الحكومة والدولة والاقتصاد في العراق الراهن
د. عماد عبد اللطيف سالم
2020-06-18 08:00
هذه "الحكومة" الجديدة، في هذه الدولة العراقيّة، المُتخبّطة والعاجزة، والغائبة أحياناً، تختلف عن سابقاتها في إمكانية تحويل التحديّات التي تواجهها الآن، إلى "مُمكنات" وفرص، ليس العراقُ مُهمّاً لأحدٍ الآن، كما كانَ قبل سنينٍ قليلةٍ خلت.
لا أحد (في الداخل والخارج) لديهِ الرغبة أو القدرة (أو كلاهما معاً) لـ "تغيير" النظام السياسي والاقتصادي القائم في العراق، الشيء الوحيد المُتّفَق عليه دوليّا، هو أن يبقى العراقُ بحدودهِ الحاليّة، موحّداً جغرافياً .. كما سوريا، كما ليبيا ولبنان واليمن، كما السعوديّة، كما كلّ إمارات وممالك وسلطنات الخليج "العربي- الفارسي".
الدول "الرئيسة" التي تتقاسمُ النفوذ والتأثير في العراق، لديها الآن من المشاكل ما يكفيها، ويفيض، وليست في وارد الإنفاق المادي (والمعنوي) على هذا الترف السياسي والعسكري غير المُجدي المُسمّى عراق.
"مُتلازمة" الظروف السياسية -العسكرية -الماليّة -الإرهابيّة في عهد السيد العبادي، و"مُتلازمة" الضعف -الفوضى-التخبّط في عهد السيد عبد المهدي، غيرُ فاعلةٍ الآن، كما كانت آنذاك، "القوى السياسية" التي بقيت تتحكّم في هذه "الدولة" طيلة سبعة عشر عاماً، هي في أسوأ أوضاعها الآن، ولا يوجد ما يشير إلى أنّ وضعَ تحالفاتها، بل وحتّى "تخادمها المصلحي" سيكونُ (مستقبلاً) أفضل ممّا هو عليه الآن، بل إنّ جميع المؤشرّات والدلائل والمُعطيات، تُشيرُ إلى أنّ وضعها سيكونُ أسوأ بكثير، ممّا هو عليه الآن.
"الحراك" الشعبي يفتقر للإستدامة والفاعليّة، ورغم جسامة التضحيات البشرية التي رافقت الحراك "الإحتجاجي – الثوري" الأخير، فإن هذا "الحراك الإحتجاجي" لم يعُد قويّاً، ومُتجانِساً، و"مدعوماً"،، ولم يعُد مُحصّناً (نسبياً) من "الإختراقات" متعددة الأوجه والأطراف، كما كان الأمر في الإحتجاجات السابقة عليه.
لدينا "تفاهم" حكومي سابق مع صندوق النقد الدولي IRAQ – IMF STAND-BY ARRANGEMENT يتضمن "ترتيبات" مُعلنة، وأشتراطات "ضمنيّة"، ينبغي على "دولة" العراق الإيفاء بها، لكي تحظى بصكّ "الجدارة الإئتمانية" والماليّة، الذي لا يمكن لدولةٍ في العالم، أن تمارس أنشطتها الإقتصادية الرئيسة، ولا أن تفي بمتطلبات علاقاتها الإقتصادية الدوليّة (بما في ذلك القروض والإستثمار والتجارة) دون الحصول عليه.
وأؤكّد هنا على أن هذا "الإتفاق" هو بمثابة "تفاهم" على "ترتيبات"، وليس اتفاق على شاكلة "خطاب النوايا" الذي يوقعّهُ صندوق النقد الدولي عادةً مع الدول والحكومات، وأن المقصود بـ "اشتراطاته الضمنيّة" هنا هو ليس "الإملاءات "، لأنّنا ما نزال نُصنّف كدولة متوسطة الدخل، ووفيرة الموارد، وحاجتنا للدعم المالي من موارد الصندوق تبقى محدودة جداً في كلّ الأحوال، وستتسائلونَ الآن: إذا كان العراق ليس مُهمّا، أو لم يعُد مُهمّا للآخرين(كما قلتَ قبل قليل).. فلماذا هذا الإصرار من قبل المنظمات الإقتصادية الدوليّة(ومن يقف وراءها)،على تطبيق وتنفيذ هذه "الترتيبات"؟.
الجواب هو: أنّ عراقاً "مُفلِساً"، وعاجزاً عن إدارة موارده (المادية والبشرية) بالحدّ الأدنى من الكفاءة، هو بمثابة "لغمٍ" دوليّ مُعرّض للإنفجار في أيّ لحظة. والبلد المُفلس أو المُعرّض للإفلاس(ليس بسبب شحّة الموارد، ولكن بسبب سوء إدارتها)، هو بلدٌ مأزوم(اقتصادياً وسياسياً وإجتماعيّا)، وأستمرار هذا التأزّم سيجعلهُ خَطِراً على نفسهِ، وعلى جيرانه، وعلى المجتمع الدوليّ بأسره.
ولكي تقوم الحكومة الجديدة بتنفيذ هذه "الترتيبات"، فإنّ عليها أن تفي (بحكم الضرورة، وليس بحكم الإتفاق) بجملة التزامات، أهمّها ما يأتي:
- أن تختار قيادة "مُتفهّمة"، وكفوءة، ومهنيّة، لإدارة وزارة الماليّة الإتّحاديّة.. لأنّ جميع مفاتيح الحلّ والربط، والشدّ والضبط، هي في أيدي هذه الوزارة.
- أن تكون السياسة النقدية فاعلة وإيجابيّة، وأن لا يقف البنك المركزي على الهامش من كُلّ شيء، مُكتفياً بأداء وظائفه التقليدية (وغير التقليديّة أيضاً)، في بلدٍ يتفشّى فيه الفسادُ والخراب، أكثرُ ممّا يتفشى فيه التضخمّ، و"إنهيار" قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار.
- يجب أن تكون وزارة التخطيط عاملاً فاعلاً ومسُاعِداً في تحقيق "الإصلاحات" المطلوبة، وأن يتمّ استخدام قدراتها في إعداد البيانات والمسوحات والإحصاءات (وتطوير هذه القدرات) لدعم عمل وزارة المالية والبنك المركزي، في سعيهما الحثيث لتنفيذ الإصلاحات الإقتصادية والمالية المُناطة بهما، بأسرع وقتٍ ممكن.
- أن تُغادِر "الدولة" العراقية، وإلى الأبد، منهجها السابق في التوظيف السياسي"الشعبوي" للإقتصاد.. ومن بين ذلك، أن تتوقف إلى الأبد عن "توظيف" مواطنيها دون حساب اقتصادي سليم للكلفة والعائد، ودون توافق دقيق مع احتياجات سوق العمل.. وأن تتوقف إلى الأبد عن نمط إدارتها البائس للإقتصاد، بعدّه نمطاً لإدارة الرواتب والمخصصّات، التي تمنحها بسخاءٍ عند اليُسر، وتُحوّلها إلى مكاسب ومزايا اجتماعيّة راسخة يصعب التنازل عنها، وتعودُ فتأخذها(بصعوبةٍ ومرارة)عندما يشحُّ لديها المال.
- أن تُراجِع السلطة النقدية، مُراجعة جادّة، أساليب عملها الهادفة لتحقيق الإستقرار في الكتلة النقدية المتداولة(أو مايُسمّى بـ "تعقيم" الكتلة النقدية من خلال الإعتمادات والحوّالات والبيع النقدي).
إنّ أهمّ أدواتها لتحقيق ذلك(وهي نافذة بيع العملة) يشوبها الكثير من شبهات الفساد، ومن خلال هذه "النافذة" تمّت تلبية طلبات تعزيز أرصدة المصارف في الخارج (لما يُفترَض أنّهُ تأمين حاجة السوق من الإستيرادات الخارجية للعراق، وللأغراض الأخرى، كتحويلات المقيمين الشخصية، وغيرها)، بمبلغ وصل إجمالاً الى 399 مليار دولار خلال المدة 2003، ولغاية نهاية السنة المالية 2018.
أمّا في ما يخصّ البيع النقدي فقد بلغ إجمالاً ما يقرب من 99 مليار دولار (للمدة ذاتها اعلاه)، ليشكّل مانسبته 20% من اجمالي مبيعات "النافذة" من الدولار، وبهذا يكون اجمالي مبيعات "النافذة" من الدولار، قد بلغ 498.669 مليار دولار خلال السنوات 2003-2018 .. أي ما يقرب من نصف ترليون دولار!.
(المصدر: البنك المركزي العراقي، نافذة بيع العملة /2019، P23 .. وتجدون رابط المصدر في نهاية المقال).
- على صنّاع السياسة النقدية في العراق إدراك حقيقة مفادها : أنّ الاقتصاد العراقي يتّجه إلى مزيدٍ من البطالة والركود .. لأنّ دور البنك المركزي في تمويل عجز الموازنة العامة (من خلال "تنقيد" الدين)، مايزال دون المستوى المطلوب . فمهما بلغ حجم " تنقيد الدين" في العراق فإنّهُ لن يجعل الإنفاق الحكومي يرتفع إلى درجةٍ تجعل حجم الطلب الكلي يرتفع إلى الحدود القصوى للطاقة الإنتاجية المحليّة .. أو يُوَلّد "موجات" تضخميّة "تسوناميّة" كاسحة .. وذلك طالما كان مستوى الطلب الكلّي على السلع والخدمات المستوردة، يقع ضمن حدود الإمكانات المتاحة لإحتياطيات البنك المركزي، وقدرته على سد فجوة العملة الأجنبية.
- على السياسة المالية أن تتوقف عن ربط المشكلة الماليّة بعامل واحد، هو عدم كفاية ايرادات صادرات النفط لتمويل الإنفاق الحكومي، ومقارنة قيمة مبيعات صادرات النفط بالرواتب .. وأن تعمل بالتنسيق مع السياسة النقدية من أجل معالجة العجز في ميزان المدفوعات الخارجية .. وذلك لأنّ ايرادات النفط، هي المصدر الوحيد تقريباً لتمويل استيرادات العراق (الحكومية والخاصة) من السلع والخدمات، والمدفوعات الخارجية الأخرى.
-على صنّاع السياسة الإقتصادية العامة في العراق إدراك حقيقة مفادها: أنّ عجز الموازنة العامة في العراق هو نتيجة لإنخفاض سعر النفط في السوق العالمية، وليس بسبب انخفاض العائدات الضريبية، وزيادة الإنفاق. وإنّ ايرادات الموازنة العامة هي متغيّر مُستقِلّ تماماً عن الإقتصاد الوطنيّ (أي عن الطاقة الإنتاجيّة الكليّة للسلع والخدمات، وتشغيل القوى العاملة، والتكاليف والأسعار) .. وإنّ الفائض والعجز في الموازنة العامة تابعان لحركة وتذبذب سعر النفط في الخارج، وليس نتيجة لتخفيض أو زيادة الإنفاق الحكومي داخل العراق. (لمزيدٍ من التفاصيل، أنظر: أحمد ابريهي علي، تمويل عجز الموازنة العامة في العراق .. وهو المقال الذي سبق وأن قمت بعرضه عليكم هنا قبل أيام).
- لقد آن الأوان لأن تقوم "الدولة" العراقية بعملٍ جادٍّ لتنويع مصادر الدخل والناتج في الإقتصاد، ودعم وتطوير(أو حتّى إعادة بناء)القطاع الخاص، وتعزيز الشراكة بين الدولة وبين هذا القطاع .. وبسط سيطرة الدولة على حدودها البرية والبحرية، ومنافذها الحدودية، وطرقها الداخلية، واملاكها العامة .. وعليها أيضاً أن تجدّد التزامها (أمام المجتمع الدولي) بالدفاع عن الحقوق الأساسسية لمواطنيها، وأن تفعل كلّ ما بوسعها لوقف الهدر والفوضى، والحدّ من الفساد.
أخيراً نودّ التأكيد هنا على أنّ "تشخيص" صندوق النقد الدولي (وغيره من المنظمات الإقتصادية الدولية) لـ "المرض" الإقتصادي العراقي ليس خاطئاً على الإطلاق، ولكنّ العيب (إن وُجِد) سيبقى كامناً في "الوصفات" التي مايزال أغلبها نمطيّاً ومُوَحّداً، والتي ما يزال الصندوق يرتكب من خلالها خطأه القاتل الرئيس، وهو اعتقادهُ الراسخ بأنّ هذه "الراجيتات" تصلح لمعالجة جميع من يعانون من الأعراض ذاتها، بغضّ النظر عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ظهورها (أو ظهور بعضها) على جسد المريض.
أمّا جعجعة "المُعارضين" لوضع "الترتيبات" التي تمّ "التفاهم" عليها مع الصندوق موضع التطبيق، فلا طائل من وراءها، ولا "طحين"، وبالذات ما يتعلق منها بـ "إصلاح" أنظمة التشغيل والتقاعد، وتحديد الرواتب والأجور والمخصصات، لموظفّي الخدمة الحكومية العامّة، وعلينا أن نعترف أنّ هذه "الأنظمة" و "القوانين" يشوبها الكثير من العيوب والفوضى والأخطاء.
إنّ هؤلاء "المُعارِضين" لن يجدوا دعماً من السياسيين، الذين أتت الحكومة من تحت معاطفهم أصلاً، والذين يعرفون "أجندتها" جيداً، بل ويعرفونها أكثر من جميع هؤلاء المعارضين، الذين يتكوّنون أساساً من مجموعات "نقابية" غير متجانسة، ومتقاطعة المصالح، تسعى أساساً لخدمة منافع مادية "وظيفيّة ومهنيّة" ضيّقة، منحتها لهم دولة "المكرمات" (عندما كانت العائدات النفطية كريمة معها)، وها هي أوّل من يسعى لاستعادتها منهم الآن.