البقيع والقطاع الخاص
حسن السباعي
2019-05-07 08:23
لو أردنا أن ننظر إلى البقيع وإلى سائر الآثار المهدومة في الحجاز من زاوية أخرى..
لا من زاوية دينية؛ على أنها أماكن مقدسة لدى الشيعة..
ولا من زاوية تراثية؛ على أنها تمثل التراث الثقافي والتاريخي للإنسانية..
حيث لا يخفى على أحد مدى أهمية كلتا الزاويتين..
ولكن من زاوية ثالثة وهي قلما تُثار؛ ألا وهي انتهاك مُلك خاص لا شأن للدولة ولا للجهات الرسمية به، وهو بمثابة اعتداء على منزل شخصي لم يقترف صاحبه ذنبًا غير أنه كان يؤدي طقوسه العبادية الخاصة بين أربعة جدران ولم يتعرض لغيره بأي سوء.
المقابر حينما بني عليها بنيانًا واتُخذت مسجدا صارت دورًا للعبادة وبيتًا من بيوت الله..
أما بيوت أولياء الله ومحل ولادتهم ونشأتهم فلا يختلف اثنان أنها كانت مُلك أصحابها الخاص، ومن ثم تكون تحت رعاية من تولّى الحفاظ عليها من الورثة أو السَدَنة الذين فوّضت إليهم المقامات والأوقاف بطرق شرعية، ولعامة الناس حقٌ في الإستئناس بها لمكانة أصحابها العلمية والاجتماعية.
ولقد أقرّت الجهات التي اقتحمت تلك الأماكن ثم هدمت بمعاولها تلك الأملاك أنها اعتدت عليها بهدف كسب الغنائم و(الفتح)، وأي فتح لبيوتٍ آمنة، وهي لم تكن في حرب ولا خصام؟
وفي هذا الصدد ينقل المؤرخون عن أول لقاء تم بين محمد بن سعود آل مقرن مؤسس الدولة السعودية الأولى وأمير الدرعية مع محمد بن عبد الوهاب المنظّر الديني للدولة السعودية وانهما تداولا أمر التمويل لمشروعهما في بناء الدولة، فقال الأول أنه سيأخذ الضريبة من أهل الدرعية، لكن الثاني أشار إلى مصدر مالي أقوى؛ ألا وهو كسب الغنائم عن طريق (الفتوحات) التي سيكسبونها من خلال الهجوم على المناطق المجاورة (١) ؛ وكانت باكورة أعمالهم الاعتداء على العتبات المقدسة في العراق وبالتحديد على مدينة كربلاء المقدسة، ونهب الهدايا النفيسة والنذورات من الأضرحة، بعد ذبح الزائرين والمجاورين من النساء والأطفال والشيوخ، ثم الاستيلاء على كل الآثار الدينية في الحجاز ومصادرة نفائسها ثم هدمها. وبقي هذا الاتفاق بمثابة الدم بالدم والهدم بالهدم (٢)، وصارت البيوت الآمنة مصدرًا للتمويل.
وبعيدًا عن السياسة والدين، وللإنصاف فقط؛ فإن للمقابر حرمتها؛ وفي بعض مناطق العالم القبور تُباع وتُشترى، وفي البعض الآخر هي بلا ثمن وبمثابة حق للميت أقلًا إلى أن يندثر القبر، وتتصدى الدولة لهذا الأمر أو المؤسسات المعنية بذلك، وحينما يكون صاحب القبر من الشخصيات الدينية أو الاجتماعية فإنَّ قبره أحيانا يتحول إلى متحف او مسجد ويخرج عن إطار المُلك الخاص ليدخل إلى إطار المُلك العام.
يقول المحقق الكرباسي: "عادة تُعدّ المقابر من الأماكن ذات القدسية عند كل المجتمعات المتحضرة، وهي من الأماكن التي تُزار من قبل ذوي الأموات، بل تكون مَعلَمًا تاريخيًا للأمة باعتبار أنّ الكثير ممن دُفنوا فيها هم من الشخصيات الاجتماعية والعلمية والثقافية وغيرها، وهم يفتخرون بهم، وفد دأبت كل فرقة وجماعة، وكل قوم أو طائفة إلى حيازة قسم كبير من الأرض لأجل ذلك لتحيي ذكريات الذين كانت لهم بصمات كبيرة في أحد المجالات التي يهتم المجتمع بها". (٣)
وفي الحالة الحجازية؛ فإن دفن الأموات في البقيع كان بلا ثمن، وذلك منذ بداية تخصيص المكان في القرن الأول الهجري وإلى اليوم، وبعد أن تولَّى رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم أول عملية دفن، استنّ الناس بعده بتلك السنة، ودأب أئمة أهل البيت عليهم السلام على ذلك، حتى ان الإمام الحسين عليه السلام حينما أراد دفن أخيه الإمام الحسن عليه السلام عند جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوبل بصدِّ السلطات بـ أمر ومشاركة امرأة في السلطة، فإنَّ الإمام الحسين عليه السلام توجه نحو البقيع ودفن الجثمان الطاهر هناك؛ (٤) مما يدلّ على أنه لا يد للسلطات في أمر الدفن في البقيع على عكس البيت النبوي الشريف يومها.
وينقل التاريخ عن إدارة البقيع؛ أنها كانت بـ يد "الشرفاء الحسينية"، وهم السادة الذين ينحدرون من نسل الإمام الحسين عليه السلام وهم بـ مثابة السَدَنة، وكان ذلك بـ مشاركة العرب الفلاحين وهم يُسمّون بـ " النواخلة" نسبة إلى النخيل، حيث كانوا يفلحون في بساتين الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، إضافة إلى قبيلة مَدَنية تُسمّى بـ "بني علي" وهم من شيعة المدينة المنورة. وكانت هذه الإدارة جاريةً طوال قرون متمادية حتى القرن الثالث عشر حينما احتل الوهابيون المدينة المنورة،(٥) فاغتصبوا البقع المقدّسة وهدموها، ثم أخرجوا الأسرة الهاشمية المالكة وهي أسرة "الحسين بن علي" المنتمية إلى ذوي عون الحسنية. (٦)
وإضافة إلى القبور، فإن بيوت الأولياء وأماكن ولاداتهم كـ مكان مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومكان مولد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وبيت السيدة خديجة عليها السلام في المُعلّاة، وبيت الأحزان الذي بناه الإمام علي عليه السلام للزهراء عليها السلام أيضاً قد نهب وتمت مصادرة كل ما فيه من نفائس وهدايا وأموال.(٧)
وفي هذا الصدد يقول المؤرخون: "حينما دخل الأمير سعود الوهابي إلى المدينة واستولى عليها، دخل الحجرة النبوية ووصل إلى ما وراء الستار، ووضع يده على جميع النفائس التي وجدها هناك، وقد باع قسمًا منها إلى شريف مكة، وحمل الباقي إلى الدرعية معه، ومن الأعلاق النفيسة التي أخذها والتي كانت أغلى من أي شيء آخر النجمة البرّاقة المتلألئة المُطعمة بـ الألماس واللؤلؤ التي كانت مُعلّقة فوق القبر المقدّس مباشرة، وقد كانت تُسمّى "الكوكب الدُرّي"، وقد كانت تودع في هذا المكان جميع الأوعية والأواني الثمينة المُطعمة بالجواهر، والأقراط، والأساور، والقلائد، وسائر النفائس التي كانت تُهدى من جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ويأتي بها الحجاج في أثناء زيارتهم للمدينة، ولا تُقدَّر بـ ثمن، فقد قدَّر الشريف غالب ما اشتراه من الأمير سعود بمائة ألف دولار، ومع سائر ما اشتراه بـ ٣٠٠ ألف دولار، وهنالك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد بأن هدايا المسلمين التي تجمعت في هذه البقعة عبر القرون والأجيال، كانت تبلغ أكثر من هذا بكثير". (٨)
ولا يُخفى أن السعر المذكور حينها كان يعتبر مبلغًا ضخمًا ويُقدّر في هذا الوقت بـ الملايين.
وينقل التاريخ أن التعاليم الدينية في هدم القباب والأبنية لم تكن إلا غطاءًا، بغرض باطن هو سرقة الأموال والنفائس والمجوهرات الموجودة في تلك المقامات. (٩)
ومن الملفِت أن القانون الوهابي السعودي يصرِّح على أن؛ أخذ الضريبة حرام، أما الحصول على الغنائم من خلال شن الحروب والغارات والنهب حلال!
وذلك حسب الاتفاق الذي تم بين ابن عبد الوهاب وابن سعود، (١٠) وهذا أعطى لعملية الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة صبغة (قانونية) حسب الشريعة السعودية. وهكذا استطاعت الدولة السعودية أن تبني دولتها من خلال نهب المجوهرات الثمينة من داخل الأضرحة، (١١) ولم تكتفِ بـ السرقات، بل حوّلتها إلى أرض خالية، بـ ذروها قاعًا صفصفًا، ثم ألحقت إدارتها اليوم إلى ما يُسمّى بـ "أمانة المدينة المنورة". (١٢)
من هنا وبناءًا على ما سبق؛ فإن الأماكن التي تم تخريبها في الحجاز، إضافة إلى طابعها الديني المقدس، وما تحمله من جانب تراثي وثقافي، هي أيضا مُلك أو وقف خاص لمن يُقدِّسها أو يحترمها وكانت تحت إدارة السَدَنة الشرعيين.
وعليه فإن استهداف البقيع وسائر الأماكن الأثرية في الحجاز، إنما هو اعتداء سافر على أملاك الآخرين وغصبها بـ يدٍ من حديد، ولم يمنعهم خوف الله ولا لومة لائم من إزهاق الأرواح وهدم الأضرحة والمساجد، ولا نصّ كتابٍ أوسنة، ولا حتى حكمة وأخلاق، أو حلم وسياسة، أو عقلانية ومنطق، هذا فضلًا عن انتهاك قدسيتها وحرمتها، وناهيك عمّا تناقضه مع المبادئ البشرية المتمثلة بـ مفردات كـ التسامح والسلام والمحبة واحترام التنوع وضمان حرية العبادة ونبذ التطرّف والعنف والكراهية والارهاب والتنمر، وهي مبادئ مشتركة لدى كل الملل والنحل رغم كل الفوارق والاختلاف فيما بينها.
من جانب آخر أيضا وفي الآونة الأخيرة؛ رُفعت بعض الأصوات داخل (السعودية) ولكنها من خارج السرب السعودي التقليدي الوهابي، يدعو إلى ضرورة إحياء التراث التاريخي في الجزيرة العربية، وذلك لأغراض سياحية. ولقد كتب الدكتور زاهي حواس وزير الدولة لشؤون الآثار المصرية سابقًا سلسلة من المقالات في عدة عناوين في صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية ذكر من خلالها رحلاته الأثرية في عدة مناطق من الجزيرة العربية بـ دعوةٍ من سلطان بن سلمان آل سعود رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني السعودي. ومن الأماكن التي زارها كان "جبل أبي قبيس"، و"دار الأرقم بن الأرقم"، و"دار أبي سفيان"، و"جبل خندمة" الذي يستنكف الإعلام السعودي أن يسميه باسمه التاريخي "شِعب أبي طالب"، و"منزل عبدالله بن عبدالمطلب" وأماكن أخرى في مكة المكرمة. (١٣) وكذلك معالِم أثرية أخرى في محافظة الطائف وأهمها "سوق عكاظ" (١٤). وقدّم توصيات واقتراحات بـ شأن الحفاظ والترميم أو إحياء واكتشاف بعض الأماكن الأثرية المدّثرة ودور "القطاع الخاص" في ذلك.
