مكونات الدولة المدنية
محمد محفوظ
2020-01-25 06:34
من البديهي القول: إن الدولة كمفهوم هو من المفاهيم الوضعية "والذي تبلور عبر إسهام أجيال متلاحقة من المفكرين والسياسيين.. وقد وضعه البشر من أجل بناء جهاز ينظم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية".. وبالتالي فإن الدولة في مفهومها ووظائفها ومهامها وهياكلها الإدارية والعملية، هي دولة مدنية.. أي أن هناك قيم كبرى ومبادئ عليا في الدين الإسلامي، الدولة كجهاز معنية بهذه القيم.. ولكن الكيفية التي تحقق بها الدولة هذه القيم، هي كيفية إنسانية مدنية.. فكل الإبداعات والمبتكرات والمنجزات الإنسانية والحضارية، التي تفضي إلى الاقتراب والالتزام بمقتضيات هذه القيم هي محل احترام وتقدير..
وإن التفكير في النصوص الإسلامية السياسية، والتي تتعلق بشؤون الحكم والإدارة، وكذلك في التجربة الإسلامية النبوية، يجعلنا نعتقد وبشكل لا لبس فيه أن الدولة المدنية التي يرسي دعائمها ومكوناتها الإسلام، ليس إدعاء، وإنما لها مكونات أساسية، هي التي تحدد صدق مقولة الدولة المدنية من عدمها.. وهذه المكونات هي كالتالي:
1- التعاقد:
إن مفهوم الدولة في الرؤية والتجربة الإسلاميتين، هي دولة تعاقدية، وتنبثق هذه الإرادة التعاقدية من خلال جهد حر وواعي بين الحاكم ومكونات المجتمع الأخرى.. فالدولة ليست دولة غلبة وإكراه وانقلاب عسكري أو إلغاء لموقع الناس ورضاهم من إدارة شؤون الدولة والسياسة.. فالدولة في الرؤية الإسلامية الحضارية، وفي كل مراحلها، وفي كل مستوياتها ومؤسساتها، هي دولة تعاقدية، بحيث ينوب أهل الدولة ووفق انتخاب واختيار حر، عن المجتمع في إدارة شؤونه المختلفة.. فالدولة ليست بديلا عن المجتمع والأمة، وإنما هي وعاء إرادته القانونية والسياسية، والفضاء السياسي الذي يدير الشؤون العامة للأمة.. لهذا يقول الإمام علي بن أبي طالب (ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم)..
وبفعل الصيغة التعاقدية، تترتب حقوق ومسؤوليات كحق الشورى وحق الاختيار وحق المراقبة والمحاسبة ونصح القادة والاهتمام بالأمور العامة للمسلمين وما أشبه ذلك..
والحق السياسي هو الذي يهيئ للمواطنين جميعا المشاركة في اختيار الحاكم والطبقة السياسية الحاكمة ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقا لأنظمة الدستور ومواثيق العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وذلك عن طريق إبداء الرأي وإعطاء المشورة للحاكم، إما مباشرة، أو عن طريق فرد آخر ينيبه عنه..
2- المشاركة:
لعل من الفروقات الأساسية والجوهرية بين الدول الشمولية والاستبدادية، والدول الديمقراطية والمدنية، هو أن الدولة الشمولية مغلقة على فئة قليلة من الناس، هي التي تدير شؤونها وتتحكم في مسيرتها ومصيرها.. بينما الدول الديمقراطية، هي دول مفتوحة لكل الطاقات والكفاءات للمساهمة في الإدارة والبناء.. لهذا فإن الدول الاستبدادية، تحارب مبدأ ومشروع المشاركة، وتلغي كل مضمونه الدستوري والسياسي.. بينما الدول الديمقراطية تحض وتحث المواطنين على المزيد من الحضور والمشاركة في الشأن العام..
والرؤية الإسلامية السياسية، تعتبر كل المواطنين معنيين بشكل أو بآخر بالشأن السياسي والعام، وتحث الجميع على تحمل المسؤولية والمشاركة في الشؤون السياسية والعامة.. لهذا نجد الإمام علي ابن أبي طالب يدعو الناس للمشاركة في الشؤون العامة.. إذ يقول (فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكين لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا).. ويعظم الدين الإسلامي من شأن إبداء الرأي وحرية التعبير، إذ جاء في الحديث الشريف (من قتل دون حقه فهو شهيد، ومن مات دون مظلمة فهو شهيد، ومن مات دون كلمة الحق فهو شهيد، وأفضل من ذلك كلمة الحق عند إمام جائر)..
ولا ريب أن تعميق خيار المشاركة الشعبية في الحياة السياسية ومؤسسات الدولة، هو الذي يحول دون تغولها وغطرستها وخروجها عن مقتضيات دورها الحضاري المأمول.. فلا دولة مدنية ودستورية، بدون مشاركة الشعب على نحو دستوري وقانوني في شؤون الدولة والسياسة..
لهذا فإن من المكونات الأساسية للدولة المدنية، في كل التجارب السياسية، هو في مدى مساهمة ومشاركة المواطنين الحقيقية والفعلية في شؤون الحياة السياسية ومؤسسات الدولة المختلفة..
ومبدأ المشاركة الشعبية في الحياة العامة، ليس شعارا يرفع، أو يافطة تعلق، وإنما هي حقائق مجتمعية ودستورية ومؤسسية، تكفل هذا الحق وتفسح المجال للجميع للمشاركة عبر أطر وأقنية دستورية.. لذلك فإن شرط المشاركة الفعلية هو الحرية والديمقراطية.. فلا مشاركة بدون ديمقراطية، ولا خيار ولا حياة ديمقراطية حقيقية في أي تجربة، بدون مشاركة شعبية–مؤسسية في الحياة العامة.. لذلك فإن "الحرية ليست هواما ليبراليا كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس أرضية أو بديمقراطيات مثالية.. هذه أكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون في ما يخص تحديث المجتمعات العربية وتطورها.. ذلك إن الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما ينتجه من الحقائق أو يخلقه من الوقائع في حقل عمله أو في بيئته وعالمه.. ومن لا سلطة له ولا حرية له.. ولذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، أو المراس والخبرة، أو السبق والتجاوز أو الصرف والتحول، مما يجعل إرادة الحرية مشروعا هو دوما قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء".
3- المراقبة والمحاسبة:
لا يكفي لاستقامة الدولة والتزامها بالدستور، أن تكون منطلقاتها النظرية والأيدلوجية صحيحة.. ومع أهمية المنطلقات وضرورة سلامتها وصوابيتها، إلا أنها بوحدها، لا يمكن أن تعصم الدولة أو المسئولين فيها من الخطأ والزلل والانحراف.. لهذا فإن الأمر بحاجة إلى مراقبة مؤسسية وشعبية، وذلك لضمان سلامة المسيرة، والتزام كل المسئولين بالدستور ومقتضيات العدالة والمساواة..
والتعويل على الضوابط الأخلاقية والنوازع الدينية للمسئول، لا يحول دون الانحراف السياسي والسلوكي.. لذلك ومع كل الشروط والمتطلبات الدينية والأخلاقية التي ينبغي أن تتوفر في المسئولين، إلا أن مؤسسة الدولة بكل مستوياتها، بحاجة إلى جهاز رقابي مؤسسي وشعبي، يقوم بمراقبة الأداء وتقويم السياسات وتصحيح الاعوجاج، وتطوير الأعمال والممارسات..
لهذا نجد أن الأمام علي بن أبي طالب يطلب من الناس نصحه ومراقبته.. إذ يقول (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي).
فلا يمكن أن تبنى ديمقراطية، أو تسود قيم العدالة والمساواة في أي مجتمع، بدون مراقبة ومحاسبة ونقد للأداء والسياسات العامة.. فالمحاسبة والرقابة الدستورية، هي بوابة التصحيح، وهي سبيل التطوير والتحديث.. وحتى لا تكون هذه المسألة خاضعة للميولات والاعتبارات السياسية الضيقة، نحن بحاجة إلى مؤسسة رقابية مستقلة تقوم بدورها الرقابي والمحاسبي بمهنية تامة.. ولقد أبدعت الأنظمة السياسية الديمقراطية الحديثة، الكثير من الأطر المحاسبية والرقابية، التي تضبط نزعات الدولة في التفرد والاستئثار، وتحول دون التلاعب بالثروات العامة.. ولا أرى موانع دينية أو اجتماعية أو سياسية، تحول دون الاستفادة من هذه الإبداعات الإنسانية والحضارية، التي ساهمت بشكل كبير في تطوير أداء الدولة، وحدت من ظاهرة الفساد في مؤسساتها المختلفة..
والتوجيهات الدينية تحث على أخذ الحكمة بكل تجلياتها، من الإنسان بصرف النظر عن منابته الأيدلوجية والحضارية.. ويشير إلى هذه المسألة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بقوله: "لنأخذ الإنجاز العلمي في الحضارة الغربية أنه ليس شرا وإن كنا نتحفظ على الخلفية الفلسفية لبعض العلوم الإنسانية أو النتائج الوظيفية لبعض العلوم الفيزيائية والبيولوجية.. كالأبحاث الجينية التي تهدف إلى استنساخ البشر –أو الأبحاث الذرية الهادفة إلى أغراض التدمير– أو صناعة الأسلحة الجرثومية التي أنتجت اختلال البيئة وتلويث الطبيعة.. إن انجازات حضارية كبرى في الغرب ينبغي التعامل معها إيجابيا: الجانب التنظيمي والخدماتي في المدنية الغربية، الانجازات الفنية والإبداعية كالموسيقى والأدب.. يجب أن نتجنب الأحكام الإطلاقية، علينا أو عليهم أو على أية حضارة أخرى.. الموقف الإطلاقي ليس موقفا قرآنيا.. الموقف القرآني موقف نقدي وليس موقف إدانة.. والموقف النقدي موقف انتقائي..
إن الله سبحانه وتعالى مدح الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. لم يقل يتبعون (احسنهم).. يوجد سيء ويوجد أسوأ.. ويوجد حسن ويوجد أحسن.. والقول هنا هو القول المطلق، هو التعبير الشفهي والإنجاز العلمي، والممارسة والشكل التنظيمي..
إننا نختار الشورى كفلسفة حكم، ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات.. إن الديمقراطية هي أحسن القول الغربي من الناحية التنظيمية للمجتمع ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها".
فتطوير مؤسسة الدولة، وضبط نزعاتها في الهيمنة والإلغاء، بحاجة إلى تطوير العمل الرقابي في مؤسسة الدولة وفي المجتمع.. وبدون الرقابية الفعالة، ستعشعش الطفيليات وتنمو السلوكيات والممارسات المنحرفة..
لهذا كله: فإن التحديث السياسي في مؤسسة الدولة، لا يتم مهما كانت الدوافع والشعارات، إلا ببناء مؤسسة رقابية، ترصد بدقة الواقع، وتحاسب بشكل قانوني كل من يتورط بالفساد بكل صوره وأشكاله.. ولا بد أن نتذكر باستمرار "أن التنظيم الدنيوي أساس متين لاستقامة نظام الدين".
4- التداول والانتقال السلمي للسلطة:
الانتخاب وحرية الاختيار من قبل أبناء الشعب، هو الطريق للوصول إلى سدة المسئولية والحكم في الدولة المدنية.. لذلك فإن التداول للسلطة والمسئوليات العامة، من الأركان الأساسية للدولة المدنية.. فالدولة التي تغيب فيها أطر وعمليات التداول للسلطة والمسئوليات العامة، هي دولة شمولية، حتى لو ادعت الديمقراطية والانفتاح.. لأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، بدون تداول سلمي للسلطة.. فالمؤشر الحقيقي لديمقراطية أية دولة، هو في حقيقة التداول السياسي للحكم والسلطة.. فالمسئوليات السياسية للدولة بكل مستوياتها ودوائرها، ليست حكرا على فئة أو طبقة، وإنما هي مجال مفتوح لكل الطاقات والكفاءات الوطنية.. والطريقة الوحيدة التي تحسم حالة التنافس بين الأفراد والمجموعات السياسية على هذا الصعيد هي صناديق الاقتراع.. فكل القوى والتعبيرات السياسية في الأمة والمجتمع، لها الحق في إدارة شؤون المجتمع والوصول إلى الحكم..
والتنافس السياسي – السلمي والديمقراطي، هو الذي يثري الحياة السياسية والوطنية، وهو الذي يمد مؤسسة الدولة بالكثير من الطاقات والقدرات، القادرة على إثراء الواقع السياسي والاجتماعي.. فانتقال السلطة وتداولها بوسائل سلمية – ديمقراطية، يضمن استقرارا و تطويرا في آن..
مما يجعل مؤسسات الدولة فاعلة ودينامية وبعيدة عن كل أشكال الجمود والترهل والتوقف عن التطور والتقدم..
فالدول التي تتجمد فيها النخب السياسية السائدة، وتتعامل مع مواقفها ومناصبها وكأنها من الحيازات والأملاك الشخصية، لا يفرقها عنها إلا الموت،فإن هذه الدول ستعاني الكثير على صعيد تراكم الأخطاء والمصالح الخاصة، التي تحول دون ممارسة العمل الإداري والسياسي بما ينسجم ومتطلبات العدالة وخدمة الصالح العام.. وفي المقابل فإن الدول التي تنتقل فيها السلطة بمنافسة سياسية–ديمقراطية، فإنها تعيش على نحو دائم الحيوية والفعالية، وتمنع تراكم قوى تعتني بمصالحها الخاصة والضيقة..
والتقدم نحو الحضارة والتطور الاقتصادي والاجتماعي، هو في حقيقته تقدم باتجاه إقامة دولة مدنية، تكون رافعة حقيقية باتجاه قيم وحقائق الحضارة.. لذلك لم تبنى حضارة في ظل دولة مستبدة، متوحشة، معادية لحقوق الإنسان، ولا تلتزم بمقتضيات العدالة العامة.. والعلاقة بين الحضارة والدولة المدنية، هي علاقة متداخلة ومتشابكة.. فلا تبنى الدولة المدنية إلا بقيم حضارية، كما أن الدولة المدنية ومن خلال مفاعيلها وحقائقها المجتمعية، هي تعمق وتجذر قيم الحضارة في الفضاء الاجتماعي والسياسي..
وخلاصة القول: إن الإسلام في نصوصه التأسيسية وتوجيهاته العامة، لا يعارض ولا يناقض حقائق ومكونات الدولة المدنية، وغياب النموذج التاريخي على هذا الصعيد، لا يعني بأي شكل من الأشكال، معارضة النصوص والتوجيهات الإسلامية للالتزام بكل متطلبات بناء دولة مدنية في الاجتماع الإسلامي المعاصر..
وهكذا يتضح أن الدولة التي تتشكل وفق مرجعية إسلامية، أو في إطار قيم الإسلام العليا، لا تصل إلى مستوى المقدس.. فهي دولة تتحمل مسئولية وتقوم بوظائف محددة، ويحق لجميع المواطنين أن يراقبوا مؤسسات الدولة ويحاسبوها على أي تقصير. فلا دولة ثيوقراطية في الإسلام، وكل من يتبوأ موقع الحكم والسلطة في الدولة، فهو يصل إلى هذا الموقع باختيار الناس وانتخابهم، ولا يحق لأي أحد أن يدعي أنه يحكم باسم الحق الإلهي.. لأنه يحكم باسم الناس الذين انتخبوه لموقع المسئولية..
وعليه فإننا نعتقد أن إنهاء حالة الالتباس بين الإسلام كمنظومة تشريعية وقيمية ومفهوم الدولة المدنية التي تتعالى على انقسامات مجتمعها وتكون ممثلة لجميع مكوناته وتعبيراته، يستند إلى حضور الناس أفرادا وجماعات في الساحة، لكي لا تتغول الدولة وتتحول إلى دولة تسلطية، ولكي لا يتعدى أحد على موقع الشعب والمجتمع في العمل السياسي وإدارة الشأن العام.. لأن انجاز مفهوم وحقيقة الدولة المدنية في فضائنا العربي والإسلامي، يتطلب حضورا وكفاحا ومكابدة، حتى تتعزز قواعد الممارسة السياسية بعيدا عن نزعات الغطرسة والهيمنة والشمولية، وحتى يتم انجاز مفهوم التداول في كل مؤسسات ومستويات الدولة..