المدن الفاضلة في التاريخ
حيدر الجراح
2015-05-05 03:35
انشغل كثير من المفكرين والاصلاحيين بفكرة المدينة الفاضلة التي يتمتع فيها الجميع بالعدالة والمساواة.
وأول من تحدث فيها وتصورها على شكل نظام سياسي وتربوي ومعرفي وأخلاقي متكامل هو الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وذلك في محاوراته أو كتبه، ولاسيما كتاب الجمهورية أو السياسة، فضلاً عن محاوراته الأخرى مثل القوانين، ورجل الدولة.
ثم جاء من بعده فلاسفة وحكماء نسجوا على منواله وإن اختلفوا في تصوراتهم في بناء هذه المدينة الفاضلة أو الدولة المثلى، ونخص هنا بالذكر صنوه اليوناني الفيلسوف والمعلم الأول أرسطو، إذ أودع تصوراته عن ذلك في كتابه السياسيات، لينفتح بعد ذلك الفكر الإنساني على مصارعه في التأليف والكتابة في المدينة (الدولة) الفاضلة.
بعد هؤلاء الفلاسفة، جاء آخرون كتبوا في هذا الموضوع ولكن من منظور مختلف بحسب واقع وبيئة عصرهم، ومن هؤلاء الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين في كتابه (مدينة الله)، و من هؤلاء ( توماس مور) في كتابه (يوتوبيا) سنة 1516م الذي يتحدث فيه عن مدينة فاضلة وأعقبه بعد ذلك (توماس كامبانيلا) سنة 1623 م في كتابه (مدينة الشمس) وبعده (فرنسيس بيكون) سنة 1627 م في كتابه (اطلنطس الجديدة) وأيضا (ايتين كابي) سنة 1840 م الذي سمّى مدينته المثالية (إيكاريا) في كتابه (رحلةإلي إيكاريا).
من منظور عربي إسلامي يجدر ذكر الفيلسوف أبو نصر الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة)، وهو الكتاب الأوسع والأشمل بين كل من كتب في المدينة الفاضلة بعد أفلاطون، محدداً فيها صفات رئيس الدولة الفاضلة وما هو الواجب الذي عليه وما هي مؤهلاته أو صفاته حتى يكون رئيساً لها، وما هي مضادات هذه المدينة من مدن جاهلة أو ضالة.
رغم تلك المؤلفات والجهود، توجد مكانة خاصة مكرسة لكتاب (يوتوبيا) للسير توماس مور، والذي كان مستشاراً للملك هنري الثامن، تخيل هذا الفيلسوف الانكليزي، وجودها في جزيرة متخيلة تقع في نصف الكرة الجنوبي التي نقل تفاصيلها بحار يدعى رافائيل هيثلوداي، بعد ان عاش فيها خمسة اعوام.
الاسم الذي اختاره توماس مور لكتابه ولمدينته الفاضلة، عاد وأُسبغ لاحقاً على المدن الفاضلة المتخيلة جميعاً، وغيرها عشرات المدن الأخرى التي كانت غايتها دائماً اعطاء صورة مسهبة، للعالم كما يجب ان يكون من وجهة نظر المفكرين.
العالم كما يجب ان يكون، هو الغاية اذاً من كتابة تلك النصوص، وهذه الغاية لئن دلت على شيء فإنها تدل بالطبع على نوع من الاختلال بين الافراد المتميزين، والمجتمعات التي يعيشون فيها، ما يدفعهم الى البحث عما هو افضل. وبالنسبة الى توماس مور، كانت الحياة في (يوتوبيا) وتعني شيئاً قريباً من (اللامكان) هي الحياة المثالية التي يتعين على بني البشر اتباعها.
في (يوتوبيا) توماس مور، كما هو الحال في (جمهورية افلاطون) ليس ثمة ملكية خاصة، هناك الخير العام والمساواة. و(يوتوبيا) تنقسم الى 54 مدينة صممت كلها على نمط واحد باستثناء العاصمة. وفي كل مكان للشوارع العرض نفسه وللبيوت الهندسة نفسها والأبـواب بلا اقفال. وكل عقد من السنين يبدل الناس مساكنهم. وهنا، الكل يلبس الثياب نفسها. وكل شخص يعمل ست ساعات في اليوم. وينام في الثامنة. وعند الصباح دروس للجميع. وبعض الناس، بسبــب قدراتـهم العقلية، ينتخبون رجال معرفة. والابنـاء يعيشـون في بيوت الآباء، حتى يفيض عدد الاطفال عن مقدرة المنازل الاستيعابية فتنشأ فروع جديدة.
انتقد الكثيرون فكرة اليوتوبيا او المدينة الفاضلة، فهناك من ذهب إلى أن المجتمعات اليوتوبية في تنظيمها الدقيق والمحكم، تبدو وكأنها "آلة اجتماعية".
وسعى باحثون ينتمون إلى حقول معرفية مختلفة إلى تفسير "ظاهرة" اليوتوبيا. فهناك من أرجعها إلى أسباب نفسية، بدعوى أن اليوتوبيا تمثل سلوكا تعويضيا، أو إلى أسباب تاريخية واجتماعية بدليل أن اليوتوبيا تظهر في الأزمنة القاتمة وفي عصر الأزمات. وهناك من اعتبر أن اليوتوبيا تمثل نمطا من التفكير رافق البشرية منذ القدم، ويميل إلى الانغلاقية والشمولية وإلى النمطية والتماثلية. واليوتوبيا قد تعبر لدى البعض عن نزعة بدائية، عن حنين إلى ماض ذهبي مفترض.
بعيدا عن تلك الانتقادات يمكن القول أن اليوتوبيا تعبر في عمقها عن إيمان قوي بقدرة الإنسانية على تحقيق الخير والسعادة، شريطة أن تتبع طريقا آخر، مغايرا للطريق المتبع في المجتمعات الواقعية. ذلك أن اليوتوبيا لا تقترن باللامعقول، وليست خيالا جنونيا، عبثيا، يناقض العقل، بل إنها تبقى نظريا قابلة للتحقيق الفعلي. وفي الواقع، إن اليوتوبيا حملت خيالا ثوريا أثر بالفعل على حركات ثورية في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا. فاليوتوبيا هي دعوة صامتة لمقاومة الطغيان بكل أشكاله، سواء كان اقتصاديا أو سياسيا.