العودة الى الدين: هل نشهد موت العلمانية المعاصرة؟

عادل الصويري

2018-09-05 07:56

يشهد العالم ومنذ مطلع الألفية الجديدة ارتداداً علمانياً وتغييراً لافتاً على مستوى قناعات أقطاب ورموز التوجهات العلمانية في النظرة تجاه الدين ودوره في التأثير على العالم الإنساني، بل أن تغييراً هائلاً طرأ على تلك القناعات تمثلت في إعادة النظر بفكرتها عن مصطلحات مثل الغيب وغيرها. ويبدو أن أحد أهم أسباب هذا (الارتداد) العلماني هو الوقوع في فخ تصنيم وتألهة المعتقدات الوضعية التي جاءت بها المسميات الفكرية، واعتبارها خلاصة ما يمكن أن تصل له الإنسانية، بينما الواقع يؤشر بوضوح إلى البون الشاسع بين المجتمعات وبين من ينادي بالعلمانية لتخليصها من مشكلاتها.

كما أن العلمانية الحديثة أو المتغيرة انتبهت إلى أن المعطيات الإقصائية لمنظومتها، والأزمة الواضحة لخطابها، تستدعي الركون إلى واقعية عودة الدين ليأخذ مكانه الطبيعي في الفكر المعاصر والحداثي، من خلال تبيان الرؤية الدينية وموقفها من التجديد والمعاصرة، بعد مراجعة الأفكار الإصلاحية التي انطلقت من المفكرين الإصلاحيين الدينيين الذين اعتمدوا السؤال المهم الذي طُرح في قرون ماضية: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ مع التركيز على عدم اختصار الإسلام للحداثة بنمط فكري يرى أن الدول التي حباها الله بالموارد هي دول متقدمة على صعيد العمران ــ مثلاً ــ ، بل نريد أن تكون حداثتنا منطلقة من العقل والأفكار التنويرية، وليس فقط من خلال المردودات الاقتصادية لهذه الموارد.

العودة الفرنسية

لا شك أن فرنسا تعد اليوم رائدة العلمانية، وهي الأنموذج الحقيقي لتطبيق التمايز في شكل العلاقة بين الدين والدولة، وبتطبيقاتها العملية؛ صارت الملهم الأكبر للمنادين بالعلمنة في الشرق الأوسط والعالم العربي، لكن بوادر تراجع يمكن لحاظها تتمثل بعودة كثير من الفرنسيين إلى الكنيسة التي ثاروا عليها إبان ثورتهم الشهيرة، الأمر الذي يؤكد أن حالة من الفصل الواعي حدثت بين الدين كمنظومة اخلاقية وبين السلوكيات التي تبتعد به عن حقيقته.

وأمام هذا التراجع المعلن، كان للموقف الرسمي تأكيد ينسجم مع هذا التراجع، حيث ألقى الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) خطاباً أمام مجموعة من القساوسة أكد فيه على ضرورة ترميم العلاقة التي شابها التوتر بين الدولة والدين ممثلاً بالمؤسسة الكنيسية، وقد اعترف الرئيس الفرنسي في خطابه أن أكثر الذين عادوا الكنيسة انطلقوا من توجهات تخدم مصالحهم في المناسبات السياسية.

وكان لهذا الموقف الرسمي الفرنسي أصداء وردود أفعال سلبية من قبل العلمانيين الذين اعتبروا (ماكرون) منقلباً على عرش العلمانية التي ترسخت في فرنسا بعد صراعات دامية.

والأكيد أن هذا الموقف، وإن كان ظهوره سياسياً من قبل رئيس الدولة؛ إلا أنه يعبر عن سياق عام وصحوة فكرية أدت غلى اتخاذ مثل هكذا موقف رسمي، فالشعور بالفراغ، وتداعي الحضارة الغربية، والغموض الذي يلف مصيرها، جعل الأوساط الفكرية والثقافية تعيد النظر بخياراتها، من خلال الدعوات الصريحة إلى نقد الفردانية والعودة إلى القيم الروحية.

العلمانية وإشكالية الـ (ما بعد)

وأمام أزمة الخطاب، وركود العلمانية وعدم نجاحها في الوصول إلى مثال يحتذى به، ظهر مفهوم ما بعد العلمانية الذي يشير إلى تغيير القناعات التي تحدثنا عنها وخصوصاً تلك المتعلقة بالدين ودوره. ولسنا بصدد مناقشة أصل المصطلح وتأطيره بالثيمة الزمنية (ما بعد) بقدر مانريد أن نتفق به مع كثيرين يعتقدون أن استخدام هذا المصطلح في الأدبيات المعاصرة ماهو ألا تخفيف من حقيقة أن العلمانية وصلت لنهايتها فكرياً بعد أن فقدت كل مقومات وأدوات إدامة الصراع الزمني المرهق بينها كمنظومة تدعو لتحييد الدين، وبين أخرى ترى في الدين والدفاع عنه مبرراً لتأكيد حضورها السلطوي، وهو الصراع الذي لم يعد بتلك الأهمية التي تستوطن ذهنية البشرية بعد التغييرات الكبيرة التي يشهدها العالم.

وأكثر شيء يلزم التفكير به اليوم هو الاجتهاد في إيجاد المنطقة الوسطية بين الفوضى مطليَّةً بطلاء التسميات والأفكار العبثية من جهة، وبين المعتقدات الدينية التي تتزيّا بزيّ التطرف. والمنطقة الوسطى التي نعنيها هي الوصول للعمق الفكري لكل مبدأ يتم تبنيه بعيداً عن القشرية التي قد تساهم في التضليل المضر. لابد من الإيمان أن أكثر الأضرار التي تسببت بخدش الجدار الإنساني ماهي إلا الاستخدام السيء لصراع الافكار. فالصراع بين العلمانية والدين هو بالنتيجة صراع أفكار تتداخل فيه الثقافة بالاجتماع والاقتصاد، أكثر من كونه صراع على شكل العلاقة بين الدين والدولة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي