فتوى المرجعية الدينية أقوى سلاح ردع في العالم

فتوى الميرزا محمد تقي الشيرازي إنموذجا

محمد علي جواد تقي

2017-09-04 05:30

ما يتميز به شيعة أهل البيت، عليهم السلام، عن سائر المذاهب الاسلامية والأديان في العالم، وجود علماء دين يصدرون أحكاماً شرعية خاصة فيما يستجد من قضايا وأمور في حياتهم، ويحددون فيها الحلّية او الحرمة، مثلاً؛ حرمة التعامل مع البنوك الربوية، او تناول اللحوم والمنتجات الحيوانية من غير أسواق المسلمين، او حرمة تناول أي شيء يلحق الضرر بالانسان، ويدخل ضمنه التدخين والمخدرات وغيرها، وقد أفتى عدد من المراجع بحرمة التدخين ابتداءً، أي للشباب والفتيان.

هذه الميزة والخاصية تعود الى تفوق علمي للشيعة على سائر المذاهب باعتمادهم مبدأ الاجتهاد في الفقه، وهو باب فتحه الأئمة المعصومون لأتباعهم وتلاميذهم في أن يتبحروا في أحكام الدين ويتوسعوا في المدارسة والبحث لتكون الاحكام الشرعية مستوعبة لكل التحولات والمستجدات في حياة الانسان على مر الزمن، ويكون لكل سؤال جواب، الى أمد غير معلوم، وربما يكون الشيخ المفيد – رضوان الله عليه- أول من حمل شرف الفُتيا في القرن الرابع الهجري، عندما بلغه الأمر من الامام الحجة المنتظر –عجل الله فرجه الشريف- بأن "أفت يا مفيد...! منك الفُتيا ومنّا التسديد" بعد ان عزف الشيخ المفيد عن الفتيا لفترة من الزمن خلال وجوده في بغداد لاسباب تذكرها المصادر التاريخية، لسنا بوارد الخوض فيها.

هذا في وقت كانت الامة بشكل عام خليّة من التحديات الخارجية، حتى انهيار الدولة العثمانية، وتكالب القوى الاستعمارية لتقاسم التركة العثمانية باحتلال البلاد الاسلامية المترامية الاطراف؛ من أقصى اندونيسيا وحتى المغرب العربي والبلاد الافريقية، وكانت بريطانيا تمثل في عهد الاستعمار، أقوى وأكثر الدول الاستعمارية اتساعاً ونفوذاً في العالم، حتى شاع عنها بأنها الدولة التي "لا تغيب عنها الشمس".

ولو راجعنا تاريخ الشعوب المستعمرة على مدى قرون من الزمن، نجد أنها معظمها –إن لم نقل جميعها- عجزت عن مواجهة الاستعمار بالشكل الذي نجح فيه الشيعة في ايران والعراق بشكل محدد، فالهند –مثلاً- رزحت في قبضة الاستعمار البريطاني خمسة قرون، حتى قيّض الله رجلاً مثقفاً وواعياً مثل غاندي لينتشل الشعب الهندي من عبودية المحتل وذلّ الاستعمار الى عزّ الاستقلال. وهكذا سائر البلاد الاسلامية، وهذا بفضل قيادة المرجعية الدينية التي اصطدم بها البريطانيون آنذاك بما لم يتوقعوه ابداً، ولعل أول تجربة لهم كانت في ايران، عندما واجهتهم فتوى تحريم التبغ المنتج بريطانياً في عهد ناصر الدين شاه، الملك القاجاري الذي باع مزارع شاسعة للتبغ للبريطانيين مقابل حفنة من الليرات الذهبية، وما أن بلغ المرجع الديني الأعلى آنذاك، السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – طاب ثراه- بأن المزارع الايراني بات اجيراً عند المالك المالك البريطاني وهو المتحكم بلقمة عيشه، أصدر فتواه الشهيرة بحرمة استخدام التبغ في الاسواق الايرانية وفي سائر البلاد الاسلامية، الامر الذي أدى الى خسارة فادحة للشركة البريطانية وإلغاء الاتفاقية عام 1891، أي بعد عام واحد على توقيعها.

محاولات بريطانية لاحتواء الردع

أدرك البريطانيون منذ الايام الاولى من هزيمتهم المنكرة في قضية التبغ الايراني، بان الفتوى، تمثل سلاحاً لا يمكنها مواجهته، لان ببساطة؛ ليس بوسعهم استيعاب المسألة او فهمها، وما الذي يجعل شعب كامل او شعوب بأكملها بإطاعة رجل واحد في أمر ما والالتزام بما يقوله، ولذا لجأوا الى اساليب ملتوية مثل؛ النفي كما حصل مع علماء الدين في العراق على يد الحكام العملاء في العهد الملكي، وايضاً استخدام اسلوب التسقيط، كما حصل مع نجل الميرزا محمد تقي الشيرازي (محمد رضا الشيرازي) الذي اتهمه البريطانيون بميوله للثورة البلشفية، وهو ما دفع ببعض الكتاب البارزين لاعتماد هذا الاتهام كونه جاء في احدى وثائق وزارة الخارجية البريطانية!

ومما قام به البريطانيون لمواجهة هذا السلاح؛ تشويه الحقائق بخصوص دور المرجعية الدينية في صناعة الاحداث وقيادة الجماهير، ففي عام 1918 أقدم البريطانيون على اجراء استفتاء في العراق يوجه السؤال التالي: هل تريد حكماً بإدارة بريطانية مباشرة؟ أم تريد حاكماً عربياً مسلماً؟ ومن هو؟ فأصدر الميرزا محمد تقي الشيرازي، فتوى مكتوبة تنصّ على أن "ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب او يختار غير المسلم للإمارة والسلطة على المسلمين"، وحسب المصادر التاريخية فقد أمضى على الفتوى سبعة عشر من علماء الدين الكبار آنذاك، ثم أرسلت نسخ من الفتوى الى مدن وعشائر الفرات الاوسط ، مع ذلك نقرأ في بعض الكتب التي تتحدث عن تلك الفترة بأن الفتوى إنما جاءت بشأن مشروعية تشكيل "الجمعية الاسلامية" التي أسسها نجله (محمد رضا) عام 1919، وانتمى اليها عدد كبير من العلماء المثقفين، بهدف ممارسة الضغط على البريطانيين لمنح العراق الاستقلال وترك العراقيين يختارون ملكاً مسلماً لهم، والدليل المثير للجدل في هذا الكتاب، "أن الرسالة مختوم عليها تاريخ 1919، وقد اعتمدها صاحب الكتاب!

ولم يكن البريطانيون وحدهم من اتخذ الخطوات العاجلة والمرتبكة لمواجهة هذا السلاح، انما لحق بهم من جاء بعهدهم في عهد الاستقلال وظهور الجمهورية العراقية، عندما تعرض العراق ولأول مرة لموجة إلحاد وارتداد على الاسلام في ظل شعارات خادعة تستغل الاوضاع المعيشية السيئة التي خلقتها الحكومات العميلة في العهد الملكي، فعندما أصدر المرجع الديني الاعلى السيد محسن الحكيم – طاب ثراه- فتواه الشهيرة بتكفير الشيوعية، عكف الشيوعيون، ومنذ إصدار الفتوى وحتى اليوم على الترويج بأن التيار القومي كان له تأثيراً على إصدار هذه الفتوى، بدعوى التنافس المحموم بين التيارين على النفوذ في العراق، في حين ان حقائق التاريخ المعاصر تؤكد أن هذه الفتوى إنما صدرت بعد تحشيد علمائي كبير لمواجهة المد الإلحادي في المجتمع العراقي، فكان للخطباء والعلماء والمثقفين دوراً كبيراً في إنجاح هذه الفتوى، وتحديداً ما جرى في كربلاء المقدسة من جهود حثيثة واستثنائية بقيادة المرجع الديني الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي الذي عبأ الطاقات العلمية والفكرية والاجتماعية لمواجهة هذا الغزو الجديد من نوعه.

الفتوى سلاح آمن

مهما تكون الحاجة الى الفتوى لمواجهة المخاطر والتحديات، فان المرجعية الدينية، وعلى طول الخط، تأخذ في نظر الاعتبار ملف الامن والاستقرار قبل التفكير في خوض المواجهة، فهي تتحقيق بنسب عالية من عدم انزلاق الاوضاع نحو الفوضى وانتهاك الحرمات والحقوق العامة، ثم تتخذ قرارها بإصدار الفتوى، ولعل هذا بحد ذاته يعزز وجود الفتوى في الساحة كسلاح ردع في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، فهو ليس كأي سلاح في المعركة، إنما هو سلاح ذو بعد استراتيجي من نوع خاص لا يوجد في أي مكان بالعالم، وهذا ينمّ عن معرفة دقيقة بالعدو الذي ينطلق من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" فيلجأ الى كل الاساليب لتحقيق مبتغاه حتى وإن كان على نهر من الدماء والاشلاء والتلاعب بمصائر الشعوب، وهو ما تعارضه بشدة المرجعية الدينية التي تنطلق من منظومة قيم ومبادئ اخلاقية وانسانية.

المصادر التاريخية تشير الى أن فتوى تحريم التبغ البريطاني استغرق اصدارها حوالي اسبوعين من المشاورة مع علماء الدين ومدارسة الاوضاع الاجتماعية والسياسية في ايران، ان لا تكون الفتوى سبباً لإراقة الدماء في الشوارع واستغلال السلطات لبعض نقاط الضعف في المجتمع بخلق الفوضى وإلصاقها بفتوى المرجعية الدينية، وفي العراق، استغرقت فتوى الجهاد ضد الاستعمار البريطاني اثني عشر يوماً من اليوم الذي انطلقت شرارة الثورة بالهجوم على حامية الرميثة جنوب العراق ومحاولة محاصرة القوات البريطانية في هذه الحامية على خلفية احتقان سياسي واجتماعي مرير سببته السياسات الغادرة للبريطانيين، بتوجيه الوعود المعسولة بالاستقلال من جهة، ثم توجيه الشتائم والاهانات لابناء الشعب العراقي من جهة اخرى.

وعندما وصل الى كربلاء المقدسة كلٌ من السيد علوان الياسري وابن عمه نور الياسري ومعهما الحاج عبد الواحد الحاج سكر، واجتمعوا مع المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي، كرر عليهم الاسئلة بضرورة ان تكون العشائر جاهزة ومتمكنة من خوض المعارك العنيفة والمصيرية ضد البريطانيين بما يحقق اهدافهم المشروعة، وأن لا ينعكس ذلك على الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق بخلق حالة من الفوضى، فكانت الوعود والتطمينات بما جعلت الامام الشيرازي يصدر فتواه بأن "المطالبة بالحقوق واجبة العراقيين، ويجب عليهم ضمن مطالبتهم رعاية السلم و الامن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم"، ومما قاله لقادة الثورة بالحرف الواحد: "الامن أهم من الثورة".

إن وجود سلاح كهذا في يد المرجعية الدينية يعني عجز أي قوة أخرى، سواء كانت استعمارية من الخارج، أو ديكتاتورية من الداخل او حتى القوى المستحدثة الجديدة في العالم، أن تفعل شيئاً لانقاذ مصالحها في البلاد الاسلامية، لأن فتوى من كلمات معدودة، ومن رجل يكتبها في غرفة صغيرة، تدفع بالملايين من الناس لأن ينقلبوا على كل ما صنعته القوى الكبرى في الخارج، وما صنعه ايضاً الحكام الذيليون في الداخل، وتجعل كل شيء هباءً منثورا، ولعل فتوى الجهاد الاخيرة لمواجهة الزحف الداعشي التكفيري صوب المدن العراقية، يكون مثالاً حيّاً لوجود هذا السلاح في جعبة الشيعة منذ آخر فتوى جهادية أصدرها الامام الشيرازي عام 1920، وهو دليل آخر على امكانية استيعاب كل التطورات والمستجدات على مر الزمن، فالفتوى التي واجهت الاطماع الاستعمارية ثم واجهت الغزو الفكري (الإلحادي)، قادرة ايضاً على مواجهة فتنة "الارهاب" وظاهرة التكفير والتطرف الديني، الامر الذي يجعل العدو، بعناوينه واشكاله المختلفة، يفكر ألف مرة قبل ان يقدم على خطوة عدائية إزاء شيعة أهل البيت، عليهم السلام، سواءً كانت على الصعيد الفكري او الاقتصادي او السياسي او العسكري.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد