أسئلة الانتخابات الإيرانية وتساؤلاتها
عريب الرنتاوي
2020-02-24 04:35
حتى كتابة هذه السطور، لم تكن نتائج انتخابات مجلسي الشورى والخبراء في إيران قد أعلنت، لكننا نعرف تمام المعرفة، أن الغلبة فيها ستكون من نصيب التيار الثوري – الأصولي المتشدد... فحين تقرع طبول الحرب وتتعالى أصواتها، وحين يزداد التهديد الخارجي، تتراجع أصوات التيار الإصلاحي – المعتدل، وتتوارى في زوايا ضيقة ومعتمة، تطاردها الاتهامات بالتخاذل أمام العدو وأحياناً التواطؤ معه.
أكثر الأرقام أهمية في هذه الانتخابات هو ذاك المتعلق بنسبة الاقتراع، ذلك أن القادة الإيرانيين من مختلف المستويات والمشارب والمرجعيات، لم يدخروا ما بوسعهم لحث الناخبين على الإدلاء بأصواتهم، حتى أن المرشد الأعلى، اعتبر الاقتراع "واجباً دينياً" فيما يرقى إلى مستوى "الفتوى" بوجوب الذهاب إلى صناديق الاقتراع وملئها بالأوراق.
تريد طهران خلق "تظاهرة انتخابية" تبعث برسالة إلى خصوم الداخل والخارج، بأن النظام السياسي – الثوري الإيراني، ما زال يحظى بتأييد والتفاف الغالبية الساحقة من الإيرانيين، إن لم نقل الإيرانيين جميعاً... لقد وجدت القيادة الإيرانية في التشييع المهيب للجنرال قاسم سليماني "جرعة دعم قوية للنظام"، بيد أن مفعول هذه الجرعة، سرعان ما تلاشى، ما أن تكشفت فصول الإدارة المرتبكة والسيئة لفاجعة الطائرة الأوكرانية، وخروج مئات ألوف المتظاهرين الإيرانيين، سيما طلبة الجامعات، في تظاهرات احتجاجية، "خرقت كل السقوف" بهتافاتها وشعاراتها وبصور القادة والشهداء التي جرى تمزيقها وحرقها... إيران اليوم، بحاجة لاستفتاء ثانٍ على "شعبية" و"شرعية" نظامها، والانتخابات هي أقرب وأهم محطة لفعل ذلك.
قلنا إن نتائج الانتخابات تكاد تكون محسومة سلفاً، مع "هامش خطأ وصواب" محدود للغاية، ونرد ذلك إلى عاملين اثنين: الأول؛ أن هذه الانتخابات تكاد تكون "استفتاءً" حول من مع النظام ومن مع الولايات المتحدة، إذ أنها تلتئم في ذروة سياسة "الضغط الأقصى" التي تفرضها إدارة ترامب على الجمهورية الإسلامية... والثاني؛ أن مجلس صيانة الدستور، والذي يعمل بوصفه "مصفاة" لتنقية المرشحين، وإجازة أو عدم إجازة ترشيحاتهم، وجه ضربة نجلاء لكل من رأى أنهم "الأقل إخلاصاً" لنظام "ولاية الفقيه"، حتى إن كثرة من المترشحين الذين رفضت ترشيحاتهم، اتهموا بمعاداة النظام، وهي تهمة تكفي لإلقاء أصحابها خلف القضبان.
والحقيقة أن النظام السياسي الذي أنشأته الثورة الإسلامية، لطالما أثار الجدل حول صلاحيته لتمثيل الأمة الإيرانية بمختلف كياناتها ومكوناتها واتجاهاتها، فالطريقة التي يجري بها توزيع السلطة، المدنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية، ونظام "المجالس المتعددة: صيانة الدستور، الخبراء، تشخيص مصلحة النظام وغيرها" التي تتوزع السلطات وتتقاسم الصلاحيات، تحت إشراف "مايسترو" واحد، "شبه معصوم"، وتوزيع القوة الأمنية والعسكري على عدة أجهزة متوازية، تجعل من الصعب التنبؤ بأي تغيير جوهري يأتي من داخل النظام بأدواته وآلياته، فنظام الـ’Checks and balances’، مصمم هنا لحفظ التوازنات داخل أجنحة السلطة ذاتها، وبهدف منع أحدها من التغول على الآخر، وخلق مراكز قوى متنافسة، يتربص بعضها بالبعض الآخر، وبما يحول دون حدوث "انقلاب" أو "ثورة في الثورة".
ويتوفر مجلس صيانة الدستور، المنوطة به مهام أساسية تتصل بالانتخابات، على "مسطرة" لا تشتمل على مختلف "تدرجات" الطيف السياسي والفكري، الاقتصادي والاجتماعي للأمة الإيرانية... وربما تكون هذه "المسطرة" قد اقتصرت على تدريجين اثنين فقط: موالي للنظام، وموالي جداً للنظام... أما بقية صنوف الفكر ومدارس السياسة من قومية ويسارية وليبرالية ووطنية وعلمانية، فليس لها "خانة" على هذه "المسطرة"، لذا نرى إحجامها عن المشاركة، وانكفائها بالمعارضة خفيضة الصوت، أو نرى بعض مرشحيها "المقنعين" بلبوس إسلامي، يتساقطون تباعاً على مذبح صيانة الدستور.
وحين يجابَه زملاؤنا من كتاب وأكاديميين إيرانيين بانتقادات من هذا النوع لنظامهم السياسي المغلق، يشهرون أحياناً سلاح "الخصوصية الإيرانية"، ويعزون الأمر برمته لحاجة إيران لمواجهة "مؤامرة الخارج وكيد المعتدين"، ولكنهم غالباً ما يلجؤون لمقارنة نظامهم بأنظمة عربية "سلالية" قوم على نظام "البيعة والولاء"، ولم تعرف الانتخابات في تاريخها الحديث أو القديم... والحقيقة أن وجود نظم حكم أوتوقراطية- سلالية مغلقة في جوار إيران، لا يجعل من نظامها نظاماً ديمقراطياً، فالمقارنة مع أكثر أشكال النظم السياسية تخلفاً، لا يعطي أصحابها "شهادة تفوق" ولا تنهض كدليل على صلاحية نظامها و"تمثيليته"، حتى وإن أمعنت بعض الديمقراطيات الغربية ومن بينها الولايات المتحدة، في محاباة تلك النظم السلالية، وغض الطرف بؤس نظمها السياسية وانغلاقها، وعن انتهاكاتها المنهجية المنظمة، لقواعد حقوق الانسان.
أما حديث "الخصوصية الإيرانية" فيذكرنا بحديث "الخصوصية العربية" الذي طالما استخدم لتبرير بقاء وتجديد أنظمة "التمديد والتجديد والتوريث" في العالم العربي، وبما يعني أن الديمقراطية بمعاييرها الكونية، لا تنسجم مع خصائص الأمة وموروثها الثقافي والتاريخي... ولنا في تجربة الصراع العربي – الإسرائيلي - من أسف - ما يدحض نظرية أن "التهديد الخارجي يبرر الانكفاء الداخلي على نظام مغلق وتعسفي"، فلو أن إسرائيل أقامت نظاماً على شاكلة الأنظمة العربية التي حاربتها، لما قُدّر لها أن تتفوق عليها في مختلف الحروب، ولما قُدّر لها أن تنتقل من توسع إلى توسع، وتبلغ في حقول المال والأعمال والاقتصاد، مستويات لم تبلغها دولة عربية واحدة.
والحقيقة أن ثمة شواهد عديدة، قديمة وجديدة، تبرهن بما بالملوس، أن نظام "ولاية الفقيه" الممتد لأكثر من أربعة عقود من الزمان، يخفق في تمثيل مختلف مكونات الأمة الإيرانية وكياناتها، وأنه غير قادر على استيعاب التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية، التي تتوزع عليها الأمة الإيرانية... لقد بدا هذا الأمر واضحاً في العشرية الأولى للثورة "التي أكلت أبناءها" من يساريين وشيوعيين وحتى إسلاميين ليبراليين ومتنورين، وهو يزداد وضوحاً في الآونة الأخيرة مع تنامي حركات الاحتجاج الشعبية وتتالي ظهورها كموجات متعاقبة، وتحول الانتخابات إلى مناسبة للتعبير بأشكال مختلفة، عن الضيق بقيود هذا النظام ومسطرته "القصيرة" للغاية.
هنا، وهنا بالذات، يصبح بالإمكان تأكيد و"تعميم" الاستنتاج بأن تجربة الإسلام السياسي في الحكم، في طبعتيه، السنيّة والشيعية، والتي اختبرت في عدة ساحات على امتداد المنطقة العربية والإقليم، تظهر بما يدع مجالاً ضيق القائمين عليها بالتعددية السياسية والفكرية، وعجزهم عن حفظ حقوق "الآخر" في الدين والمعتقد والفكر والسياسة، وقصورهم عن حفظ وحدة البلاد والعباد، ومن آيات ذلك، أن محاولة نظام البشير تطبيق "الشريعة" في السودان، لم تفض إلا إلى انفصال الجنوب، وتهديد مناطق سودانية أخرى بالانفصال، كما أن جنوح "الأردوغانية" لخطاب ديني – مذهبي، سنّي، لم يفض إلا إلى تعزيز الاستقطاب الإسلامي - العلماني في المجتمع التركي، وتراكم إرهاصات نشؤ "مسألة علوية" قد تصبح عنواناً من عناوين التصدع التركي الداخلي، إلى جانب "المسألة الكردية"، وثمة ما يكفي من الأمثلة والتجارب الدالّة على خطورة هذا الطريق وانسداده.