ما بعد الحداثة.. ما بعد العنف
عادل الصويري
2017-05-21 09:59
هل كانت الحداثة حُلماً تكسر على صخرة الأحداث العالمية؟ سؤالٌ يفرضُ نفسه بقوة على راهننا المعاصر، والذي نعيش فيه أحرج اللحظات حيث التشرذم المفاهيمي، والانقسامات التي تكاد أن تعصف بقيم التسامح. وإذا سلّمنا بانهيار الحلم الحداثوي، كيف لنا أن نفكر ونحن إزاء مظاهر تقودنا ــ في حال لم نلتفت لها ــ لنفق مظلم يصعب الخروج منه؛ بسبب تواتر الأحداث، وتزايد الأفكار المتناقضة؟
الإرهاب اليوم؛ صار قيمة تجتهد أن تكون ثابتة في زمننا المليء بالمتغيرات، ويتحرك لتأكيد ثبات قيمته على مناطق متعددة من الكرة الأرضية، فضلاً عن عبوره المنطق الزمني للفتك بماتبقى من أحلام الإنسان الذي يتوق للعيش بحرية وكرامة. والارهاب في الزمن الحداثوي المهدور؛ لم يعد فردياً، أو مندساً في جماعة معينة تحاول الهيمنة هنا وهناك، بل اتخذ أشكالاً متعددة لغاية واحدة تتحرك في فضاءات مريحة من التكنلوجيا والمعلوماتية ووسائل التواصل التي أتاحتها عولمة لم تستطع التغلب على أزماتها ومشكلاتها الفكرية لغاية اليوم.
الممارسات الارهابية تتعدد اليوم، وتتطور أهدافها لتساير التطور الزمني، فلم يعد تصدير العنف مقتصراً على هجمات مسلحة تقوم بها الجماعات المتطرفة المنتمية لجهات الإيديلوجيا يميناً أو يساراً، بل أن التصدي لمثل هذا النوع من العنف يكاد يكون سهلاً بمزيد من الجهود التي تبذلها الدول المتضررة منه على الصعيد العسكري والاستخباراتي، قياساً بأنواع عنفية أخرى ترتدي شكل الأفكار التخريبية التي يتم تصديرها بتقنيات الحداثة الاتصالية.
الآن، لابد من عملية فصل الأنساق التي يعتمدها المنهج العنفي، فالنسق المتعلق بالعنف المسلح؛ لابد من مواجهته بآليات التعاون الدولي التي تحدثنا عنها قبل قليل، فضلاً عن تنسيق بين الشرق والغرب في قضية الاستعداد لمابعد هذه الموجات العنفية، وإعداد سيناريوهات مواجهة تستشرف خطر المراحل القابلة، بعد أن يتم التخلص منها في هذه المرحلة. وقد بدأ الوعي بضرورة التصدي المسبق للخطر القادم يطرق أبواب بلداننا، حيث لاحظت في تونس مؤخراً موجة رفض جماهيرية صاخبة لقضية ناقشتها السلطات هناك حول قضية إعادة الأفراد المنتمين للجماعات الإرهابية المتطرفة، والذين تم إلقاء القبض عليهم في سوريا والعراق بتهمة الانتماء لتنظيم مايعرف بالدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، حيث تمت مناقشة قضية إعادة تأهيلهم ليندمجوا مجدداً في مجتمعهم، فثارت ثائرة المواطنين، وواجهوا هذا المشروع برفض هائل، حيث خرجت مسيرات منددة، وأقيمت فعاليات وندوات لإعلان رفض هذا المشروع، والتحذير من الخطر المستقبلي الذي يهدد السلم المجتمعي، بعودة هؤلاء المتطرفين.
ومن خلال هذه النقطة؛ يمكن لنا مناقشة النسق العنفي الثاني، وهو النسق المتعلق بقضية تصدير العنف والتطرف فكراً عبر تقنيات الحداثة، وربما مابعد الحداثة التي ستنتج ــ بطبيعة الحال ــ مرحلة مابعد العنف، وذلك بتكثيف الندوات والمؤتمرات البحثية المحذرة من النسق العنفي الفكري، وتشخيص جذور هذا النسق، والمساحات التي يتحرك عليها، ومن ثم إعداد خطة تتضمن مناهج تبشر بقيم التعايش السلمي، والقبول بالمختلف مالم يحدث ضرراً، أو تعدياً على سياقات الحياة العامة، وتعزيز مفهوم الاعتدال في تبني الآراء والأفكار، وضرورة عدم اعتمادها أو رفضها دفعة واحدة من غير نقاش موضوعي، وتحليل عميق.
الارهاب والحداثة.. توافق أم تضاد؟
على الرغم من الطابع العولمي لظاهرة الإرهاب؛ إلا أن آراء تذهب باتجاه تعزيز مشروع (الحداثة الإنسانية) باعتباره مشروعاً يحرر الإنسان من قيود الظلامية والجهل، وتشجعه على العمل المنتج والخلاق، وتؤكد أن الأرهاب في تضاد تام مع الحداثة كمفهوم وأن التراجع عن الحداثة يمثل انتعاشاً للارهاب وعودة قوية له. وهنا قد نسأل: هل ثمة انفصال ــ بحسب هذا المنطق ــ بين الحداثة كمشروع تحرر للإنسان، وبين العولمة التي أطل الارهاب من إحدى أهم تمظهراتها الاتصالية؟ وهل تقنيات الاتصال حداثة أم عولمة بحسب هذه الطريقة من التفكير؟
يقول الدكتور (محمود عبد الله) : "لقد استطاع المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن يلفت الأنظار إلى ما قدمته الحداثة من تغيير في آلية الضبط الاجتماعي. إذ عبر التاريخ الإنساني، كانت عملية الضبط تستند تارة إلى الأعراف والتقاليد، أو قوة السلطان المباشرة. ولكن مع الحداثة واكتشافات العلم الحديث، وتطور المعرفة البشرية، والفصل بين السلطات، غدت أساليب الضبط لا تعتمد على التدخل المباشر في حياة الناس، بل استخدام المعرفة في التدخل. غدت علوم السكان والأحياء أداة لضبط البشر وتحديد حدود وجودهم. ومع الوقت تبلور أسلوب الرقابة عن بعد، أي أن هذا الإنسان عاقل ورشيد، ويمكنك أن تتحكم في سلوكه عبر المراقبة من بعد دون تدخل مباشر. ولكن هذا الأسلوب الذي تسميه بعض الأدبيات المهتمة بالإرهاب باستراتيجية المواجهة الناعمة للإرهاب، يبدو في الراهن غير ممكن، لأنه ببساطة يحتاج لوقت أطول، وصبر ودأب، وإيمان في إمكانية عودة الإنسان عن فعله. فأمام أعداد القتلى المهولة، ومشاهد الرعب واستباحة الذبح على الهوية، فإن هذا يشكك على الفور في قدرة الدولة والعلم على المواجهة. أليست الدولة لديها قوة الإنفاذ التي تمكنها من مواجهة الإرهاب، أليس العلم لديه من القدرة على التنبؤ المسبق بالأحداث قبل وقوعها، كما يحدث مثلاً عن مواجهة أخطار الطبيعة. أليس العلم قادرا على تقليب الأذهان وتغيير رؤيتها وتصوراتها، فلماذا لا يستطيع أن يوقف حمى الروح الشغفة بعالم الميتافيزيقا. ومع ذلك كلما كانت الدولة والعلم أكثر تواضعا، ولم يسقط في حمى العودة إلى الأصل المتطرفة، وغلواء الإطلاق، كلما استطاعت مواجهة الإرهاب. فليس بمقدور الدولة إذا كانت صادقة مع شعوبها أن تدعي قدرتها النافذة على إنهاء الإرهاب في أي بقعة كانت، بل يمكنها أن تواجهه طول الوقت، وليس هذا دليلاً على ضعفها بل على مرونتها وعدم رغبتها في خداع الجماهير"1.
في الحقيقة أن التساؤلات التي يطرحها الدكتور عبد الله في السطور السابقة؛ هي نفس كل التساؤلات المطروحة في موضوعة شكل العلاقة بين العنف والحداثة، لكن الذي نحتاجه هو الاعتراف الصريح بأن كل ماتم اكتشافه في الحداثة والعولمة وغيرها من المفاهيم؛ لم يستطع إيقاف عجلة العنف، رغم الاجتهاد في وضع العصا الحداثية في الدولاب العنفي. كما أن عملية التخوف من التمسك بالخصوصيات بذريعة (العودة للأصول إعادة انتاج للتطرف)؛ تبدو غير واقعية أمام معطيات الموجات الارهابية الضاربة بقوة في زمن التقنيات والاتصالات، والتي قد تعود بأقوى من ذلك ــ لاسمح الله ــ في زمن مابعد الحداثة او زمن مابعد مابعد الحداثة ، فالعبرة ليست بتبني المفاهيم الحديثة أو رفضها، ولا بالجمود على الأصول من دون مسايرة الحركية الزمنية؛ بل بكيفية التعاطي وسطياً بين الحالتين، وبما يضمن خدمة العالم الإنساني، وسحبه لضفة أمان يستريح فيها، بعد سباحة مرهقة في بحار الحيرة والخوف، حيث الأمواج الغاضبة.