أخرجُوا القمَر مِنَ البئر
عقيل ناجي
2019-06-27 07:47
يُحكى أن جحا في إحدى مواقفه المُضحكة ذهب ليملأ الدلو ماءً من البئر، وإذا به يرى القمر في وسطه فاندهش، وتعجّب إيّما تعجّبٍ من هذه المشكلة التي وقع فيها القمر، وصاح بأعلى صوته:
- القمر سقط في البئر.. القمر سقط في البئر كأنّي أستمعه يستغيب.. ولابدّ أن أنقذه لأعيده إلى السماء.
فذهب وأحضر سنارته وألقى بخيطها في وسط البئر وجذب بقوة وخرج الحبل دون أن يمسك بالقمر، ثم رمى الحبل مرة أخرى فتعلّق بصخرة كبيرة في قعر البئر وصار يسحب ويسحب حتى سقط على ظهره وإذا به يرى القمر في وسط السماء ففرح واستبشر، وصاح بأعلى صوته:
- لقد أعدتُ القمرَ إلى مكانه حمداً لله على سلامتك أيها القمر.
لماذا كان جحا يرفع صوته عندما رأى القمر في وسط البئر؟..
ولماذا صرخ بالبشرى عندما رأى القمر في وسط السماء؟..
وهل حقاً كان جحا يعتقد اعتقاداً جازماً بأن القمر بالفعل قد سقط في البئر؟..
وهل يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه أنقذه من الغرق في قعر البئر؟..
كل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى قد تدور في رأسي ورأس كلّ متلقٍ ومتمعّن في هذا الموقف الضاحك من " نوادر جحا الكبرى ".. وهي برأيي نكتة كنائية، وقد ذكر الإمام الشيرازي "قده" في كتابه (البلاغة) عن الكناية فقال:
"(الكناية) من (كَنَيْت) أو (كنَوْت) بكذا عن كذا، إذا تركت التصريح به، وهي في اللّغة: التكلّم بما يريد به خلاف الظاهر، وفي الاصطلاح: لفظ أريد به غير معناه الموضوع له، مع إمكان إرادة المعنى الحقيقي، لعدم نصب قرينة على خلافه، وهذا هو الفرق بين المجاز والكناية، ففي الأول لا يمكن ارادة الحقيقي لنصب القرينة المضادّة له، بخلاف الثاني، نعم قد يمتنع المعنى الحقيقي لخصوص المورد، كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)[1] فإنه كناية عن القدرة والإستيلاء، ويمتنع المعنى الحقيقي، لامتناع كونه تعالى جسماً، ومثال الكناية: (فلان كثير الرماد) تريد انه كريم، للتلازم في الغالب بين الكروم وبين كثرة الضيوف الملازمة لكثيرة الرماد من الطبخ".[2]
وكذلك قصة إخراج القمر من البئر، وإن كانت مُضحكة للغاية إلا أن أركان التعبير الكنائي واضح فيها، وبالذات إذا رمزنا للقمر بفلسطين السليبة، ورمزنا للحكام العرب بجحا.
وإني لم أورد هذه الطريفة إلا لأنني أتأسّى بمرجعنا الراحل رضوان الله تعالى عليه، لأنه في بعض محاضراته كان يورد بعض الطرائف لنصير الدين خوجة (جحا) ويربطها بالواقع الذي يتحدث عنه، لأن النكتة في كثير من الأحيان تشكّل معادلاً موضوعياً لمشكلة واقعية، ويتم التطابق بشكل عجيب بينهما، والإمام الشيرازي لا يتطرق إلى الطرائف إلا من باب الحكمة، وخدمة للموضوع العام الذي يتحدث عنه سواء في أسلوبه الكتابي أو أسلوبه الخطابي.
والأسئلة التي أثرتها في قصة جحا – الآنفة الذكر - ذكرتني بالجدل العقيم بين ساسة القرنين العشرين والواحد والعشرين الذين حكموا ولا زالوا يحكمون أمتنا العربية والإسلامية من جهةٍ؛ وبين شعوبهم من المثقفين والمفكرين وذوي الرأي من جهة أخرى، ولن أتحدث هنا عن المنصفين الرائعين من الساسة ممن حقق استقلالاً حقيقياً لدولهم وملكوا زمام أمورهم بكل معنى الكلمة، كما إنني لن أتطرّق لأسماء أي دولة من الدّول منعاً لأيّ حساسية أو التباس في الفهم.. وإنما سأتطرّق للفكرة بشكل عام، فـهؤلاء المنصفون لم يتنكروا لأصالتنا كأصحاب حضارة كبرى أفلت شمسها ولم يتقززوا من عروبتنا وموروثاتنا وتراثنا العربي العظيم، كما لم يخونوا كرامتنا وعزتنا وأنفتنا كعرب ومسلمين لنا تاريخنا وحضارتنا السابقة التي قامت على أنقاضها حضارة الغرب، ولكنني سأتحدث قليلاً عن التغريبيين الذين تنكروا حتّى للدين والقرآن الكريم ورموز الإسلام منذ نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)..
هؤلاء الذين جعلوا من الدّين كله إحدى المفردات التي يلوكونها بألسنتهم هنا وهناك، وكأنهم أصبحوا هم أصحاب القيمومة على الدّين ولم يعد الدّين هو القيّم عليهم وعلى كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، إنهم يعتبرون رسالتهم السياسية في خضم هذا الواقع هو الاستسلام الكامل لكل ما يريده الغرب وأمريكا وإسرائيل من قيمومةٍ على الكرة الأرضية حكومات وشعوباً، ولا اعتبار لأيّ قيم أو مبادئ، والدليل على ذلك هو ما فعلته العصابات الصهيونية منذ احتلال فلسطين قبل ما يقارب السبعين عاماً حتى يومنا هذا، والمجازر والويلات تتواصل ودماء الفلسطينيين لا تزال تُستباح بكلّ جرأة، بينما جيوشنا العربية لا تزال في بياتها الشتوي الطويل..
هؤلاء الساسة القلّة الذين لايزالون يمارسون دورهم في تقرير مصير أمة كانت (خير أمة أخرجت للناس)[3] والذي يزيد عدد نفوسهم على مليار مسلم، هؤلاء الساسة يعتبرون ما توصّلوا إليه في اتفاقيات السلام مع إسرائيل هو أكبر إنجاز حضاري قاموا به، بينما لا تزال الوقائع تثبت لهم كل يوم أن إسرائيل لا تزال تمارس عدوانها ليس على الفلسطينيين فقط، وإنما أثبتت الوقائع أنها مع أمريكا ومن لفّ لفها كانوا ولا يزالون وراء التنظيمات المشبوهة التي عاثت فساداً في الكثير من دولنا كالعراق وسوريا وباكستان وأفغانستان، ولا زالت تعيث فساداً من أجل أهدافهم الدنيئة وزلزلة الأوضاع في هذه البلدان المُستقلة حفاظاً على أمن أسرائيل وتحقيق طموحاتها كشرطي مفروض على ما أسموه بالشرق الأوسط الجديد.
وقد أشار الإمام الشيرازي "قده" قبل سنوات طوال في بعض كتبه ومحاضراته بالدور الخبيث الذي يلعبه الكيان الصهيوني في المنطقة، وأن ما يدعون إليه من السلام ما هو إلا جزء لا يتجزأ من خطة كبيرة يقومون بتنفيذها للسيطرة على الحكومات العربية، والسيطرة على قرارات حكّامها، حيث يقول الإمام الشيرازي "قده" تحت عنوان (إسرائيل وعروض السلام):
"إسرائيل وهي عصابة العنف والإرهاب لا تترك مناسبة إلا وتطرح فيها عروضها للسلام!! وسلامها الذي تنشده هو أن يقوم على أساس الظلم والغصب وذلك بالاحتفاظ بالأراضي المغصوبة ورفض عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم. ومن دون أن تبدي تنازلاً لأصحابها الشرعيين فهي غير مستعدة لأن تقدم أية تنازلات.
