خطيئة إقصاء العالَم الطفولي

عبد الرزاق عبد الحسين

2018-01-18 07:12

ينشغل الكبار بأنفسهم، يفكّرون للأطفال بعقولهم، وينسوْن بأن الطفل له عالم (كبير)، تأخذهم العزّة بالخيال الأوسع للكبار، ويتناسون أن العالم الطفولي لا يطوله خيال الكبار إلا ما ندر، أين تكمن المشكلة، في الطفولة أم في عالم الكبار؟، الطفل له عالمه الخاص، هكذا يؤكد علم النفس، ويطالب بعدم التدخل فيه، وإن تطلّب الحال ذلك، فالتدخّل لا يصل حد الإقصاء أو إلغاء الفكر الطفولي بحجة عدم أهليته.

هنا سوف يرتكب الكبار خطيئة إلغاء العالم الطفولي، وهي خطيئة تُرتكب مع سبق الإصرار في المجتمعات البدائية، ولا نجد لها حضورا أو تأثيرا في المجتمعات المتقدمة، لأنها تفهم أن المنطلق نحو عالم أفضل للكبار يبدأ من عالم الصغار، وإذا صحَّ المنطلَق صحّ ما تلاه.

قد يتساءل الكبار، كيف نتجنب خطية إقصاء عالم الأطفال أو أفكارهم، ويأتي الجواب من علماء النفس، على الكبار أن لا يقحموا أنفسهم في هذا العالم بالقوة والإكراه، وعليهم المراقبة عن بعد دون أن يشعر الطفل بذلك، ثم يأتي دور الخيال وماذا ينتج للطفل حتى تسمو رؤيته وتعلو فوق الصغائر، يتم ذلك بعيدا عن الوعظ الحاد المباشر، بالإيحاء يمكن أن يحصل عالم الطفل على كل ما ينقصه ويكمّل عالمهُ، لكن الملاحَظ في مجتمع الكبار هناك مسارين:

الأول: إقحام عالم الكبار على الصغار.

الثاني: ارتكاب خطيئة إلغاء عالم الأطفال والتعامل معهم على أنهم عقول مكتملة.

في الكلام عن الأول، لا يستحسَن أن نترك الأطفال وحيدين في عالمهم، هذا رأي لا يجافي الحقيقة، ولكن هنالك اشتراطات في هذا الرأي، عدم تركهم وحدهم لا يعني أن تفرض عليهم عالمك، أفكارك، خيالك، ثمة فارق كبير بين عالمنا وعالمهم، دعهم يفكرون بعقولهم، دع خيالهم يجنح صوب أعالي الأخيلة، دعهم ينطلقون في أفكارهم، حتى حين تكتب لهم (كن طفلا) وعش عالمهم وقرّبهم منك بهذه الطريقة، وليس بطريقة الفرض والضغط والاقحام.

وحول الثاني، هنالك من ينظر إلى عقل الطفل كأنه عقل كبير، فيتعاطى معه على هذا الأساس، وثمة من الآباء من يستطير غيضا عندما يخطئ طفله في كلمة أو خطوة أو تفكير ما، فيستكثر عليه مثل هذا الزلل الطفولي الطبيعي، يزجره، يوبخه، يؤنبه كأنه رجل كبير مكتمل، ويتناسى أن ما يراه الكبير ليس نفسه ما يراه العقل الطفولي ولا خياله ولا عوالمه، والخطأ الأكبر الذي يرتكبه الكبير بحق طفله حين يصر على إفهام الطفل بما يراه هو ولا يعترف بما يراه الطفل بعقله وخياله وعوالمه المختلفة.

فالأب مثلا في كثير من الأحيان لا يقتنع بالخطأ الذي يرتكبه طفله، والخطأ هنا خطأ حسب مقاييس رؤية الكبير فقط، أما الطفل فإنه يستغرب أن يوصف عمله بالخاطئ من أبيه، لذلك يدعو علم النفس الكبار بوجه أخص على النزول إلى مستوى تصورات الطفولة، والتفاعل معها على أساس أنها مكتملة ومائزة، ولا يصح إشعار الطفل بقصور في الخيال أو التفكير أو التصور، مع تقديم الإطراء والتشجيع الفائق للطفل وللخطوات التي يُقْدم عليها.

يتم التركيز على كتّاب الأطفال بالتماهي مع التصورات الطفولية، وعلى الكاتب أن يتخيل على وجه الدقة ما هي ردود فعل الخيال الطفولي وما الذي يستسيغه حتى يكون محطّ رغبته واهتمامه، حتى الوصايا والوجيهات لا يجب أن يتم تقديمها على نحو مباشر، بل تمريرها في صور وصيغ وتصورات غير مباشرة، لا علاقة لها بواقع الكبار أو عوالمهم القاسية الجافة الحادة الملامح، فالطفل يحب الوجوه الجديدة دائما والأشكال التي لا تماثل أشكال الواقع، فيحلّق معها بخياله عاليا ويصنع منها عالمه الخاص الذي يحبه ويتعلق به بتمسك شديد.

هذا يلزم منا نحن الكبار معرفة كيف نتعاطى مع عالم الطفل، بيد أننا نعمد دائما إلى إقصائه، والسبب يكمن وراء جهلنا بأهمية هذا العالم الطفولي الذي تتشكل عليه شخصيته الطفولية الراهنة وقوتها وتميزها وذكائها، ليس هذا فحسب وانما يمتد ذلك إلى المراحل العمرية الأخرى، حيث تكون الشخصية متميزة أو مهزوزة متخاذلة، والسبب الذي ينبغي أن نفهمه نحن الكبار، هو تعاملنا بازدراء وإقصاء لما يراه العقل الطفولي وما يتصوره وما يجعله محبا للحياة فاعلا فيها ونشيطا.

إعادة النظر بإقصاء العالم الطفولي من قبل الكبار هو الخطوة الأولى والأهم لترميم شخصية المجتمع القادم، وطرد العاهات التي امتلأ بها عالم الكبار، يتم ذلك ببساطة عندما يتكف الكبار عن التعامل بتعال وتكبر وإهمال مع العقل الطفولي الذي يسعى لبناء عالمه كما يعيش هو وتبعا لما يحلم به وما يشعر بأنه يتوافق معه نفسيا وفكريا وعمليا، بعيد عن اقحام عالم الكبار بالقوة على العالم الطفولي.

في الخلاصة على الكبار، آباء، علماء، معلمين، مثقفين، وعقول مدركة، أن نسعى جميعا الى بناء العالم الطفولي وليس تهديمه أو إلغائه لنضع محله عالمنا في عملية إقحام قهرية، تنتهي بأطفالنا الى أمراض العصر الخطيرة، التوحّد، التأتأة، التردد، الخوف، التهرب من المواجهة، الضمور الفكري، قلة الإقدام، شحة الخيال الجامح، وأمراض أخرى تجعل من شخصية الطفل صفرا على الشمال، والخاسر هو المجتمع كله قبل الطفل وقبل ذويه.

ذات صلة

مصائر الظالمينترامب يصدم العالم.. صنعنا التاريخفوز ترامب.. فرح إسرائيلي وحذر إيراني وآمال فلسطينيةالنظامُ التربوي وإشكاليَّةُ الإصلاح والتجديدالتأثير البريطاني على شخصية الفرد العراقي