الأصولية الشيطانية الغربية لتطويع الدول
حسن العاصي
2018-11-13 05:36
في الموروث الثقافي الغربي تنتشر أسطورة "فاوست" أو ما يسمى "الصفقة الفاوستية"، حيث يعتبرون أن الشيطان هو تجسيد للتكبر والتجبر والعلو لأنه تمرد وعصى أوامر الله، ولذلك يظن الشيطان أنه مكوّن متميز عالي الشأن وسامي المقام، وعلى الجميع أن يتوسلون إليه لتحقيق رغباتهم. ووفقاً للاعتقاد الغربي فإن الشيطان يهدف إلى كسب الأتباع والمريدين، لذا يحاول إغواء بعض البشر بتحقيق ما يصبون إليه من مال ونفوذ وشهرة ومعرفة، عبر عقد يبرم بين الشيطان والشخص المتحالف معه، يقتضي أن يقدم الأخير نفسه للشيطان مقابل الخدمات الشيطانية.
في الأسطورة أن "فاوست" الذي ولد في مدينة "وتنبرغ" الألمانية كان فقيراً لكنه فائق الذكاء، درس اللاهوت وحصل على درجة الدكتوراه، ثم تحول إلى دراسة الكيمياء وكتب السحر واستحضار الأرواح وكان بارعاً، فقام باستحضار أحد الشياطين السبعة ووقع معه عقداً، يقوم الشيطان بمقتضاه تلبية كافة طلبات "فوست" مقابل أن يحصل على حياته بعد أربعة وعشرين عاماً. وهذا ما جرى، فقد نال "فاوست" كل ما أراده من مآثر وإنجازات باهرة، وكل تمناه من العلم والمعرفة. وعندما حانت الساعة جاء "ميفستوفيليس" وأخذ روحه. الدرس هنا أن الشخص الطموح الذي يعقد الصفقة الشيطانية، ويتنازل فيها عن نزاهته الأخلاقية من أجل تحقيق النفوذ والنجاح، يكون قد باع روحه للشيطان.
فإن كانت صفقة الكيميائي اليائس مع الشيطان أسطورة، فإن ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقتها مع دول العالم في الواقع هو حقيقة ساطعة، وهي الدولة العظمى التي تفرّدت بالهيمنة على العالم بعد انهيار جدار برلين التاريخي، وتفتيت دول الاتحاد السوفيتي، وانتهاء مرحلة الحرب الباردة بين حلفي الناتو ووارسو، حيث تمكنت من بسط هيمنتها على المنظومة الدولية بسبب تفوقها العسكري والاقتصادي، وبدأت مرحلة جديدة من استراتيجيات التدخل الوقح في سيادة ومصالح الدول الأخرى، التي اعتمدتها بعد الحرب العالمية الأولى لضمان مصالحها الاستراتيجية، لكن مع المتغيرات التي أربكت المشهد السياسي الدولي في بداية التسعينيات من القرن العشرين، أخذت منحى غيرت فيه الخطاب والأدوات وجغرافيا الاستهداف.
حيث أقرت سياسة التدخل في قضايا الدول الأخرى لتطويعها وتوجيهها بما يحقق المصالح الأمريكية، سواء كان التدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عبر دعم قوى المعارضة للدولة المستهدفة، وإن لم توجد معارضة تقوم الولايات المتحدة بخلقها، أيضاً عبر ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية، واعتماد سياسة الثواب والعقاب، عبر تقديم بعض الامتيازات والمساعدات المالية المحددة، وحجبها في حال الإخفاق. وأحياناً تتدخل الولايات المتحدة بصورة مباشرة ووحشية باستخدام التدخل العسكري أو الأمني، عبر خوض حروب تحصد أرواح الملايين، أو تدبير انقلابات عسكرية أو مدنية، كما حصل في العديد من دول العالم. ولا يقف تدخل الولايات المتحدة عند حدود التوجهات السياسية للدول المستهدفة، بل بكل صلافة يطال أيضاً المناهج التعليمية والتربوية للدول المستهدفة، فيما يجب أن يتعلمه الطلاب، وفيما يجب أن يتم حذفه من الكتب.
تتباين ردود الفعل من الدول موضع الاستهداف، بين المعارضة والاحتجاج والمناهضة والتصدي لهذه التدخلات الأمريكية، حينها تصبح هذه الدول مارقة وتضعها الولايات المتحدة في محور الشر وتسعى للتخلص من الأنظمة التي تحكم هذه الدول لتطويعها بما لا يخرج عن النسق الأمريكي. فيماهناك دولاً لا تبدي امتعاضاً من هذا التدخل، بل بعض الدول ترحب وتبارك هذه التدخلات السياسية، رغبة في الحصول على المكافآت والامتيازات الأمريكية، من مساعدات مالية واقتصادية وعسكرية وسواها.
الطغيان الأمريكي
تعاقبت الإدارات الأمريكية على انتهاج سياسة براغماتية خلال فترة الحرب الباردة التي امتدت من خمسينيات القرن العشرين إلى بداية التسعينيات. وقامت تلك السياسة على عنصرين المصلحة والقوة. إن السياسات الدولية ما هي إلا صراع من أجل القوة والنفوذ، فجميع الدول تسعى للحصول على المزيد من القوة التي تحكم كافة العلاقات الدولية، هذا ما يعتقده أحد أهم أعمدة القرن العشرين في مجال دراسة السياسة الدولية "هانز يواخيم مورغنثاو" الألماني المولد الأمريكي الجنسية، الذي أرسى أسس نظرية الواقعية الكلاسيكية كمنهج في تحليل السياسات الدولية، ويعتبر كتابه "السياسة بين الأمم" مرجعية نظرية مهمة في العلاقات الدولية منذ منتصف القرن العشرين.
إنه التنافس والصراع الدولي لتحقيق القوة التي من شأنها إخضاع الآخرين، وتحقيق المنافع السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومفهوم القوة هنا يشمل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وقوة الهيمنة السياسية والتوظيف الدبلوماسي.
- عسكرياً تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية الترسانة الأضخم دولياً. بحسب دراسة نشرها موقع "غلوبال فاير بور" المتخصص بجيوش العالم، فإن حجم الميزانية الأمريكية العسكرية كانت تصل إلى 580 مليار دولار سنوياً، لكن بلغت في العام 2018 حوالي 700 مليار دولار. فيما تبلغ ميزانية الجيش الصيني على سبيل المقارنة 161 مليار دولار، أما روسيا فلا تتجاوز ميزانيتها العسكرية 50 مليار دولار، رغم أنها تعتبر دولة عظمى ومساحتها الضخمة تتطلب دفاعا ممولا ومتطورا.
كدولة نشأت على الحروب فقد ذاع صيت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لتصبح القطب الأوحد في النظام العالمي، واستطاعت أن تفرض قوتها على الدول الكبرى التي ترتبط بتاريخها الاستعماري في نهب ثروات الشعوب لتمويل ترسانتها الحربية.
- وعلى الصعيد الاقتصادي، هيمنت الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي منذ عشرينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من تعرض اقتصادها لعدة أزمات اقتصادية عنيفة، لعل أبرزها الكساد الكبير الذي حصل في ثلاثينيات القرن العشرين، والأزمة المالية التي نتجت عن الانسداد في الرهن العقاري والمشتقات المالية في العام 2008، إلا أن الدولار الأمريكي لا زال يهيمن على سوق العملات الدولية، ويشكل الجزء الأكبر من الاحتياطيات النقدية في العالم.
ويبلغ الاقتصاد الأمريكي وفق تقارير صندوق النقد الدولي لعام 2018 ما قيمته 20,4 تريليون دولار، حيث يستحوذ على ما يقارب ربع حجم الاقتصاد العالمي. وجاءت الصين في المركز الثاني بناتج إجمالي 14 تريليون دولار، فيما اليابان بالمركز الثالث بناتج محلي بلغ 5,1 تريليون دولار، في المركز العاشر تحل كندا بناتج 1,8 تريليون دولار. بينما روسيا خارج لائحة أكبر 10 اقتصاديات عالمية إذ يبلغ الناتج المحلي الروسي 1,7 تريليون دولار.
- سياسياً ودبلوماسياً وثقافيا وفكرياً، من الجلي أن القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة تفرض هيمنة سياسية وثقافية أيضاً. حيث تتبوأ مكانة مؤثرة، في غزارة الإنتاج الفني السينمائي والموسيقي والبرامج التلفزيونية الأمريكية، تنتشر في معظم الدول. كما أن التطور الهائل في تقنيات التواصل والاتصال والثورة الرقمية التي موطنها الولايات المتحدة، إضافة إلى الفيسبوك وتويتر وغوغل وأمازون وجميعها إنتاج أمريكي وتسهم بشكل فعال في نشر وهيمنة الثقافة والإنتاج التكنولوجي الأمريكي على الشعوب الأخرى.
يقول مدير برنامج الخريجين الإعلاميين الأمريكي الدكتور "أندرو سليباك" "نؤمن بالحلم الأمريكي الذي هو ممكن فقط في الولايات المتحدة، التي كانت ذات يوم مستعمرة بريطانية يسكنها الخارجون عن القانون والعبيد والفقراء" ويعتبر أن مدينة نيويورك تمثل القيم الأمريكية، حيث تعبر أغنية "فرانك سيناترا" بكلماتها عن هذه الثقافة حيث تعتبر أن من ينجح في أمريكا يمكنه النجاح في أي مكان في العالم.
وبالتالي تسعى الولايات المتحدة عبر الوسائل الحديثة والتكنولوجيا المتطورة وبأدوات متعددة، إلى نشر وفرض أنماط حياتية وقيم وثقافة تكرس وتدعم استراتيجياتها البعيدة.
على صعيد القوة الدبلوماسية والحضور والفاعلية في المشهد السياسي الدولي، فكل الدلائل تؤكد الحضور القوي النشط للولايات المتحدة من نهاية الحرب الباردة. تعمق هذا الحضور واتسع في حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق، مشكلة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الصهيوني، أزمة البوسنة في منطقة البلقان في شرق أوروبا، المشكلة في الصومال والحرب الأهلية، أزمة لوكيربي، قضية هاييتي، التدخل في أفغانستان، التواجد العسكري في سورية. وتواجدها في عدة أزمات وقضايا دولية كثيرة أخرى.
إن كافة عوامل القوة لدى الولايات المتحدة أسهمت بصورة كبيرة في تعزيز صورتها كقوة طاغية مستبدة، أتاحت لها المقدرة على التدخل في مناطق الصراع وبؤر التوتر الكونية، والعمل على تطويع واحتواء الأنظمة، ومحاربة كافة القوى والجماعات الدولية المناهضة للولايات المتحدة والمعادية لمصالحها.
وكل هذا أدى إلى قيامها باحتكار إدارة الأزمات العالمية، والتحكم بها وتوجيهها بما يضمن المصالح الأمريكية. سواء كان ذلك بالأدوات العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، أو باستغلال الأمم المتحدة والهيئات المنبثقة عنها، وهن طريق استغلال كافة المنظمات السياسية والاقتصادية والمالية والقضائية الدولية.
الذرائع والادعاءات الأمريكية
إن النظام الكوني الذي بشر به الرئيس الأمريكي جورج بوش العالم، لم يكن سوى النظام الذي تريد الولايات المتحدة أن توظفه لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وتأكيد هيمنتها على العالم. فالتدخل الأمريكي الجائر بكافة اشكاله وأدواته قد تنامى واتسع بشكل مرعب في أرجاء المعمورة، وأظهرت الولايات المتحدة مخالب القتل والقهر والاستبداد. وتحولت الأمم المتحدة من منظمة لتحقيق السلم والأمن الدوليين والحفاظ عليهما، إلى هيئة تابعة للولايات المتحدة تناط بها مهام تنفيذ السياسات الخارجية الأمريكية القهرية ضد الدول والشعوب الأخرى. وبهذا يتم الاستخفاف بنظام الشرعية الدولية وقواعدها، ولهذا تنامت الصراعات والحروب واتسعت دائرة النزاعات في العالم بدل انحسارها.
تدعي الولايات المتحدة أنها مرجعية كونية في قضايا القيم والمبادئ والحريات، وأنها واحة للديمقراطيات المتنوعة، وراعية الخير والحق وترغب في نقل منظومة القيم هذه إلى بقية الشعوب والدول، لكنها فشلت في تقديم نموذج واحد على نجاح ديمقراطيتها خارج أسوار امبراطوريتها، فأين تحل أمريكا يحل الدمار والقتل والخراب. وهي أيضاً ترسب في كل مرة بامتحانها الأخلاقي حين يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الصهيوني، إذ أنها لا تتردد بإظهار وجهها الامبريالي في دعم وتأييد السياسات الصهيونية الإسرائيلية بقتل الإنسان الفلسطيني والاستيلاء على أرضه، مما يجعل القوة الأمريكية الناعمة التي ترتكز على المبادئ موضع للسخرية.
أما محاولات أمريكا التدخل لتغيير المناهج التعليمية في بعض الدول، فما هي إلا شكل من أشكال الاستعمار الليبرالي قليل التكلفة والأكثر خطرا على الشعوب، فهو ببساطة يقوم على هندسة ثقافة تضمن المصالح الأمريكية، فيما سمي الدبلوماسية الثقافية التي تنشط من خلال منظمات المجتمع المدني.
بالرغم من أن الولايات المتحدة تدس أذرعها في شؤون الدول بذرائع إنسانية أو أمنية في الغالب، إلا أن الأسباب الحقيقية تكمن في المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وهي تقيم القواعد العسكرية، وتنشر البوارج وحاملات الطائرات تجوب المحيطات لتحقيق هذه المصالح والحفاظ على سلامة الطرق والممرات المائية لضمان تدفق النفط ومرور البضائع للأسواق الناشئة. وكذلك الحد من النفوذ الصيني والروسي، وتحجيم دور القوى الإقليمية إيران وتركيا، وحماية مصالح الربيبة المدللة إسرائيل. فأين يوجد موقع استراتيجي، وتوجد ثروات وأسواق استهلاكية، تجد الولايات المتحدة حاضرة.
وهي لا تميز في استراتيجيتها الوقحة بين الحليف والعدو، إنما تبدل الأدوات، فتلجأ إلى القوة العسكرية مع العدو، بينما تستخدم الضغوط السياسية والاقتصادية مع الحلفاء.
بيت الطاعة
منذ انهيار البرجين الشهيرين في الولايات المتحدة العام 2001 والبوارج الأمريكية وحاملا الطائرات ومشاة المارينز، ينتقلون من مكان لآخر وسط إعصار من الأحداث المتتالية، حروب وقتل ودمار وصفقات. منذ بداية الالفية الثالثة، ويبدو وكأن العالم الغربي المتحضر المتنور قد فلتت منه السيطرة على اتزانه رعباُ من أمريكا، ولا يظهر للآن أن أحداً يريد أن يتوقف لينظر بحكمة على ما يجري.
وتظهر المرحلة العليا في منظومة السيطرة والتحكم الأمريكية على العالم، عبر فرض رؤيتها الفكرية الاستراتيجية على المنظمات الدولية، لتشكل اللمسات الأخيرة لهيمنة متهددة الأذرع. ويبدو ملموساً الانحياز الضرير أو القسري خلف الثور الأمريكي المنفلت، حيث ترتعب منه العديد من الدول.
جميعها معاً تشكل صورة أمريكا عن نفسها ورؤيتها عن العالم كيف عليه أن يكون، بحيث لا يخرج عن سياق "تشيزبرغر، الكوكاكولا، سي إن، ميكروسوفت، غوغل، أمازون، وول ستريت، هوليود، واشنطن بوست، فيسبوك، بنتاغون، سي آي إيه، اف بي آي" والأنماط الأمريكية الأخرى المتعددة. فحين يفشل "الشيزبرغر" في أمركة العالم، تتدخل "سي إن وأفلام هوليود"، وإذا العالم توقف عن تصديق بطولة "رامبو" في أفلامه، حينها لا بد من تدخل البنتاغون وأدواته وأتباعه وفروعه، لإعادة الرشد لمن فقده واعياً أو لا هياً، وإلى كل من خرج عن طريق الصواب، وإعادتهم إلى بيت الطاعة، وفرض السيطرة مرة أخرى على من يتمرد.
أمريكا الفاوستية
تنظر الولايات المتحدة إلى بعض الدول على أنها مطبخ استعماري، وإلى بعض الدول على أنها أقاليم متمردة، وإلى البعض الآخر باعتبارها حديقة البيت الأبيض الخلفية التي تحتاج أعشابها إلى تشذيب.
إن سعي الولايات المتحدة للسيطرة على العالم مستعينة بقوتها الجبارة، لهو أمر تشرّعه أعراف السياسة الدولية غير المنصوص عليها في العقود، حين يرتبط الأمر بالنفوذ، لكن عندما تتحول أمريكا إلى مركّب هجين بدائي تريد إعادة العالم إلى همجيته، وتصبح محترفة لصناعة الموت والقتل، وتجعل من الحروب سبباً لوجودها، ومن الدمار مبرراً لاستمرارها، ومن الدماء والضحايا مادة للفرجة، حينها تكون الولايات المتحدة الفاوستية قد باعت روحها للشيطان كي تقوم ببناء هذا العالم كما تقرر.
حرب تجارية، وحصار اقتصادي، تدخلات عسكرية، نهب ثروات الشعوب، التدخل في كل شيء، الانسحاب الصبياني من الهيئات الدولية، ومن الاتفاقيات الموقعة مع أطراف أخرى. ألا يشير هذا السلوك إلى حالة من المراهقة تعكس تجبراً منفلتاً، كمن يقول إما أن تلعبوا حسب قوانيني ومزاجي، أو أنني سأنسحب، بل سوف أعمد إلى تخريب اللعب. وهي غالباً ما تقوم بتخريب كل شيء، سواء وافق الآخرون على اللعب أم رفضوا، فالثور التي تتلبّسه الروح الشيطانية يمضي مدمراً كل ما في طريقه، وهو يحتاج دوماً إلى الخصم الآخر، الذي بدونه يفقد الثور معنى وجوده، وكي تثبت الولايات المتحدة أنها على حق وأن الآخرين على الضلال، لابد من اختلاق عدو تقاتله لتثبت صواب نهجها.
مملكة الفوضى
في مملكة الفوضى الامبريالية الاستعمارية الاستبدادية، سوف يتجه العالم نحو الهمجية السوقية ما لم يتم مواجهة مرحلة ما بعد الامبريالية التي تمثلها الولايات المتحدة بجموحها، حيث تظهر كأنها عصابة وليس كدولة، فهي منفلتة العقال لا تحترم قانون ولا شرعية، وتبتدع أعداء وتشن الحرب عليهم وتريد أن تقود العالم لمعركة ليست بالضرورة هي معركتهم. إنها الفاشية الجديدة، جنون العظمة والغرور المريض والقوة الثملة، هي ما عليه أمريكا اليوم.
لقد اختلطت المعايير ولم يعد العالم يعرف حدود الحضارة المدنية ويميزها عن السلوك البدائي. هل في تغريدات الرئيس الأمريكي، والقرارات التي يصدرها ويتوعد بها العالم ما يشير إلى كون هذا الرجل تحكمه مفاهيم مدنية عصرية؟ وهل نجد في خطاب القوى الدينية الأصولية المتشددة الإسلامية والمسيحية على حد سواء ما يؤسس لاستحضار قديم مضى واندثر؟ وكيف يريدون منا أن نصدق الديمقراطية الغربية اليمينية الصهيونية المسيحية المتحالفة مع رأس المال المتعدد التي بموجبها أصبح "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة، ويرغب في صفع العالم على مؤخرته لأنه لا يؤيد كما يجب سيد البيت الأبيض.
إن خلق الأعداء للولايات المتحدة ضرورة تفرضها مصالح اليمين المسيحي الصهيوني الأمريكي المتشدد ا، الذي يسعى إلى إحداث ظروفاً استثنائية تواجهها أمريكا تتيح للرئيس الأمريكي تجاوز المراسيم والأعراف والتشريعات التقليدية المعمول بها لدى أصحاب التخطيط الاستراتيجي، وهذا من شأنه تركيز سلطة القرار في عدد قليل من أعضاء الإدارة الأمريكية، واتخاذ قرارات أمنية بحيث تصبح السلوكيات البوليسية مقبولة، وتمنح الشرعية في الانقضاض على هذا العدو الخارجي، ثم منح الدول الأخرى فرصة مشاهدة القوة الأمريكية التي تبقيهم في حالة حذر وحرص لعدم إغضاب صاحب المكتب البيضاوي. تماماً هي أولى خطوات الديكتاتورية بصورتها المعاصرة، هكذا كان الفاشيين الرواد.
هل من مواجهة للغطرسة؟
إن الحديث عن استراتيجية مواجهة الصلف الأمريكي يتطلب أولاً قوى لديها الرغبة في المواجهة، ثم يتطلب وضع استراتيجية. وفي هذا السياق قد يبدو مهماً البدء بإجراء إصلاحات في بنية الأمم المتحدة وهيئاتها من أجل تفعيل دورها كمؤسسات كونية تعالج قضايا العالم، وهذا يتطلب حشد تضامني بين مختلف الدول الناشئة، التي يقع عليها وحدها مسؤولية الترفع عن المساعدات الأمريكية حتى لا تضطر لدفع المقابل.
لكن هذه الدول لن تتمكن من الاستغناء عن المساعدات الأمريكية ما لم تجري إصلاحات اقتصادية وسياسية وثقافية في بلدانها لتفويت الفرصة على القوى الاستعمارية.
ثم إن من شأن إنشاء الشراكات بين الدول النامية في الجنوب، وتعزيز التعاون فيما بينها، والانفتاح على القوى الإقليمية، وإقامة تكتلات استراتيجية، أن يحدث نوعاً من التوازن لتقليص الهيمنة والتبعية.
