أبو مخنف ورواة الطف
محمد طاهر الصفار
2016-10-10 01:07
كتب المؤرخ الألماني فلهوزن في مقدمة كتابه (تاريخ الدولة العربية) بحثاً موسّعاً عن الطبري (محمد بن جرير) وعن الرواة الذين اعتمد عليهم في رواياته فقال: (إن الروايات القديمة المتعلّقة بعصر بني أمية توجد حتى اليوم على أوثق ما تكون عليه عند الطبري لأنها لم تختلط ولم تتناولها يد التوفيق والتنسيق، والطبري حفظ لنا خصوصاً قطعاً كبيرة جداً من روايات أبي مخنف، الراوية المحقق، فحفظ لنا بذلك أقدم وأحسن ما كتبه ناثر عربي نعرفه).
أول المقاتل
مما لا شك فيه إن كل الروايات التي ذكرها الطبري عن حادثة الطف هي عن أبي مخنف، باستثناء روايتين رواهما عن هشام بن محمد بن محمد الكلبي عن أبي مخنف، ويعد أبو مخنف أول من ألف في واقعة كربلاء ومقتله هو أول المقاتل وقد اعتمدت رواياته المقاتل التي جاءت بعده والتي دوّنت حادثة الطف ونقلتها من الطبري في أغلبها وبعضها قد اعتمد عليه كلياً كـ (مقتل الحسين) للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم (1312 ـ 1391هـ/1895 ـ 1971م)، والذي يعد أشهر ما موجود من المقاتل الآن وعليه اعتماد الدارسين والباحثين وخطباء المنابر في نقل أحداث الطف.
عمدة المقاتل
وإضافة إلى مقتل المقرم فقد اعتمدت المقاتل الأخرى كلياً أو جزئياً على الطبري الذي اعتمد بدوره على أبي مخنف كما هو معروف مثل: (مقتل الخوارزمي) الموفق محمد بن أحمد المكي أخطب خوارزم (484 ـ 568هـ/1091 ـ 1172م)، و(اللهوف على قتلى الطفوف) لابن طاووس (رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاووس) (589 ـ 664هـ/1193 ـ 1266م)، و(مقتل العوالم) فيما يتعلق بالحسين (ج17) لعبد الله بن نور الله البحراني الأصفهاني (ت1111هـ/1700م)، و(أسرار الشهادة) للدربندي (ملا أغا بن عابد بن فاضل بن زاهد الشيرواني (ت1285هـ/1868م)، و(الدمعة الساكبة في المصيبة الراتبة) لمحمد باقر بن عبد الكريم الدهدشتي البهبهاني (ت 1288هـ/1871م)، و(مقتل الحسين) للسيد محمد تقي آل بحر العلوم (1219 ـ 1289هـ/1805 ـ 1872م)، وغيرها من المقاتل.
فنرى إن كل هذه المقاتل وغيرها قد اعتمدت على أبي مخنف بواسطة الطبري (224 ـ 310هـ)، فمن هو أبو مخنف ؟ ولماذا لم تنقل منه المقاتل مباشرة بدون واسطة الطبري ؟ ولماذا هذا الإعتماد عليه دون غيره من المؤرخين؟
أهمية مقتل أبي مخنف
إن ما يميّز أبا مخنف هو إضافة إلى ثقته في النقل فإنه اختص بالمكان الذي عاش فيه وهو الكوفة، كما كان لقرب عهده من حادثة كربلاء أهمية قصوى، فقد ولد قبل يوم كربلاء بأربع سنين أي في سنة (57هـ)، وعاش (100) سنة أي بعد انقراض الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية سنة (132هـ)، ومات عام (157هـ)، وهذا ما أعطى لرواياته توسّعاً ودقة في المعلومات، كما كان لهذه الفترة الطويلة التي عاشها أثراً كبيراً في إلمامه بجميع أحداث كربلاء والإحاطة بها، وقد نقل بعض أحداث واقعة كربلاء عن أشخاص شهدوها مباشرة وبلا واسطة، وبعضها عن أشخاص رووا عمن شهدها بواسطة وواسطتين، وبعضها عن الأئمة المعصومين وعن ثقاة التابعين وتابعيهم من أصحابهم (عليهم السلام).
نقله عمن شهد الواقعة وعاصرها
فقد روى أبو مخنف مباشرة عن ثابت بن هبيرة، ويحيي بن هاني بن عروة المرادي المذحجي، وزهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي، وهم أشخاص شهدوا واقعة كربلاء مع ابن سعد.
كما روى مباشرة عن أشخاص عاصروا حوادث تلك الفترة وشهدوا أحداثها وهم: أبو جناب يحيي بن أبي حية الوداعي الكلبي، وجعفر بن حذيفة الطائي، ودلهم بنت عمرو - زوجة الشهيد زهير بن القين ـ، وعقبة بن أبي العيزار.
