الوعي الجماهيري مسؤولية من؟

محمد علي جواد تقي

2017-08-14 05:50

من أبرز عوامل نجاح الشعوب الثائرة على من استعمرها، وعيها بالآثار السلبية لهذا المستعمِر، وانه احد اسباب ضنك حياتها وضياع هويتها وكرامتها، ويختلف نضوج هذا الوعي وظهوره على الساحة، بين شعب وآخر، فالشعب الهندي – مثلاً- أمضى حوالي خمسة قرون حتى ولد رجل مثل غاندي ليبث فيه الوعي المطلوب للثورة على الاستعمار، بينما نلاحظ الشعب العراقي لم يكن يحتاج سوى عامين فقط ليواجه الاستعمار البريطاني بثورته المسلحة المعروفة عام 1920، أي انه لم يمهل البريطانيين في نشوة الانتصار في الحرب العالمية الاولى عام 1918.

وهكذا؛ ثبتت معادلة التغيير الاجتماعي والسياسي على يد العلماء والمحررون والمصلحون الأوائل، والقائمة على وعي الشعوب لمشاكلها، مثل مشكلة الفقر والهوية، فما قام به غاندي في الهند والامام الشيخ محمد تقي الشيرازي في العراق ، إثارة مشاعر العزّ والكرامة والهوية في النفوس، فمن يهين كرامته ويتسبب في معاناته وفقره، يعد عدواً له تجب محاربته وطرده من البلاد.

من بعد أولئك القادة الأفذاذ، على من تقع مسؤولية نشر الوعي بين الناس في زماننا الحاضر؟

اعتقد ان الاجابة تأتي سريعة؛ المسؤولية –حصرياً!- من شأن أصحاب الوعي وحملة الفكر، من كتاب وإعلاميين وخطباء وأدباء وعلماء، ولكن؛ طيلة العقود الماضية من القرن العشرين، لم يحصل أي تغيير سياسي في أي بلد من القاعدة الجماهيرية، وإنما من خلال ثكنات الجيش وعلى يد ضباطها وجنودها، وهي دلالة اخرى على الإمعان في تغييب الوعي من الاساس، وكانت الاحزاب السياسية ومن يدّعون الوعي والثقافة يسيرون – حينها- خلف الدبابات والجنود المسلحين ريثما يصلوا على القصور الرئاسية ثم يتم تقاسم الكعكة، سوى تجربة واحدة واستثنائية حصلت في ايران عام 1979، عندما اندلعت تمت الاطاحة بنظام الشاه بقوة الجماهير المنتفضة على واقعها المأساوي، فقد بلغ الاستعباد لاميركا واسرائيل والغرب، والاستهانة بكرامة الناس حداً لا يطاق.

المثقف والقبول بفكرة الطبقية (الشريحة)

من جملة المصطلحات الشائعة خطأ في اوساطنا الثقافية؛ "الشريحة المثقفة"، ومن يتداول هذا المصطلح يضع نفسه الى جانب شريحة العمال وشريحة الفلاحين وشريحة المتعلمين وحتى وشريحة الارامل والايتام وشريحة الفقراء، وهؤلاء وغيرهم يمثلون كيان المجتمع، ولكل شريحة همومها واستحقاقاتها وليس بوسعها التأثير على الشريحة الاخرى جذرياً، فهي تتعاون وتتكافل، ولكن؛ لا يمكنها ان تلغي وجودها، فكما أن العمال والفلاحين والتجار موجودين على صعيد الواقع، فان المثقفين – حسب الاصطلاح السائد- ايضاً موجودون يحتلون مكانهم الخاص.

ولعل هذا يبين لنا فلسفة وجود المقاهي والمنتديات والاماكن الخاصة بالمثقفين، يجتمعون فيها ويتداولون الافكار فيما بينهم، وهذا في حد ذاته أمر حسن، بيد ان الخطوة الاخرى، في نشر الافكار النهضوية والإصلاحية في اوساط الناس، وحمل الواقع الفاسد الى الأذهان والعقول ليعوا أصل المشكلة والخلل وأنهم قادرون على إصلاحها وليس غيرهم، كما نلاحظ المآلات المحزنة للوضع الثقافي في بلادنا الاسلامية، فبدلاً من ان يكون الكاتب والشاعر والمفكر، هو من يرسم الملامح الثقافية لابناء بلده، نرى أن الافكار المستوردة من الشرق والغرب والتي لا تمتّ بصلة لهوية وتاريخ الشعوب الاسلامية، هي التي تقوم بهذا الدور، ثم تنحى الكتاب لفترة من الزمن، ليأتي دور القنوات الفضائية ثم مواقع الانترنت وحتى موضة الملابس وقصات الشعر واختيار العادات الاجتماعية الحديثة، مثل التواصل الاجتماعي بشكل الكتروني!

ان وجود المثقف ضمن شريحته الخاصة، حول الثقافة الى سمة يحملها اشخاص مميزون داخل المجتمع يحافظون الى النظافة والنظام والذوق العام، حتى وإن كان ربما لا يحسن التعبير عن فكرة ما ببضعة أسطر او بحديث مسموع، وإن حصل الاحتكاك في الشارع او الحي السكني او أي مكان عام آخر، فان هذا المثقف يفضل دائماً تحاشي الخوض في الحديث مع الشخص المخطئ في أي عمل فوضوي او لا أخلاقي، كونه يدرك في قرارة نفسه أن لا تأثير له على هذا المخطئ، حتى وأن كان مستعداً للحوار والتغيير.

هذا التجرّد والانسلاخ من الواقع الاجتماعي، كان مما يرجوه الحكام في بلادنا، اذ لم تكن من مصلحتهم وجود المثقف بين الناس، ينشر الوعي والثقافة بين الجماهير، ومن ابرز مفردات الوعي؛ وعي المشكلة الحقيقية التي يعيشها، بينما كان الحاكم الديكتاتور يسعى لتغييبها، ويرسم للناس صورة وهمية لهم، بأنهم أبطال وأقوياء مهما عاشوا الفقر والتخلف، وهذا ما نلاحظ آثاره حتى اليوم مشهودة في بعض الحالات، فبالرغم من الاخطاء الفاحشة للقائد، إلا ان الاتباع يفتخرون بالانتماء اليه والموت دونه!.

الانتاج الثقافي وتجربة علماء الدين

مما يؤسف له حقاً ان نشهد جدالاً عقيماً حول مفهوم ودلالة مصطلح "المثقف" بين علماء الدين وبين العلماء غير الدينيين – إن صحت العبارة- ومعهم الكتاب والادباء والمفكرون، فثمة تشكيك في بعض الاوساط بأن عالم الدين او خطيب المنبر الحسيني، هو انسان مثقف! وحتى لا نخوض في دلالة المصطلح والمعاني المتعددة له، نسترعي الانتباه الى الاستفادة من التجربة العملية في نشر الوعي والوصول الى الجماهير والتأثير فيهم، وهو طموح كل اديب وشاعر وكاتب بأن يجد افكاره في اذهان الناس يتناقلونها بإعجاب وتقدير.

وقد أثار نجاح علماء الدين وخطباء المنبر الحسيني، حفيظة بعض المفكرين الاسلاميين و راح يتساءل عن سبب تزاحم الناس على هذا الخطيب او ذاك، او هذا العالم و ذاك، بينما تصدر الكتب والروايات ودواوين الشعر وغيرها من النتاجات الثقافية، ولا تجد من يشتريها من المكتبات حتى وإن كان بسعر زهيد، إلا اللهم بعض المتابعين من طلبة المدارس والجامعات والقريبين من "شريحة المثقفين".

كلمة السر في منهج العلماء والخطباء؛ القرب ما أمكنهم من الناس، كل الناس، بغض النظر عن فوارقهم الاقتصادية والثقافية والجنسية، وقد علماء دين وخطباء، نجاحات مذهلة في التأثير على حياة الناس وعلى افكارهم ومتبنياتهم من خلال محاكاة واقعهم والدخول الى نفوسهم بتذكيرهم بذواتهم وشخصيتهم وهويتهم، ولعل من ابرز هؤلاء ممن هو جدير بالتكريم؛ سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- الذي حقق نجاحاً كبيراً في هذا الجانب، لقربه من الكسبة والتجار والفقراء والنساء والاطفال والمتعلمين وجميع شرائح المجتمع. يسلّم على الجميع ويسأل عن أوضاعهم ومشاكلهم، ويقدم الحلول تلو الحلول لازماتهم، من خلال المحاضرات او المؤلفات وحتى وهو في طريقه بين الاسواق والأزقة.

ولو عدنا الى الوراء تاريخياً، وجدنا أن تجربة الامام الشيرازي، وغيره من الناجحين في نشر الوعي والثقافة بين الناس، انما هي امتداد لتجربة الانبياء والصالحين على مر التاريخ الذين ظهروا من بين اوساط المجتمع ليثيروا دفائن العقول ويحرضوا الناس على تغيير واقعهم الفاسد بانفسهم، فكانت هوية النبي والرسول ما جاء في نصّ الآية الكريمة: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سورة آل عمران، 164).

وكلما كانت علاقة العالم والخطيب بالمجتمع قوية وواسعة الابعاد، كان نتاجه الثقافي أكثر مقبولية في الاوساط الاجتماعية، لانه سيكون معبراً عن هويتهم وشخصيتهم، ثم عن همومهم وطموحاتهم، كون هذه الهموم والطموحات لا تجد طريقها الى الواقع اذا لم تتبلور الشخصية الانسانية وتتحدد الهوية الدينية والتاريخية، وهذا ما فعله العلماء والخطباء الناجحون، ولعل من أعظم النماذج الحيّة القابلة للتكرار والاقتداء، القضية الحسينية، بكل ما تعنيه عبارة "القضية" وما تحمله من مفاهيم وقيم، فأبطال النهضة الحسينية كانوا مجتمعاً مصغراً من الشباب والكهول والاطفال والمتعلمين وحتى العبيد، بيد أن الوعي العميق ولد لديهم ايماناً لا يضاهيه إيمان، جعلهم يتسابقون نحو الموت دفاعاً عن قيم سماوية عليا ما تزال الاجيال والأمم تذكرها وتستلهم منها دروس الثورة على الواقع الفاسد.

وإذن؛ فان الابطال والمبدعون والصالحون عبر التاريخ هم بالحقيقة أبناء شرعيون للعلاقة الصحيحة بين المثقف المسؤول والجماهير الواعية، فكلما تقدم المثقف في مشروع التوعية والتثقيف بين جماهيره وابناء مجتمعه، كلما كان اقرب الى التغيير الحقيقي ومعالجة مختلف اشكال الازمات والمشاكل.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد