واحة الحلي
مروة حسن الجبوري
2016-11-26 07:18
قطعت الشارع مسرعة، اختل توازني وكدت اسقط من التعب، قاومت خوفي واندفعت بكل ما يملكه جسدي من قوة نحو الرصيف، كان مكتظا بالزائرين، هذا يبكي وذلك يصرخ، تسللت الى مسمعي كلمات من خطيب كان ينعى يقرا تعزية للسيدة الزهراء (عليها السلام) في أربعينية ولدها الذبيح، وقفت وسط الجماهير صامتة اجتاحتني الحزن وهلت ادمعي، وارتفعت الاصوات، رفعت بصري وذهلت بالنساء اللواتي وقفن ينصتن لحديث الخطيب.
ارخيت عباءتي على وجهي، لحضور الزهراء (عليها السلام) في مجالس العزاء، كان ضوء الشمس ينكسر حزينا على الزائرين، دفعني الفضول والاستغراب لاستماع المحاضرة، رغبتي شديدة في الجلوس، من كلامه عن الحسين وما جرى عليه وعن فضل زيارته، تساقط التعب من جسدي عندما علمت فضل الزيارة، وما لها من ثواب عظيم، قبلت يدي ثلاث مرات حامدة لله على هذه النعمة، فكنت ازور الحسين من دافع حبي وفطرتي، لفت انتباهي حديثه، بعدما عرج الى مكانة كربلاء وقدسيتها بين المدائن، عجيبة هذه المدينة تحتضن الملايين من الزائرين من دون حوادث او نقص في الاموال او الانفس ببركة صاحب البقعة المقدسة رغم صغر المدينة الا انها تتسع وتفرد جناحيها، ومكة وما عليها لا تتسع لكثر من مليونين حاج، تذكرت ما شاهدت في طريقي الى كربلاء من الطعام والشراب والخدمة المشرفة، قال الخطيب علينا ان نحافظ على هذه النعمة الحسينية حتى لا تزول منا فنخسر الدنيا والاخرة.
نتعلم من امامتنا (عليهم السلام) وعلمائنا وكيف كانت زيارتهم لحسين (عليه السلام) وذكر الخطيب مثال على حديثه صاحب المقام الذي نجلس بجوار منه ابن فهد الحلي (رضوان الله عليه) هذا الرجل من شدة تأدبه ورعايته لحرمة كربلاء المقدسة كان يجمع فضلاته في كيس ويأخذ بها خارج مدينة كربلاء بمسافة طويلة حفاظاً على طهارة تربة دفن فيها الإمام الحسين (عليه السلام) كما قال الحكيمي: كان ابن فهد (قدس سره) جامعٌ بين الفقاهة الدقيقة والزهد الشديد والجهاد في سبيل الله، ويشهد للأول كتابه الفقهي المسمى (المهذب البارع) ويشهد للثاني ما ينقل عنه من التزامه بعدم تلويث تربة كربلاء المقدسة، وقضائه لحاجته في طابيته وإرسالها إلى خارج كربلاء لإفراغها هناك، ويشهد الثالث سعيه في نقل حاكم العراق في ذلك الزمان إلى التشيع حتى ضربت السكة بأسماء الأئمة الاثني عشر (عليه السلام).
انتبهت من حولي قبة وضريح، لعل الخطيب يقصد هذا المقام ؟ اكمل حديثه وعرفه بالنسب فقال هو العلامة الشيخ جمال الدين أبو العباس أحمد بن فهد الحلي (قدس سره) من أكابر علماء الشيعة وفقهاء الأمامية في القرنين الثامن والتاسع الهجري، كان جامعاً للآداب والعلم والعمل وملماً بالمعارف الفقهية والعلمية.
شذرات من حياة ابن فهد الحلي
ولد الشيخ ابن فهد الحلي عام (756هـ وقيل 757هـ) في مدينة الحلة التي وهي مدن العراق المعروفة بالعلماء والمدارس الدينية والمعاهد، جاء الى كربلاء المقدسة حيث كانت المرجعية مزدهرة من رواد العلم وطلاب الحوزة والفضلاء والفقهاء الذين جاؤوا إليها من مختلف البلدان الإسلامية كإيران والهند (داغستان، أذربيجان) وغيرها من المناطق الإسلامية، تأسست حوزة كربلاء المقدسة قبل حوزة النجف الأشرف، حيث أسسها الفقيه المحدث حميد بن زياد النينوي المتوفي (سنة 310هـ) وهو من مشايخ الشيخ الكليني و الكوفي، أما حوزة النجف الأشرف فقد أسسها الشيخ الطوسي رحمه الله (385-460)، وقد أشار (ابن بطوطة) في رحلته إلى كربلاء المقدسة سنة 737هـ إلى وجود مدرسة علمية كبيرة إلى جانب الضريح المقدس للإمام الحسين (عليه السلام).
مؤلفاته
(له عدة رسائل في مجموعة بخط تلميذه علي بن فضل بن هيكل، وفيها رسالة في تواريخ الائمة المعصومين (عليهم السلام) واحوالهم، ومعرفة احوال الائمة مقدمة لمعرفة احوال الرواة عنهم، ولذا بدأ الشيخ ابي علي في منتهى المقال، بذكر تواريخهم (عليهم السلام) وله مصنفات نفيسة، كالمهذب البارع في شرح المختصر النافع، والمقتصر، وشرح الإرشاد، والموجز الحاوي، والمحرر، وفقه صلاة مختصر، والتحرير, ومصباح المبتدي وهداية المهتدي، وشرح الألفية، واللمعة في النية، وكفاية المحتاج في مسائل الحاج، ورسالة أخرى في نية الحج، ورسالة في التعقيبات، والمسائل الشاميات، والمسائل البحريات. وفي سائر المراتب كتاب عدة الداعي ونجاح الساعي، واسرار الصلاة، وكتاب التحصين في صفات العارفين. جاء في مصفى المقال).
