هل الجمال ذاتي ام موضوعي؟
حاتم حميد محسن
2020-06-25 04:30
ما هو الجمال بالضبط؟ هذا السؤال شغل أذهان الفلاسفة والانثربولوجيين وعلماء الأعصاب ونقّاد الفن بالإضافة للناس العاديين طوال التاريخ الانساني.
ارتبطت مفردة "جمال" عادة بالتجربة الجمالية للفرد وهي تشير بالأساس الى الصفات الجوهرية لشيء ما والتي تثير نوعا من رد الفعل في سلوك الناظر، مثل المتعة او الهدوء او الفرح. يُنسب الجمال الى كل من الظواهر الطبيعية (مثل منظر الغروب او الجبال) وكذلك الى الأشياء الجميلة التي يصنعها الانسان (مثل اللوحات الفنية او السمفونيات الموسيقية). وعلى مدى ألف عام من تاريخ الفلسفة الغربية كانت هناك العديد من النظريات التي سعت الى تعريف الجمال بواحدة من الطريقتين التاليتين:
1- اما يعود الى "سمات أساسية" في الظاهرة الطبيعية او في الأعمال الفنية.
2- او انه يُعرّف كليا تبعا لتجربة الانسان الجمالية.
الاتجاه الاول ينظر الى الجمال موضوعيا، كشيء جوهري يوجد بحد ذاته في "شيء ما" او شيء فني، وبشكل مستقل عن تجربة الناظر له.
الاتجاه الثاني (الجمال هو ما يبدو في عين الناظر)، وهو ينظر الى الجمال باعتباره امراً ذاتيا، شيء ما يحدث في ذهن الفرد الذي يتصور الجمال. وفي الجماليات، كانت الموضوعية مقابل الذاتية من أخطر القضايا الفلسفية ليس فقط فيما يتعلق بطبيعة الجمال وانما ايضا بالارتباط بالأحكام على المزايا النسبية للأعمال الفنية. هنا نسأل ما اذا كان الجمال ذاته يوجد في الشيء (الظاهرة الطبيعية او العمل الفني) او يوجد كليا وبشكل خالص ضمن التجربة الذاتية للشيء.
الآراء الموضوعية
حسب رؤية افلاطون (427-347ق.م)، ان الجمال يقيم في عالم الأشكال. الجمال امر موضوعي، لا يتعلق بتجربة الناظر. تصوّر افلاطون لـ"الموضوعية" هو تصوّر مثالي. عالم الأشكال هو عالم "مثالي" وليس مادي. الأشكال، والجمال هي افكار غير مادية بالنسبة لأفلاطون. والجمال يبقى شيئا موضوعيا كونه ليس خاصية لتجربة الناظر.
أرسطو (384-322 ق.م) ايضا اعتقد بالرؤية الموضوعية للجمال، لكنه عرّف الجمال بخصائص الشيء الفني، مثل التناسق، النظام، التوازن، التناسب. هذا المعيار يظل قائما سواء كان الشيء طبيعيا ام من صنع الانسان.
بينما يؤمن كل من افلاطون وارسطو بتصورات مختلفة للجمال، لكنهما يتفقان على ان الجمال هو خاصية للشيء وليس شيء ما في ذهن الناظر.
الآراء الذاتية في الجمال
1- ديفد هيوم (1711-1776) جادل بان الجمال لا يكمن في "الاشياء" وانما هو ذاتي تماما، انه مسألة مشاعر وعواطف. الجمال هو في ذهن الفرد الناظر للشيء، وان ما هو جميل للمراقب قد لا يبدو كذلك للآخر.
2- عمانوئيل كانط (1724-1804) اعتقد ايضا ان الحكم الجمالي يرتكز على المشاعر، وبالذات مشاعر المتعة. ما يجلب المتعة هو مسألة ذوق فردي. هذه الأحكام لا تستلزم المعرفة ولا المنطق، وهي لذلك ذاتية. الجمال يُعرّف طبقا لعملية الأحكام الذهنية، انه ليس سمة للشيء يُحكم عليها بالجمال.
هناك تعقيدات تبرز من إعتماد الرؤية الذاتية الخالصة للجمال، لأن فكرة الجمال تصبح بلا معنى لو اصبح كل شيء مجرد مسألة ذوق او تفضيل شخصي. اذا كان الجمال خالصا في عين الناظر فان فكرة الجمال لم تعد لها قيمة بالمقارنة مع مُثل الحقيقة او الخير. إشكالات ستبرز حول مسألة الذوق، لأن الناس سوف تكون لديهم آراءً قوية حول ما اذا كان الجمال حاضرا ام لا، وستكون هناك عدة مستويات له. كل من هيوم وكانط كانا مطّلعين على هذه المشكلة، وحاول كل واحد منهم بطريقته الخاصة تقليل المشكلة عبر إضفاء مسحة موضوعية على فكرة الجمال.
اقترح هيوم بأن أمثلة كبرى عن الذوق الجيد ستبرز، كما يفعل الخبراء المحترمون عادة.هؤلاء الخبراء يميلون لإمتلاك تجربة ومعرفة واسعة، وان الآراء الذاتية بينهم تميل للاتفاق.
كانط ايضا كان مطلعا على ان الأحكام الذاتية للذوق في الفن تولّد نقاشات تقود بالفعل للاتفاق على اسئلة الجمال. هذا ممكن لو ان التجربة الجمالية تحدث وفق موقف متجرد نزيه، لايتأثر بعوائق المشاعر الشخصية والافضليات.
الجمال من وجهة نظر العلماء
هؤلاء يقولون ان الجمال هو ما يبدو في عين الناظر، ولكن هل ان الفكرة لدى الناظر هي نتاج لجينات الفرد ام للبيئة؟ هذه كانت محل نقاش بين العلماء منذ وقت طويل. رغم ان بعض البحوث ترى ان تفضيل صفات جسدية معينة مثل الطول او قوة العضلات ربما كانت مشفّرة في جيناتنا، لكن دراسة جديدة وجدت ان تجربة حياتنا الفردية هي التي تقودنا لإكتشاف ان وجها معينا أكثر جاذبية من الآخر. نقاش دور الطبيعة ام التنشئة في جماليات الانسان دفع الباحثين الى عمل استبيان لـ 547 زوج من التوائم المتشابهة و 214 زوج من توائم مختلفة، طُلب اليهم النظر الى 200 وجه ووُضع لهم مقياس من 1 الى 7، حيث 1 يمثل الاقل جاذبية و 7 الاكثر جاذبية. مجموعة اخرى من 660 من غير التوائم أكملوا نفس الاستبيان.
اذا كانت الجينات هي المسؤولة عن تفضيلات الوجه، فان التوائم المتشابهة يجب ان تكون لها تقديرات متشابهة. واذا كان تأثير البيئة العائلية يحمل اكثر وزنا فان التوائم المختلفة يُفترض ايضا ان تجيب بطريقة مشابهة. لكن معظم النقاط التي حصل عليها التوائم كانت مختلفة عن بعضها الآخر، وهو ما يشير الى ان شيئا ما آخر كان في اللعبة. الباحثون يعتقدون ان خبرة حياة الفرد هي التي ترشد أفكارنا حول جاذبية الجمال.
دوتون والنظرية الدارونية في الجمال
الفيلسوف دينيس دوتون تحدّى نظرية "الجمال في عين الناظر" من خلال عرضه للنظرية الدارونية في الجمال. يرى دوتون انه ليس لديه شك بان تجربة الجمال بكثافتها الشعورية ومتعتها، انما تعود الى سايكولوجيتنا التطورية. تجربة الجمال هي جزء من سلسلة طويلة متكاملة من التكيفات الدارونية. الجمال هو عملية تكيفية نقوم بتوسيعها وتكثيفها في خلق الفن والتمتع به، ولكن مع كل ذلك لاتزال هناك صفة اساسية في شخصية الأسلاف كامنة في رغباتنا الجمالية، لذا فان السؤال عن هل ان الجمال هو في عين الناظر؟ الجواب هو بالنفي، انه عميق في أذهاننا، هو موهبة تسللت من المهارات الذكية وحياة المشاعر الغنية لأسلافنا القدماء. ان ردود افعالنا القوية تجاه الصور الرمزية، او تعبيرات الشعور في الفن، او جمال الموسيقى، او سماء الليل، ستكون معنا ومع أحفادنا طالما استمر الانسان في الوجود.