وكثيراً ما تظاهروا بهذه العروض الكاذبة، فقد تظاهر زعماؤهم بالسلام قبل العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)، وتظاهروا بذلك أيضاً قبل حرب (1967م) فكأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين عروضهم هذه وبين توقيت اعتداءاتهم.
وإسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس وتصر على احتلالها، وقد رفضت أغلب المعاهدات[4] والقرارات[5] التي تخوض في هذا الموضوع سراً فيما تظهر الالتزام بالتنفيذ علناً".[6]
وتعليقاً على المقطع الأخير مما كتبه الإمام الشيرازي "قده" بخصوص احتلال القدس، لقد أعلن يا سيدنا الجليل ترامب أن القدس عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، وما يسمونها بصفقة القرن ما هي إلا إقرار لذلك، فالمصيبة عظيمة جداً يا سيدنا، وما هو قادم أعظم من هذا.
ويؤكد الإمام الشيرازي "رضوان الله تعالى عليه" على أن الكيان الإسرائيلي كدولة، واليهود عبارة عن "عصابات إرهابية... كما علم أن الصهيونية والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وعلمنا أيضاً غاية الصهيونية ولدت في قلب الأمة الإسلامية وليس في نيتها الرحيل، وحقدها على الإسلام (حقد مقدس)! كما يسمّيه اليهود، اذن هل هناك وجه للمصالحة معها.. وكيف ستمد يد المصالحة لها؟ فهل يجوز لك أن تصالح غاصب بيتك وتسميه صديقاً!"[7]
واعتراض الإمام الشيرازي "قده" على جميع الساسة العرب الذين وافقوا على بقاء إسرائيل وصالحوها وطبّعوا العلاقات معها في محله، لأنه رضوان الله تعالى عليه ينطلق من مسؤوليته الشرعية، فهؤلاء الساسة لا يزالون يعتبرون ما وصلوا إليه من التطور الشامل في بلدانهم هو مواكبة طبيعية للحضارة الغربية، وأن ما تريده أمريكا من الساسة في عالمنا العربي والإسلامي هو عين الصواب، بينما هو في حقيقته عين الخطأ لأنهم يقرون للظالم المغتصب المحتل في جزء من كياننا العربي والإسلامي، ونحن كأفراد عاديين في أوطاننا العربية والإسلامية إذا لم نسر مع هؤلاء الحكام ونوافقهم على ذلك فإننا من المتخلفين في الأرض، أي لابدّ لنا أن نكون إمعات لأي شيء تقول به أمريكا وإسرائيل والغرب، فإذا قالت: على العرب أن يتصالحوا مع إسرائيل ويساهمون في كل المشاريع التي تخدم أمنها ووجودها فعلى العرب أن يرضخوا لهذا الطلب، وكأن الله قد طمس على هذه الأمة وأركسها إلى أسفل سافلين، وصعد بأمريكا والغرب إلى أعلى عليين، بينما الساسة في عالمنا العربي والإسلامي يبررون بمختلف السبل كل ما تصبو إليه "الصهيوأمريكية" في المنطقة.
وأعود للأسئلة التي طرحتها بعد إيراد قصة جحا الطريفة عندما حاول إخراج القمر من البئر، كل تلك الأسئلة التي أوردتها هي بمثابة الإعلام العربي طوال سبعين عاماً بعد احتلال فلسطين حتى يومنا هذا، وما هو إلا جعجعة بلا طحين كما يقولون.
وأخيراً أقول لجميع الساسة في عالمنا العربي والإسلامي: إن القمر الذي لا زلتم تبحثون عنه قد سقط في البئر، وعليكم أن تُلقوا بسناراتكم لإخراجه.. لعلكم تعيدونه إلى مكانه في قبة السماء لينير علينا حياتنا بدلاً من الظلام الدامس الذي أقضّ مضاجعنا.