الرواية بواسطة وواسطتين
وروى بواسطة أو واسطتين عمن شهد الواقعة أيضاً وهم: عقبة به سمعان وهو مولى الرباب زوجة الإمام الحسين وقد رافقه في ثورته منذ خروجه من مكة وحتى استشهاده في كربلاء وقد روي عنه قوله: (صحبت حسيناً ، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قتل)، وقد نقل الطبري عنه قوله أيضاً: (وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في طريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله، إلاّ وقد سمعتها).
كما روى أبو مخنف بواسطة عن قرة بن قيس التميمي، وهاني بن ثبت الحضرمي السكوني، وحميد بن مسلم الأزدي، والضحاك بن قيس المشرقي، وعفيف بن زهير بن أبي الأخنس، والإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)، ومسروق بن وائل، والطرماح بن عدي، وعامر بن شراحيل بن عبد الشعبي الهمداني، وحسان بن فائد بن بكير العبسي، وعبد الله بن شريك العامري، وأبو عمارة العبسي، والقاسم بن بخيت، وأبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد، وعبد الله بن حازم البكري، وعباس بن جعدة الجدلي.
الرواة
أما واسطته في نقل الروايات عن الطف فهم: أبو الضحاك (البصري)، وأبو الوداك جبر بن نوف الهمداني، وأبو حمزة الثمالي، وأبو سعيد عقيص المقبري، وأبو عثمان النهدي، وإسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة السدي الكوفي، والحجاج بن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي، والحجاج بن علي البارقي الهمداني، والحارث بن حصيرة، والحارث بن كعب الوالبي الأزدي الكوفي، والحسين بن عقبة المرادي والصقعب بن زهير، والمجالد بن سعيد الهمداني، والمذري بن المشمعل الأسدي، والمعلي بن كليب الهمداني، والنضر بن صالح بن حبيب بن زهير العبسي، وأيوب بن مشرح الخيواني، وبكر بن مصعب المزني، وجعفر بن حذيفة الطائي، وجميل بن مرثد الغنوي، وربيع بن تميم الهمداني، وزائدة بن قدامة الثقفي، وزهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي، وسعيد بن مدرك بن عمارة، وسليمان بن أبي راشد، وسويد بن حية وعباس - او عياش - بن جعدة الجدلي، وعبد الجبار بن وائل الحضرمي، وعبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي، (وعبد الرحمن هذا قد روى جميع أخبار عقبة بن سمعان الذي رافق الحسين منذ خروجه من مكة وحتى استشهاده في كربلاء كما ذكرنا آنفاً)، وعبدالله بن خازم الأزدي، وعبدالله بن سليم، وعبدالله بن عاصم الفائشي، وعبدالله بن عمار البارقي، وعطاء بن السائب، وعلي بن حنظلة بن أسعد الشبامي، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط الاموي، وعمر بن خالد، وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعمرو الحضرمي، وعمرو بن عبدالله السبيعي الهمداني الكوفي، وعمرو بن مرة الجملي، وفضيل بن خديج الكندي، وقدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، وكثير بن عبد الله الشعبي الهمداني، ولوذان أحد بني عكرمة، ونمر بن وعلة، وهشام بن الوليد، ويحيى بن أبي حية الكلبي، ويوسف بن يزيد بن بكر الأزدي، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي.
رواياته عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأصحابهم
وقد روى أبو مخنف عن الإمام علي بن الحسين، وفاطمة بنت علي (عليهما السلام) بواسطة الحارث بن كعب الوالبي، وروى عن الإمام محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) بواسطة عقبة بن بشير الأسدي، وروى مباشرة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، كما روى عن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، وداود بن عبيد الله بن عباس بواسطة عمرو بن خالد الواسطي، مولي بني هاشم.
ومن أصحاب الأئمة الذين روى عنهم أبو مخنف أبي سعيد عقيص من أصحاب أمير المؤمنين، ومحمد بن قيس وعبد الله بن شريك العامري النهدي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، وأبي خالد الكابلي من أصحاب الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وعقبة بن بشير الأسدي من الإمام الباقر (عليه السلام)، وقدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، والحارث بن حصيرة الأزدي، وأبو حمزة ثابت بن دينار الثمالي الأزدي من أصحاب السجاد والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام).
أين هو مقتل أبي مخنف ؟
أجمعت المصادر على أن مقتل (أبو مخنف) وهو أول ما ألّف عن واقعة الطف وهو أول المقاتل وأوثق المصادر عن حادثة كربلاء, لقرب مؤلفه من حادثة الطف ولثقته وأمانته في نقل الحوادث، وقد نقل رواياته من أشخاص شهدوا الواقعة وعاصروها، ومن الأئمة المعصومين وثقاة أصحابهم (عليهم السلام) كما ذكرنا وهو ما جعل من مقتله صورة حية تجسد يوم كربلاء بكل أحداثه وحيثياته.