من تلامذته: الشيخ عز الدين حسين بن علي بن أحمد بن يوسف المعروف بابن العشرة الكركي العاملي، الشيخ ظهير الدين بن علي زين العابدين بن الحسام العاملي، الشيخ زين الدين علي بن هلال الجزائري صاحب كتاب الدر الفريد في التوحيد، الشيخ عبد السميع الحلي صاحب كتاب تحفة الطالبين في أصول الدين، والشيخ محمد بن طي العاملي مؤلف مسائل بن طي، وذكر صاحب الأعيان عدداً ممن يروي عنه فقال يروي عنه جماعة أجلاء من العلماء.
ينقل السيد محسن الأمين (قدس سره) في (أعيان الشيعة) عن الشيخ عبد النبي الكاظمي نزيل جبل عامل في كتابه (تكملة الرجال) قوله: وقد ناظر في زمان ميرزا اسبند التركماني والي العراق جماعة ممن يخالفه في المذهب وأعجزهم فصار ذلك سبباً لتشيع الوالي مذهب التشيع، حيث ألقى الأمير بعد ذلك خطبة الجمعة باسم أمير المؤمنين وأولاده المعصومين(عليهم السلام)، وقد وقعت تلك المناقشة عام(836هـ) بعد أن سقطت الدولة الجلائرية باحتلال الأمير اسبان للحلة في ذلك العام.
من كرامات الحلي ( رضوان الله عليه)
كان العلامة ابن فهد (قدس سره ) من أولياء الله وعباده الصالحين وقد حباه الله بكرامات عديدة :فكانت باب الروضة الحسينية تفتح له عندما كان يتشرف لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) والتهجد في نصف الليل، وقد رأى أحد المؤمنين العلامة المجلسي قدس سره وبجانبه جميع علماء الشيعة ولم يرَ ابن فهد الحلي قدس سره فسأل عنه، فقالوا: إنه ليس في زمرة العلماء بل حشر في زمرة الأنبياء (عليهم السلام)، قال المؤلف الحكيمي: ان الحديث مفسر بان العلماء مقصود منهم الأوصياء الاثنا عشر بعد رسول الله هؤلاء أفضل من أنبياء بني إسرائيل كما يدل عليه أحاديث أخر انه قال تعلموا منهم ولا تعلموهم فإنهم علماء إلى غير ذلك.
هذا واقع شرح الحديث، ولكن يتبادر بالخاطر من العلماء إطلاقه على الفقهاء، ولأجل هذا سألوا ابن فهد الحلي فأنت كيف منهم تثبت لنا الافضلية؟ قال لهم: ماذا تريدون الان؟ قالوا له: من أنبياء بين إسرائيل أبرزهم موسى ابن عمران (عليه السلام) فكان له معاجز أبرزها العصا، عندها رماها أصبحت ثعبانا فهل أنت قادر على مثل ذلك، قال: بلى، فرمى الشيخ ابن فهد الحلي المسحاة التي كانت بيده ويحرث بها الأرض أمامهم فصارت ثعبانا واخذ يحمل عليهم فسلموا عليه بالأمان واستغاثوا به، فعند ذلك قبض عليه وصار مسحاة في يده بصورته الأولى، فاعترفوا له وقالوا: هذا كعمل موسى (عليه السلام)، ولكن حدثنا وعلمنا كيف الأفضلية؟ فقال: ان موسى (عليه السلام) ما مسك على العصا الا بعد ان نودي من السماء (قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى) ولكني مسكت على المسحاة بغير نداء سماوي فاعترفوا له بحقانيته, وتفسير الحديث عمليا. وقيل: بعضهم ما كانوا من المسلمين فأصبحوا من المسلمين, وبعضهم ما كانوا من الموالين لأهل البيت فتشيعوا ببركات الشيخ, واعترفوا بكل ما يعترف به الشيخ ابن فهد الحلي من مذهب الحق لأهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) بهذه الحادثة، يقول المؤلف: (الحكيمي) لقد سمعت هذه الطريفة اكثر من مرة ومن اكثر من شخص من خطباء المنبر ومن مشايخنا المؤمنين وليس ببعيد (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) والله العالم بحقائق الامور.
تلبية نداء الرحيل
توفي العالم ابن فهد الحلي (سنة 841هـ )وهو في( 85) من العمر بمدينة كربلاء المقدسة، ووري جثمانه الطاهر، في شارع قبلة الامام الحسين (عليه السلام) على بعد 200م تقريبا من الروضة الحسينية المقدسة، محل دفنه هو بستان عائدة اليه كان قد اشتراها وعمل بها وتعرف ببستان ابن فهد، وقد أصبح منارا تهوي النفوس ليه، وقبس ينير، وكما تنظرون ايها الاحبة اصبح قبرة مدرسة خالده خلدت بخلاقة وادبه مع الحسين (عليه السلام) وانتم الان تجلسون في داره وتغرفون من بحر علمه واخلاقه صدق عليه القول كن مع الحسين يكن كل شيء معك، فقد روي انه لما اخبر النبي (صلى الله عليه وآلة وسلم) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين(عليهم أفضل الصلاة والسلام) وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة (عليها السلام) بكاء شديدا وقالت ك يأبه متى يكون ذلك ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآلة وسلم) يا فاطمة أن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين انتِ للنساء وأنا اشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة الا عين بكت على مصاب الحسين فإنها (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) بنعيم الجنة.