عربياً فإن الانقسامات التاريخية بين الأنظمة العربية وغياب أنماط العمل المشترك الفعال، جعل من منطقة الشرق الأوسط البقعة الأكثر اختراقاً في العالم. والكارثة أن الدول العربية ودول المنطقة تميل بالتزاماتها الاستراتيجية نحو القوى الخارجية الكبرى، أكثر مما تهتم بتعاونها العربي-العربي أو العربي-الإقليمي، على الرغم من امتلاك العرب لوسائل الضغط على أمريكا والغرب، مثل النفط والأرصدة المالية في البنوك الغربية وحجم التجارة الواردة للأسواق العربية. ولا زال العرب رغم عددهم الكبير في الولايات المتحدة لا يمتلكون جماعات ضغط في دوائر صنع القرار الأمريكي. لا مخرج للأنظمة العربية من تحت عباءة الغرب، إلا بوضع استراتيجية تطوير إمكانية أن يستخدمون النظام الدولي لصالح الشعوب العربية، بدلاً من أن يكونوا أدوات وألعوبة بيد هذا النظام.
ما يشبه الخاتمة
مدعومة بقوة عسكرية وميزانية حربية تزيد عن إنفاق عشرين دولة متطورة، وبصرف على البحث العلمي يفوق ما يصرفه العالم أجمع، وبمقدرة اقتصادية الأضخم كونياً، تسعى الولايات المتحدة إلى تطويع الدول والشعوب، وتريد فرض نفوذها على جميع دول العالم، الذي يبدو كأنه محكوم بقَدر الولايات المتحدة التي تسعى لأمركة الكون، سواء عبر وسائل السلم أو العنف، بالإغراء والثواب أو بالتسلط والعقاب. عبر شن الحروب والاحتلالات والقوة العسكرية والحصار الاقتصادي، وعبر التدخل الفاجر في قضايا الدول الأخرى، ومن خلال استغلال التناقضات والنزاعات بين الدول والأطراف في المناطق التي تشهد صراعات. أو بواسطة الهيمنة الناعمة عبر تصدير المنتجات الأمريكية والسلع والبضائع والعتاد الحربي والأسلحة، والتقنيات الحديثة إلى الأسواق العالمية، والسيطرة على الاقتصاد العالمي وعلى حركة التجارة العالمية خاصة في الأسواق الناشئة. ومن خلال نشر الثقافة الأمريكية وبسط السيطرة الفكرية على دول وشعوب متعددة، وتسويق أنماط الحياة الأمريكية، وإطهار تفوق النموذج الأمريكي في كل شيء، وهذا بهدف الهيمنة على العلاقات الدولية والسيطرة على الأخرين، والاستحواذ على ثروات المعمورة لخزائن الامبراطورة أمريكا.
في المشهد الحالي الكوني، نلاحظ بوضوح الصلف الأمريكي والعنجهية اليمينية المدمرة، والغرور والتجبر والتسلط الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد دول العالم، ولم ينج أحد من هذا الفجور حتى حلفاء أمريكا. ويبدو وكأن أمريكا تقود العالم -شأنها دائماً- إلى السقوط في القعر المظلم. فهي تمارس هذا الزهو بالسلطة والقوة كي تمنح -واهمة- الداخل الأمريكي الأمن والسلام. لكن غالباً ما تتحول قوة الولايات المتحدة إلى استبداد غاشم، وإلى طغيان يصل حده الأقصى، لأن أمريكا تعتقد أن الحق إلى جانبها يدعمه قوة مفرطة في استبدادها.
الولايات المتحدة لا تكتفي بأن تحقق النصر في معاركها، بل لابد من أن يكون غريمها المنهزم طرفاً شريراً وسفاح آثم مذنب. لذلك تقوم دوماً بوضع العالم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تحصل على عضوية الاتحاد الذي يضم الأخيار والطيبين والمتحضرين، الناس الصالحين والشرفاء والمطيعين، الذين يبتغون مواجهة الشر والتخلف والهمجية والعصيان. أو أن تكون خارج هذا الاتحاد مع طائفة من قطاع الطرق الفاسقين، الذين يعتمدون خطاب التشدد الديني والسياسي. وعليك أن تختار أحد المعسكرين. وهذا بذاته يعتبر استبداد أمريكي وتجبر وتعسف وشطط، أكبر واقوى من إجحاف واضطهاد القوى الأخرى التي تعتبرها الولايات المتحدة أنها دولاً مارقة وجماعات متطرفة وظلامية، وتدّعي محاربتها في أماكن متعددة من العالم.