الخطاب الإسلامي المعاصر: ازدواجية المضمون وتضاد الشكل
حكمت السيد صاحب البخاتي
2018-07-08 05:50
منذ عقد السبعينات في القرن العشرين، وهو العقد الذي تصدرت فيه فكرة أو مصطلح الصحوة الإسلامية واجهة هذا الخطاب الإسلامي، كان هذا الخطاب يتبلور في ضرورة احياء القيم الإسلامية الأخلاقية والاجتماعية ومن ثم تمريرها الى القيم السياسية – الإسلامية التي يقترحها هذا الخطاب ويشدد في هذا المجال على تطبيق أحكام الشريعة، وجزئيا كان يدور في منطق العدل الاجتماعي الذي كان غيابه يشكل مبررا مثاليا ومقنعا للقبول بهذا الخطاب كآخر مآلات الجماهير المقموعة والمصدومة في ظل الأنظمة السياسية العربية – العلمانية والدكتاتورية التي تسللت الى الحكم منذ عصر الانقلابات العسكرية في العقد الخامس من القرن العشرين، واستبدت بالحكم في الستينات من ذلك القرن المتوتر بالأزمات والصراعات.
وفي مناخات تلك الأزمات تبلور الخطاب الإسلامي – السياسي في تأكيده ونزوعه نحو العودة الى القيم الإسلامية التي مرت بصناعة هذا الخطاب الايديولوجية وتهذيبه الفكري الملازم لكل استعادة من التاريخ والتراث بما يتوافق والذرائعية السياسية التي ميزت هذا الخطاب، وكان موضوع الاصالة هو محور البعث القيمي – الافتراضي والنزوع السلفي الذي مارسه هذا الخطاب، وقد التقى وطبيعة الفكر القومي في النزوع القومي والماضوي وقد اثار جدلا واسعا آنذاك في الثنائية الثقافية العربية الشائكة، وهي ثنائية الأصالة والمعاصرة او الحداثة والتراث، وظلت المواجهة قائمة على صعيد الفكر العربي ولم تحسم نتائجه لكنها أوجدت واقعا متعكزا بقوة على التراث بتأثير الخطاب الإسلامي – السياسي ومعاصرة تقف على هامش الحداثة ناهيك عن عدم قدرتها على ابتكار الحداثة الخاصة بها.
واستمدت سيميائيات الخطاب الإسلامي صورها ونماذجها من وقائع ومتعكزات التراث وكانت مشاهد اللحى الطويلة وغطاء الرأس والمسبحة منتشرة وسائدة منذ عقد السبعينات من القرن العشرين وقبله بقليل في عقد الستينات، رغم ان صور وقناعات هذه المشاهد تعود الى فترة انبعاث جماعة الاخوان المسلمين في مصر في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين، لكنها أخذت منحى آخر في الانتشار في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهو منحى الأصالة والثقافة وقيم الحضارة، وكانت في مضمونها تعبير عن تضادها مع العابر الحداثي وعن التصاقها بالقار التراثي مما منحها القدرة على التعبير عن الهوية، ولم تكن قبل ذلك التاريخ ذات صلة بالتعبيرات القصدية الثقافية والحضارية، وكانت تلك القصدية في التعبيرات قد أفرزها الخطاب الإسلامي السياسي، وأفرزتها عملية أدلجة متعمدة للتراث والتاريخ باشرها هذا الخطاب.
قبل ذلك لم تكن تعبيرات الهوية هذه تخرج في سيمائيات اللباس الإسلامي عن المنحى الديني الخالص لها في الاستحباب الشرعي والموروث الاجتماعي ذي المنحى الأخلاقي وهيمنة الحياء في اللاوعي الاجتماعي - الإسلامي العام الذي كان يشعر بالحرج في كشف غطاء الرأس سواء للرجال أو للنساء، وكان ذلك التقليد موضع التزام من قبل كافة الفئات الاجتماعية وحتى غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية، وكان الحجاب التقليدي يستمد قوته الأدبية والمشروعية الاجتماعية له من ذلك المنحى القيمي – الأخلاقي العام للأزياء واللباس التقليدي، لكن طرأ تغيير جذري على مفهوم الأزياء بالتعبئة الثقافية المستمرة له بأيديولوجيات التوجيه له، وهو وأن لم يكن على مستوى عالمي محدود لكن ما يعنينا هو الخطاب الإسلامي.
فقد نظرت الثورة الإسلامية الإيرانية الى ربطة العنق بانها شكل من أشكال التغريب الثقافي والتخلي عن الاصالة الإسلامية، ولم تتوقف عند أعتاب جزئية ربطة العنق في ديكورات الاناقة أو موضات العصر الحديث بل نظرت اليها باعتبارها تمثل عمق الحضارة الاوربية الغربية في المسيحية، فهي البديل الثقافي المسيحي عن الصليب الذي كان يضعه كل فرد مسيحي أوربي حول عنقه وهو يشكل امتدادا للمسيحية في الذات الاوربية وهو توسع في مديات غير مألوفة في الخطاب الإسلامي.
وقد ركز هذا الخطاب الإسلامي - السياسي المنتمي الى ما عرف بالصحوة الإسلامية على الحجاب باعتباره التمثيل الأول والأولي للإسلام في مواجهة الغرب، ولم يعد ذي أولوية بالمسألة الأخلاقية التي استقرت في الذهن الإسلامي حول علاقة الحجاب بالأخلاق، وقد أصبغته الادبيات السياسية – الإسلامية ذلك البعد الرمزي في التعبير عن الشخصية الإسلامية ومن ثم الشرقية – العربية حتى أفرغ أحيانا من مضمونه الديني والفقهي لصالح الانتماء الهوياتي والثقافي.
فلم تعد الفتاة المحجبة مشروط فيها الالتزام الديني الكامل، بل لم يعد الحجاب فيه تلك الشروط الدينية المكملة أو الناظرة لمفهومه الشرعي مثل الاكمام الواسعة والثياب العريضة الساترة، وهي الضامنة لعدم اثارة الفتنة وفق الرؤية الفقهية التقليدية في المجتمعات الدينية، وتم اختزال مفهوم الحجاب الى حدود غطاء الرأس. فلم يعد مفهوما يسع الجسد الانثوي بكامله، وتداخل بأزياء الموضة الحديثة وصرعاتها المفاجئة للذوق وللصورة النمطية للأزياء التقليدية والرسمية، وكان غطاء الرأس مع الجينز الأميركي آخر صرعات أزياء هذا الحجاب الذي تخلى عن مضمونه الديني لصالح التعبير الهوياتي والثقافي، وكانت هذه الازدواجية في مضمون وطبيعة الحجاب الإسلامي المعاصر واحدة من افرازات ذلك الخطاب الذي يكشف عن بنية مزدوجة ومركبة من دينية غير تقليدية ومعاصرة مشوهة، وقد يعترض ذلك الخطاب على هذه الخلاصة من النتيجة بأنه يرفض هذا النموذج من الحجاب ولا يشجع عليه بل ويدينه، لكنه هو الذي أسس له وأفرزه خطابه ولعله بغير وعي منه حين سعى هذا الخطاب الى الربط الهوياتي والثقافي للحجاب في مضمونه على حساب الديني والأخلاقي.
وكانت من نتائج ازدواجية مضمون خطابه هو ارتباك الشكل في كل افرازاته السياسية والاجتماعية وحتى الفقهية أحيانا مما فسح المجال أمام ذرائعية غير متعادلة مع مبادئه وأولوياته الدينية والفقهية، واخذت تلك الذرائعية تطغى على مبررات وخطط ذلك الخطاب الذي أفسحت له تقنيات الميديا الحديثة مديات أوسع في العمل والانتشار، وإمكانات النفع المتواصلة ماديا واعلاميا.
وبوطأة الشرط التجاري في استغلال الجسد الانثوي وتوظيفه في عناصر الجذب باتجاه الميديا القابلة للوصول وللتأثير في قطاعات المتلقين، لجأت أدوات هذا الخطاب الى التخلي عن شرائط الحجاب في بثها التلفزيوني والإعلامي وكانت قناة الجزيرة ذات النهج والخطاب الاخواني – الإسلامي والاصولي تكشف عن تلك الطبيعة الازدواجية والذرائعية في الخطاب الإسلامي المعاصر، فأغلب أو كل السيدات العاملات فيها لا يمت مظهرهن الخارجي سيميائيا – مع الاحترام الفائق – الى الخطاب الإسلامي في شكله ومضمونه المفترض ايديولوجيا حول مفهوم وصورة الحجاب، سواء في مضمونه هذا الخطاب الديني أو في شكله ذي التعبير الثقافي والحضاري وفق ما يطرحه هذا الخطاب في أدبياته قبل عصر السلطة والمال والتحالف مع القوى الإقليمية النافذة بقوة الدولار- بترول.