افلاطون ونيتشة: أوجه التشابه والاختلاف في نقد الفن
حاتم حميد محسن
2020-04-11 08:35
ان المشروع الفلسفي لافلاطون ونيتشة هما على طرفي نقيض كما هو في أي من المشاريع الفلسفية المتضادة. هذا الانطباع له ما يبرره. افلاطون هو فيلسوف العالم الآخر جادل بأن حواسنا لا تكشف اية حقائق ثمينة او اساسية. نيتشة هو المضاد للفلسفة الافلاطوية، منكرا ورافضا كل ما هو خالد وتام ومتجاوز. غير ان هناك بعض التشابه المتجاهل بين افلاطون ونيتشة في افكارهما الجمالية يبيّن انهما لديهما بعض الارضية المشتركة غير المتوقعة.
هما كلاهما يهاجمان اصنافا واسعة من الفن، جادلا بان مثل هذا الفن مثير للإشكال اجتماعيا. المشكلة لدى كل منهما هي ان الفن يمكن ان يؤثر سلبيا على تطور الانواع العليا من الناس.
ولكن ربما هناك من يقول "اننا نتذكر موقف افلاطون المضاد للفن ولكن ألم يكن نيتشة مؤيدا للفن، حتى انه في اوقات معينة وضعه فوق العلم؟
نعم. نيتشة، طوال عمله يشجع الفن كواحد من أهم النشاطات الانسانية، وان بعض الناس الذين اُعجب بهم كثيرا هم من الفنانين. غير ان علاقات نيتشة مع الفن هي اكثر تعقيدا من مجرد القول نعم او لا. هذا يبدو حتى اثناء لحظة خاطفة لكتاباته الناقدة لحياة وموسيقى صديقه السابق ريتشارد واغنر (Richard Wagner). الهجوم الاخير لنيتشة على واغنر هو جزء من تفسير واسع لطبيعة وقيمة الفن وهو ما يعطي معيارا للتمييز بين الفن الثمين وغير الثمين. وكما في فلسفة افلاطون الجمالية، هذه المعايير تتصل وبعمق بالاهتمامات الميتافيزيقية والاخلاقية الأوسع. سوف ننظر بالكيفية التي ينظر بها كل من الفيلسوفين للفن وما هي اوجه التشابه والاختلاف بينهما في سياق فلسفتهما الواسعة.
نيتشة وافلاطون ضد الفن
معظم جدال نيتشة الذي سوف نستخدمه يتخذ شكله الواضح في القول رقم 370 من (العلم المرح). ونفس القول مع تعديل بسيط هو ايضا في نيتشة المضاد لواغنر. الجدال كان موجها ضد الفن الرومانسي والمسيحي، وفي جوانب معينة، انه يشبه بعض حجج افلاطون ضد الشعر في حوار أيون (Ion) وفي (الجمهورية).
يرى نيتشة ان جميع الفن يساعد في تخفيف المعاناة الناتجة اما عن عدم كفاية الحياة underabundance ("عدم كفاية الفن والموسيقى").او من فائض الحياة overabundance. ان وفرة او فائض الفن هو محايد اجتماعيا او مفيد، لكن عدم كفاية الفن عادة ما تتجلى في احدى طريقتين سلبيتين. هذا الشكل من الفن اما يأخذ شكل انتقام مدمر من العالم او يجعل عدم الكفاية مثالا. كلا هذين التأثيرين يكبحان انتاج وازدهار الناس العظماء، والذي هو الهدف النهائي لنيتشة.
جدال افلاطون هو معاكس، لكنه يصل الى فكرة ان الفن ممتع لكنه مضلل وبالتالي خطير. في حوار (أيون) هو يرى ان الفلاسفة وليس الشعراء يجب ان يكونوا معلمي الاغريق طالما ان عبقرية الشاعر تأتي من الجنون الموحى دينيا بدلا من ان يأتي من المعرفة، والناس العارفين يجب ان يكونوا هم المعلمين. بكلمة اخرى، الشاعر الموحى والجاهل يجب ان يصمت ولا يحاول تعليم اي شخص اخر من خلال الانشاد. في (الجمهورية) هو يجادل ان الشعر يجب ان لا يُسمح له في المجتمع المثالي لأنه يحفز الناس على محاولة تبنّي ادوار اجتماعية لا تتناسب معهم، وهذا يؤدي الى عدم انسجام اجتماعي.
جدال نيتشة
معظم الافكار الهامة والشهيرة لنيتشة وُجدت اولاً في (العلم المرح). الاقسام الأربعة الاولى من هذا العمل كُتبت في العام 1881-1882 كنضج لعمله السابق (الفجر) وتشكل بدرجة ما الازدهار الاول في افكاره التي سوف يطورها في اعماله اللاحقة، بما في ذلك الرغبة بالقوة، موت الاله، العودة الأبدية، إعادة تقييم كل القيم، وطبيعة وقيمة عظمة الانسان. القسم الاخير كُتب لاحقا، نُشر في الطبعة الثانية عام 1887، ويحتوي على افكار حتى اكثر من افكار نيتشة الناضج. الأقسام المبكرة تحتوي على سلسلة من الأقوال او الحكم (aphorisms) خاصة في الفن(76-107)، لكن القول (370) جاء من القسم الأخير، وبهذا فهو يأتي من ذهن نيتشة فقط قبل سنوات قليلة من انهياره نحو الجنون، وبعد انفصاله عن واغنر (وربما كما يُقال، بعد وفاة واغنر عام 1883).
هذا هو جدال نيتشة ضد الفن الرومانسي والمسيحي، المرتكز على القول (370) وعدد آخر من الأقوال:
1- كل الفن يُنتج في خدمة الحياة، للتخفيف عن بعض انواع المعاناة او المرض.
2- الفن – كدواء – يمكنه علاج اما الوفرة المفرطة في الحياة overabundance والتي يجب تصريفها، او نقص الحياة underabundance والتي يجب ان تُستكمل.
3- الفن الذي هو علاج لنقص الحياة عادة يجسد نفسه كانتقام من الحياة: اما كتدمير انتقامي للعالم الذي هو مصدر معاناة الفنان، او في تخليد معاناة الفنان كمُثل.
4- استهلاك اي نوع من الفن الناقص الحياة له تأثيراته على المستهلك، بالذات في منع ازدهار الارواح العظيمة.
5- الارواح العظيمة هي ثمينة، لذا عندما شيء ما يمنعها من الازدهار فان ذلك الشيء يجب ان لا يُنتج.
6- لذلك فان الفن الذي يُصنع كعلاج لنقص الحياة – والذي يتضمن الاوبرا الوارغانية، والفن التشاؤمي الرومانسي والفن المسيحي – يجب ان لا يُنتج.
الأقوال الثلاثة الاولى اُخذت مباشرة من (370). هنا يقول نيتشة:
"كل فن ربما يُنظر له كعلاج ومساعد في خدمة نمو وصراع الحياة، هو دائما يفترض سلفا المعاناة والمعانين.ولكن هناك نوعان من الذين يعانون:
اولا، اولئك الذين يعانون من الوفرة المفرطة للحياة هم يريدون فنا ديونيسيا Dionysian art ورؤية تراجيدية للحياة، وثانيا اولئك الذين يعانون من فقر الحياة، ويبحثون عن الراحة، الهدوء، البحار الهادئة، خلاصهم من انفسهم من خلال الفن والمعرفة، او التسمم، التشنجات، التخدير والجنون. جميع الرومانسية في الفن تمتثل للحاجات الثنائية للنوع الأخير الذي يتضمن شوبنهاور بالاضافة الى ريتشارد واغنر.. اولئك الذين يعانون كثيرا والأفقر في الحياة سيحتاجون قبل كل شيء الى الاعتدال، الهدوء والخيرية في الفكر والفعل ايضا.
باختصار، ضحالة معينة تُبقي الخوف بعيدا وتحيط الفرد بإفق متفائل..(المقدمة الثالثة). ان الرغبة بالتحطيم، التغيير، والتحول يمكن ان تكون تعبيرا عن طاقة فائضة حاملة للمستقبل، ولكن يمكن ان تكون ايضا كراهية من هو سيء التكوين، المحروم من الحقوق، المفتقر للامتيازات، الذي يحطم ويجب ان يحطم لأن الوجود وكل ما يوجد حقا، يثير الغضب والتحريض.. الرغبة بالخلود تتطلب ايضا تفسيرا مزدوجا. انها يمكن تعزيزها اولا بالامتنان والحب.. لكنها يمكن ايضا ان تكون رغبة استبدادية لمن يعاني بعمق، المكافح، المعذّب، ويرغب تحويل الشخصي والضيق، وخصوصية معاناته، الى اكراه و قانون ملزم، شخص كما كان، ينتقم لنفسه من كل الاشياء بفرض رمزيته، رمزية المستقبل، عليها، وطبعها بها. هذه النسخة الأخيرة هي رومانسية تشاؤمية بشكلها الاكثر تعبيرا، وسواء كانت فلسفة شوبنهاور بالرغبة او موسيقى واغنر- التشاؤمية الرومانسية، هي الحدث العظيم الأخير في مصير ثقافتنا".
فائض الحياة مقابل فقرها
ماذا يعني ان تكون ممتلئاً بالحياة او مفتقرا لها؟ استعمال ما قبل نيتشة "للحياة" يفترض ان كل شيء حي هو ممتلئ بالحياة: لكي تكون مملوءاً بالحياة هو ان تكون حيا، ولكي تكون ناقص الحياة هو ان تكون ميتا او تموت. لكن هذا بالتأكيد لا يقصده نيتشة، ولا يقصد المعنى العامي لعبارة "مملوء بالحياة" الذي يشير الى الناس المتحمسين رغم ان هذا المعنى ربما أقرب الى نيتشة.
يرى نيتشة الناس يتشكّلون من مختلف الدوافع والقوى التي تعمل دون مستوى الوعي والتي تجسد ذاتها في الشخصية والميول والسلوك. ما يسمى "الرغبة الواعية" لا تعمل اي شيء سوى توفير توضيحات زائفة للفعل بعد حدوثه. الدوافع اللاواعية تتنافس مع بعضها وهي مختلفة القوة، الدوافع المنتصرة تجسد نفسها في الميول والفعل.
تطوّر قوة الدوافع يحدث من خلال الصراع الداخلي بين الدوافع ذاتها، والتي هي قوة مؤلمة. عبر النظر من خلال هذه العدسة، سنرى ان الناس المفرطين بالحياة هم مكوّنين من قوى داخلية قوية، وهذه القوى يجب ان تعبّر عن ذاتها احيانا في فن مفرط بالحياة.
الناس الناقصو الحياة هم مشكّلين من قوى داخلية ضعيفة، لذا هم يحتاجون اماكن راحة روحية ومفاهيمية ليستريحوا من الفعالية، او تحفزهم و تُسكرهم كي تمنحهم مؤقتا المزيد من الطاقة. يرى نيتشة ان نقص الحياة هو عادة ما يُعبّر عنه فنيا كانتقام من العالم، او تمجيد واضفاء المثالية على المعاناة ونقص الحياة. (من غير الواضح من كتاباته ما اذا كانت هناك اية طرق مفيدة اجتماعيا للناس ناقصي الحياة لعلاج نقصهم الحياتي).
بالاضافة الى تأثير الفن، يهتم نيتشة عموما بالظروف التي تنتج اناسا عظماء. الغذاء هو مجال متكرر للاهتمام. فمثلا، هو يسأل، "هل قام أي شخص بدراسة لمختلف الطرق في تقسيم اليوم او لنتائج جدول منتظم للعمل، او للاحتفالات، وغيرها؟ ما هي التأثيرات الاخلاقية لمختلف الأطعمة؟ هل هناك اي فلسفة للتغذية؟ (العلم المرح، قول 7). اجزاء كبيرة من مشروع نيتشة الجمالي والسايكولوجي يتألف من مخطط لفلسفة الاستهلاك هذه. هو يبحث عن وسائل لغاية ما يعتبرها الاكثر قيمة في حياة الانسان: ليس المتعة او غياب الألم، ليس الفضيلة، ليست العقلانية، وانما العظمة. هنا نتّبع تفسير (Brian Leiter) لفلسفة نيتشة الاخلاقية (2008).
بموجب هذا التفسير، يكون نيتشة ذرائعيا، يحكم على القيمة الاخلاقية للحدث تبعا لتأثيره. هو ايضا كمالي او منشد للكمال، يعتبر الشيء ذو قيمة فقط عندما يساهم في تطوير عظمة الانسان. حماسة نيتشة لعظمة الانسان تربط كليا مشروعه الاخلاقي والجمالي والسايكولوجي. هو دائما يحاول تحديد الظروف التي تشجع او تثبط العظمة. التعامل مع الفن والموسيقى كأشياء للاستهلاك، والتي لها تأثيرات لاواعية وسايكولوجية على المستهلك، هو منسجم مع انكار نيتشة لفكرة اننا نستطيع بوعي اختيار او تقرير شخصيتنا وسلوكنا.
ما هو الدليل لدى نيتشة بان استهلاك الفن الناقص الحياة يمنع تطوير عظمة الانسان؟ هذا هو نيتشة الذي يقول "من لم يقتلني يجعلني أقوى"، والذي عادة يبدو كأنه يزعم نوع من المحنة كشرط مسبق لإزدهار الانسان. هل هو يعتقد ان الظروف الثقافية السلبية التي تخلق السحر المغري والفخ للضعفاء، هي حقا جيدة لتطوير الناس العظماء؟
الموقف من واغنر (1888) يجعل من الواضح انه لا يعتقد بهذا. الموسيقى غير التامة تشجع وتثري الارواح النابضة سلفا بالحياة. وحول موسيقى بيزيت هو يقول، "هل لاحظ اي شخص ان الموسيقى تحرر الروح، تعطي اجنحة للفكرة، وانه كلما أصبح المرء موسيقيا كلما اصبح فيلسوفا اكثر"(CW1). يبدو ان نيتشة يعتقد بانه على الاقل بعض قيمة الموسيقى المفرطة بالحياة تنبثق من الكيفية التي تثير بها التغيرات المفضلة لدى المستمع.
وهناك الكثير ما يقوله نيتشة حول التأثير المفسد للموسيقى الناقصة الحياة، مستهدفا واغنر: "انا لا اظن اوافق على هذا السلب المنحط لصحتنا. هل ان واغنر انسان؟ الم يكن مرضا؟ هو يلوث كل ما يلمس. هو جعل الموسيقى مريضة.. ولا احد يحترس ضده. قوته بالاغراء نالت مدى وحشيا.. وهو بالتأكيد لم يحوّل فقط فقير الروح لجانبه.. فن واغنر مسبب للمرض.. واغنر اكبر مفسد للموسيقى"(CW5). من الواضح ان نيتشة لديه مشكلة معينة مع واغنر، لكن هذه الاقتباسات تشير ايضا الى قلق عام حول الفن وتأثيره. الموسيقى يمكن ان تكون مرضا تفسد المستمع، يتضرر بها ليس فقط فقير الروح وانما ايضا القوي والصحي سيُصاب بهذا السم المغري.
نيتشة يعتقد ايضا ان الفن الناقص الحياة هو ضار حتى اجتماعيا لأنه يمنع ازدهار الانسان العظيم، وهذا لا يعني بالضرورة ان مثل هذا الفن لا يجب ان يُنتج، والذي هو المقدمة الخامسة في الجدال. ربما الفن الناقص الحياة يعمل ضد تطوير الناس العظام، ولكن فيه سمات ايجابية اخرى تجعله ذو قيمة؟ نيتشة ايضا الفيلسوف الذي يقول "انا اريد اتعلم الكثير والكثير لأرى كجميل ما هو ضروري في الاشياء.. انا لا اريد الحرب على ما هو قبيح، انا لا اريد ان اتّهم، انا لا اريد اتّهم اولئك الذين يتّهمون" (GS276). ايضا: "انا امقت كل تلك الاخلاق التي تقول:"لا تفعل هذا، تنازل، اهزم نفسك"(304). الدعوة لوضع نهاية للفن الناقص الحياة تبدو تماما مثل اخلاقية التنازل.
مع ذلك، في موقف واغنر من الواضح انه يعتقد ان الفن الناقص الحياة خاصة فن واغنر يجب ان لا يُنتج: "انه ثمن باهض يدفعه التابع لواغنر. ماذا صنعت عبادة واغنر للروح؟.. يعود له كل ذلك الغموض والمراوغة وكل الصفات الاخرى التي تقنع المقابل دون ان تجعله واع بما يقتنع به. بهذا المعنى، يكون واغنر مغر من الحجم الكبير. لا شيء هناك مستنزف، لا شيء عقيم، لاشيء خطير على الحياة، لم يجد غطاءً له في فنه.. هو يمدح كل غريزة عدمية (بوذية) ويطلقها في الموسيقى، هو يمدح كل شكل للمسيحية، كل تعبير ديني للانحطاط الاخلاقي...هو يسرق شبابكم، نساؤكم ايضا ويجرهم الى زنزانته. (CW postcript). اذا لم تكن هذه دعوة لقمع موسيقى واغنر فماذا ستكون؟
تصور افلاطون للعظمة
حتى الان فحصنا الاسس التي اعتمدها نيتشه في جداله ضد الفن الناقص الحياة دون ان نتطرق للعلاقة بين هذا الجدال وافلاطون. دعنا اولاً نتطرق لموقف افلاطون من الفن.
في كتاب (الجمهورية) يحاول افلاطون تحديد ماهية الدولة المثالية. طبقة الحراس، التي تضم الحاكم الفيلسوف في مدينة افلاطون المتخيلة، يجب ان تتلقى تعليما جيدا لكي تطور الجزئين الروحي والمنطقي من روحها، طالما انه من الضروري لأفراد الطبقة انجاز مهامهم الاجتماعية المنوطة بهم، ويكونون مجهزين للعدالة. الشعر خصوصا الشعر الذي يصف الآلهة وهم يقومون بأشياء مثل القتال، الاغراء، الكذب او التغيير كل ذلك يؤذي تعليم الحراس من خلال تلقينهم اشكالا مثالية تنقل دروسا سيئة. الموسيقى او الرقص تشجعان الطموحات او المشاعر التي لا ينبغي للحراس امتلاكها (الحزن مثلا) وهي ايضا تُعتبر مؤذية. لكن الجزء الأكثر اهمية في القصة هو رؤية افلاطون للنوع الأعلى من الناس وكيف ترتبط هذه الرؤية بمشروعه الجمالي. هنا يتضح الكثير من الشبه او عدم الشبه مع نيتشة.
مختلف حوارات افلاطون تضع تمييزا بين الأنواع العليا والدنيا من الناس. في حوار (فيدو)، يصف افلاطون مخططا من تسعة اجزاء يجب ان تقع فيه الروح، حيث ارواح الفلاسفة في القمة وارواح المستبدين في القعر. اذا كان نيتشة يتفق مع هذا الموقف، فلابد من ملاحظة ان الفيلسوف الحقيقي بالنسبة لنيتشة هو الخالق للقيم الجديدة، وليس من يحدد المفاهيم الثابتة كما بالنسبة لافلاطون. منْ يقرر موقع الروح في مخطط افلاطون هو درجة اطلاع الروح على الأشكال قبل ان تهبط الروح في البدن، بالاضافة الى مقدرة الروح على تذكّر تلك الاشكال عند تجسيدها.
اشكال افلاطون هي قصة اخرى، ولكن باختصار، كل الاشياء التي نتصورها من خلال حواسنا هي ضلال للجواهر الابدية التي يمكن معرفتها بالعقل وحده. هذه الجواهر هي الاشكال المحبوبة لافلاطون. الهيكل التراتبي للارواح هو مشابه للهيكل التنظيمي للحكومات والناس في الكتاب التاسع من الجمهورية، لكن معظم كتاب الجمهورية لا يعطي الكثير من التفاصيل حول الفروقات، مقدما فقط ثلاثة اصناف عامة ينتمي لها الانسان، تتطابق مع الاجزاء الثلاثة للروح وهي الراغبة، والروحية، والمنطقية. وهكذا، المجتمع المثالي فيه ثلاث طبقات اجتماعية. الناس الراغبون هم الناس العاديين والفلاحين والحرفيين والتجار والعمال الذي يشغلون ادنى طبقات المجتمع، يقومون بجميع العمل المألوف تحفزهم الرغبة بالمتعة والنقود. الناس الذين هم اكثر تحفزا هم العسكريون الذين يحمون المدينة. واكثر الناس منطقا هم الحراس الذين يحكمون المدينة. الحراس هم الطبقة العليا لدى افلاطون وفيهم الملك الفيلسوف. هم حكماء، شجعان، معتدلي المزاج، عادلون، من خلال امتلاكهم معرفة عميقة بالأشكال.
هذه المعرفة يجب ان تُغرس. الكثير من كتاب الجمهورية يتألف من تحليل للتعليم الذي يجب ان يتلقاه الحراس. اذا كان الحراس غير سعداء بالدور الموكل اليهم، او ليس لديهم الشجاعة الكافية، عندئذ هم سيكونون غير قادرين على التفوق في فن العدالة. هم يجب ايضا ان يمتلكوا معرفة حقيقية بالاشكال الافلاطونية، طالما ان هذه المعرفة يجب ان تتحكم بالقرارات التي يجب ان يتخذونها. قدرة الحراس على التذكّر وفهم الأشكال تتطور وتُربّى من خلال التعليم. الشعر والقصة لايقدّمان معرفة، وكما يجادل افلاطون في حوار (ايو)، ان الشعراء يتأثرون بجنون ديني ولا يمتلكون المعرفة التي يستطيعون نقلها وبهذا يجب ان لا يتأثر بهم الحراس.
يرى افلاطون ان الآلهة كائنات تامة، ولهذا هم يصبحون اقل كمالا خلال التغيير، وسوف لن يختارون ابدا تغيير انفسهم. سيكون من السوء للحراس استبطان الاخلاق التي تصبح شيئا اقل مما يتناسب معهم، مثلا، ان يصبح الحارس اسكافيا. الالقاء الشعري والدراما يستلزمان التقليد من جانب المنشد او المسرحي، وهو سيء لأنه يوحي ان الشخصية ليست ثابتة، وان التغيير مقبول وممكن. في جوهر هذه الجدالات تكمن الحاجة الى الاستقرار. الدولة العادلة هي مستقرة وسعيدة كنتيجة لكونها منظمة طبقا للأشكال المثالية الأبدية اللامتغيرة. الفيلسوف يتحلّى بالفضيلة نتيجة لمعرفته بتلك الاشكال. كونك فيلسوف هي حالة باطنية قيّمة للفرد، وهي وظيفيا ضرورة لعمل المجتمع المنظم جيدا، ذلك لأن الفلاسفة وحدهم يدركون الواقع الحقيقي الكامن وراء المظاهر، ولذلك يفهمون عالم الاشكال بما فيه شكل الخير الذي تُشتق منه العدالة.
مقارنة بين تصورات نيتشة وافلاطون
النوع الأسمى من الناس لدى افلاطون هم الذين يشتقون فضيلتهم من معرفة الأشكال وقادرين على ان يطبّقوا عمليا المعرفة لجعل المجتمع اكثر انسجاما واستقرارا. ولكن ما هي قيمة الرجل العظيم لدى نيتشة؟ الجواب عن هذا السؤال يكشف عن النقطة الجوهرية في الخلاف بين افلاطون ونيتشة. الانسان العظيم لدى نيتشة هو الذي يحتضن ويسهّل التغيير، ويتحرك بقوى عنيفة وغير عادية (CF GC 26,55). هو يقبل ويؤكد الحياة والعالم بعد الاعتراف التام بموت الاله وفقدان أي نظام متجاوز للعالم. هو شخص ممتلئ بالحياة، واذا كانت حوافزه القوية تقف بالضد من معتقدات المجتمع وقيمه فهو سيحطم تلك القيم القديمة ويخلق قيما اخرى جديدة، هذا الاختراع للقيم يشكّل قيمهُ الاجتماعية (Gs4,10,39,50). لذا فان طبيعة وقيمة عظمة الانسان هي في تضاد مع افلاطون.
العظمة لدى افلاطون تُشتق من العلاقة مع الخالد واللامتغير، بينما العظمة لدى نيتشة تأتي من احتضان الفرد للمؤقت والتغيير من خلال الامتلاء بالحياة. كلا الفيلسوفين لديهما انواع معينة ضارة من الفن لأنها تكبح خلق وازدهار الأنواع العليا من الناس. خلافهما يكمن كليا في الطريقة التي نفهم بها عظمة الانسان. هذا التقييم المختلف للعظمة يقود الى تقييم مختلف لما هو مضر في المجتمع. فن الحياة الناقصة لدى نيتشة يتبنّى الانتقام من العالم المؤقت ويصف المعاناة كمثال خالد، بينما الشعر لدى افلاطون يحرّض على التغيير وعدم الامتثال للمواقع والهياكل الاجتماعية. لذا علينا الانتباه قبل شراء بطاقة للحفل القادم، ان نتأكد أي نوع من العظمة نسعى اليها.