لكن الذي يثير الاستغراب هو التعارض الكبير بين الروايات الموجودة في كتاب (مقتل أبي مخنف) المتداول الآن, وبين الروايات التي نقلها الطبري في تاريخه ونقلتها كتب التاريخ الأخرى عنه, حيث يصل هذا التعارض إلى الحد الذي يدعو إلى الجزم بأنه ليس مقتل أبي مخنف المقصود.
وفي البحث تنجلي الحقيقة فهذا الكتاب المنسوب لأبي مخنف المسمى بــ (مقتل الحسين) الموجود الآن هو ليس له, ولا لأحد من المؤرخين, وهو مجهول المؤلف, وكل الدلائل تؤكد ذلك. وإن كتاب أبي مخنف (مقتل الحسين) الذي نقلت عنه المصادر التاريخية قد اندثر منذ زمن بعيد ولم يبق منه شيء سوى ما نقلته تلك المصادر!
هذه هي الحقيقة التي تتجلى لمن يطالع المقتل المنسوب لأبي مخنف المشكوك فيه ولا يُعلم على وجه التحديد كم أخذت المصادر التاريخية من مقتل أبي مخنف الحقيقي وكم تركت منه ؟ وكم ضاع منه أو أضيع ؟ ومن يقف وراء هذا التضييع ؟ وكم أتلفت يد السياسة والأهواء العصبية من الحقائق في ذلك اليوم ؟
وقبل الدخول في خضم هذا الموضوع لا بد من التطرق إلى المؤلف.
من هو أبو مخنف؟ ومتى ألف كتابه؟
كان أبو مخنف من أزد الكوفة ولد حوالي سنة (57هـ) أي قبل واقعة الطف بثلاث سنوات وتوفي عام (157هـ) عن مائة عام وهو (لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف), وكان جده رئيس الأزد في معركة صفين مع أمير المؤمنين (عليه السلام).
ويعدّ أبو مخنف من كبار مؤرخي الشيعة, وهو شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم, كما يعدّ أول من صنّف في أخبار الفتوح والخوارج وأيام العرب, حيث امتازت رواياته بالموضوعية في الطرح بعيداً عن التعصّب الأعمى الذي جُبل عليه بقية المؤرخين.
ورغم اشتهار تشيّعه فقد اعتمد على رواياته كبار مؤرخي السنة في النقل عنه كالطبري وابن الأثير وغيرهما, ومن أشهر كتب أبي مخنف كتاب (مقتل الحسين) الذي نقل عنه أعظم العلماء والمؤرخين المتقدمين واعتمدوا عليه اعتماداً كاملاً, وهو أول مؤلَّف عن واقعة الطف, وأغلب ما نقل الطبري من روايات تتعلّق بمقتل الحسين(عليه السلام) هي من روايات أبي مخنف.
يد الجريمة لم تقتصر على مقتل أبي مخنف
وللأسف الشديد إن هذا الكتاب فُقد مع باقي مؤلفاته القيمة والكثيرة, حيث لعبت السياسات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) دوراً كبيراً في ضياعها, لأن أغلب هذه الكتب كانت تُظهر الجرائم الوحشية التي كانت تمارسها تلك السياسات تجاه أهل البيت(عليهم السلام) كما تُظهر حقهم ومظلوميتهم فعملوا جاهدين على طمس الحقيقة ونشر أضاليلهم وتدليسهم وفسح المجال للوضّاعين الكذّابين من مرتزقتهم ممن يقتاتون على موائدهم لتزييف الحقائق.
ولكن رغم كل هذه الإجراءات التعسفية والظلامية بحق مؤرخي الشيعة الذين نقلوا لنا الحقائق التاريخية بكل أمانة وصدق, فقد وصلنا البعض من روايات أبي مخنف عن طريق ما رواه المؤرخون في تواريخهم, ونستطيع أن نقول أن روايات أبي مختف هي من الروايات القليلة التي لم تلوّثها يد التزييف الآثمة, فهي إذاً من أوثق الروايات, وراويها من أكثر المؤرخين صدقاً وورعاً وتقوى.
رواة أبي مخنف شهود عيان
ومما ويدل على صدقه وتقواه أن أغلب رواياته كانت منقولة عن رجال رأوا الحوادث بأعينهم, والباقي إما رآها بعينه وشهدها, أو نقلها من رواة أقدم منه, وكان شديد الالتزام والأمانة في النقل, فهو ينقل الحادثة بحذافيرها, دون أن يضيف عليها رأيه الشخصي, أو يعكس عليها معتقده ومذهبه, فامتازت رواياته بالموضوعية وعدم التعصب.
كان أبو مخنف صديقاً لمحمد بن السائب الكلبي, فكان لهذه الصداقة الفضل الكبير في حفظ روايات أبي مخنف وروايتها وانتشارها عند المