والاستهجان بل التقزز والاشمئزاز. إنهم بتصرفاتهم ولونهم الأسود يغتالون الجزائر التي ضمتهم وجعلت منهم رجالاً، ولكن أي رجال خرجوا عندما احتاج لهم الوطن ظهروا لنا أشباه الرجال.
والطامة الكبرى أنه لا يزال هناك مسؤولون مقتنعين بقدرة هؤلاء على تقديم شيء للوطن دون أن يدركوا أنهم يشحذون سكاكينهم متهيئين لطعن الجزائر عندما تسنح لهم الفرصة التي يقفون خلف تحقيقها.
إنهم ليسوا أكثر من منافقين لا يمكن الوثوق بهم كطبول فارغة، لا بل إنهم ميالون لتعميق الفوضى ويعملون على استمرارها استناداً لما يحتويه باطنهم من قذارة، ولما يحتويه تاريخهم من أمور لا تمت للأخلاق الإنسانية بصلة.
إن وجود فضاء من الحرية الإعلامية في وسائل الإعلام الوطنية الجزائرية، كفيل أن يسحب البساط من تحت أقدام المعارضة المصنعة خارجياً ويكشف أقنعتها وتعريتها، ومعها كل من ساعد في طي ملفاتهم القذرة، وهو كفيل أيضاً باجتذاب شريحة واسعة من الجماهير القلقة على حاضرها ومستقبلها، والمشوشة في رؤيتها، والحائرة في مواقفها بين مطالبها المُحقة التي تشعر بأن أكثرها لم يتحقق بشكل فعلي وملموس بعد، وبين مشاريع الإصلاح المطروحة من الدولة التي شوهت صورتها في أذهانهم قنوات الدعاية المغرضة المتكاملة فيما يصدر عنها مع المشروع المعادي والمتآمر، وهزت ثقتهم بها تجارب الماضي وأخطاء الحاضر، مضافاً إلى عسكرة المجتمع ـ وبغض النظر عن أسبابها ومبرراتها الموضوعية ـ التي لا يستطيع معظم الناس العاديين أن يجدوا لها إلا تفسيراً واحداً ألا وهو إصرار السلطة على التفرد بالقرار الوطني والإقصاء للآخر المختلف معها مهما كان رأيه وموقفه وحجمه.
أمام كل هذه التحديات والظروف القلقة في الرؤى والمواقف يتطلب الأمر مواقف شجاعة من السلطة والمعارضة الوطنية معاً تُغلب مصلحة الجزائر على كل المصالح، مواقف تجعل الجميع ينصهرون في بوتقة وطنية واحدة، يتشارك فيها جميع أبناء الجزائر في حفظ وطنهم والذود عنه، وبناء حاضره ومستقبله تفكيراً وتقريراً وفعلاً ميدانياً، لتتشكل بذلك كتلة وطنية موحدة تجمع السلطة والمعارضة وبقية أفراد الشعب، لتقف في مواجهة المشروع الأميركي الأوروبي الصهيوني ـ والعربي في بعض مواقعه ـ والقلة المنخرطة فيه الساعية لاختطاف الجزائر وأهلها لتقدمه لقمةً سائغةً لأعدائه، متوسلة لذلك بالقتل والتخريب والكذب والتزييف والإلغاء للآخر فكراً ووجوداً وحياة.
فهل نتخذ من المواقف ما تتطلبه التحديات الحاضرة مما يجعلنا نتصالح مع أنفسنا والآخر الوطني، أم إننا نضِّيع هذه الفرصة بإصرارنا على تغييب الآخر كما ضيّعنا ما فات من فرص سابقة طوال فترة الأزمة الراهنة؟
وهل نخفي خطأ موقفنا بإقصاء الآخر خلف دعوى وجود المؤامرة الخارجية التي لا يختلف منا اثنان على وجودها وطريقة التعامل معها؟ أم نتطلع إلى الأفق الرحب للجزائر الغالية التي لن تحبس آمالها مؤامرات أعدائها ولا أخطاء بعض أبنائها وأنانياتهم؟
المسألة هنا، سلطة ومعارضة وأفراداً، والوطن شعباً وأرضاً أمانة الله والأجيال في أعناق المعارضة والسلطة، وأجيال المستقبل سوف تُسائلهم عما قدموه للجزائر في أيام الشدائد والمحن من مواقف وأفعال تحمي وجودها ووحدتها وعزتها وكرامتها.
السؤال مطروح على الجميع: والأفعال لا الأقوال هي التي تجسد الجواب الواقعي عليه.