وفي إحدى مقالاته يشير إلى بعض المتاحف الأثرية وملكيتها الخاصة للأفراد قائلًا: "من الأشياء المبهرة في المملكة العربية السعودية هو وجود ما يقرب من ١٩٥ متحفاً خاصاً، أي متاحف لا تملكها الدولة ولكن تشرف عليها فنياً." (١٥)
ويضيف في مقالٍ آخر: "ان الهيئة تشجع القطاع الخاص على عمل متاحف فرعية"، ويصف إحدى رحلاته: "وبعد أن خرجنا من سوق الطائف القديمة ذهبت مع المرافقين وزرنا مدرسة دار التوحيد، وهي أقدم مدرسة بالطائف، وهي عبارة عن تحفة معمارية رائعة، ومجاورة للقصر الحديدي المقام على شكل سفينة وهو قصر خاص، والمدرسة أيضاً مهجورة ولا يوجد أحد بها. وأعتقد أن هيئة السياحة والتراث الوطني السعودية يجب أن تنزع ملكية هذه المدرسة، وقانون الآثار السعودي الحالي لا يجيز ذلك. وأعتقد أن هناك ضرورة لتغيير القانون؛ لأن هذه المباني تراث يخص الطائف وتاريخ المملكة العربية السعودية، وهذا قد يدفع الهيئة إلى الاستفادة من القانون المصري الذي يخدم الملكية الخاصة، غير أن هذه المباني هي تراث قومي يجب الحفاظ عليه؛ ولذلك من حق الدولة تسجيل الأثر بحيث لا يتم عمل أي إضافة أو ترميم إلا بإذن من الهيئة القائمة على الحفاظ على التراث." (١٦).
وحول أماكن أثرية على إحدى جبال طائف يقول: " وقد عرفت أيضاً أن كل الأراضي الموجودة في الجبل تملكها القبائل؛ أي أن الدولة لا تملك شيئاً في هذا المكان؛ ولذلك أي شخص يريد أن يبني مكانًا لا بد عليه أن يشتري الأرض من القبائل. وقد اشترى الأمير سلطان أرضه من أحد المواطنين" (١٧).
وحول مكان "سوق عكاظ" ودور القطاع الخاص في إعادة بناءه يقول: "وقد عرض الأمير سلطان هذا المشروع على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي أقر تنفيذ المرحلة الأولى التي سوف تتكلف ٨٦١ مليون ريال. وسوف يشارك القطاع الخاص أيضًا في عملية التطوير.. ومن أهم أسباب التطوير أهمية سوق عكاظ التاريخية والذي يعتبر أهم سوق ثقافي في العالم العربي كله، خاصة لأن هذا السوق قد زاره الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلّم بعد البعثة المحمدية". (١٨)
كما يُلاحظ في هذه المقتطفات أن الوزير المصري يشير إلى دور القطاع الخاص في البناء والتطوير والحفاظ على بعض الأماكن الأثرية، وكان ذلك يحظى بـ إشراف وتأييد الجهة السعودية الرسمية والمتمثّلة بـ سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني السعودي - وهونجل الملك وشقيق ولي العهد-.
من هنا وبناءًا على هذه القاعدة؛ فـ من الأولى أن تُعاد إدارة الآثار الحجازية المغتَصَبة إلى أصحابها، ثم تُرجع كل الأموال المنهوبة إلى أماكنها، ومن ثم تُفوَّض عملية البناء والترميم إلى القطاع الخاص المهتم بتلك الآثار ممن يعينهم السَدَنة الشرعيين وكذلك الفئة المعتقِدة بـ قدسية المكان.
لا نعرف مدى جديّة الجهات الرسمية السعودية في إحياء التراث والآثار وخاصة فيما يرتبط بـ الأماكن الدينية التي هُدمت، لكن سواءًا كانت تلك الأصوات جادّة أو مجرد فرقعة إعلامية، فإنَّ الأجواء مهيأة لوضع اليد على جرح "البقيع"، ودغدغة مشاعر المثقفين والمهتمين بالتراث، -ناهيك عن المؤمنين بـ قدسية تلك الآثار- وما عليهم إلا أن يتحركوا بهمّة وسرعة لقطف الثمار، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وبالذات إلى عام الهدم ١٩٢٥م، لعلّ لتلك الحركة أن تحرّك مياه الحقوق الراكدة في الجزيرة العربية، ولو على المستوى الإعلامي، وذلك أضعف الإيمان.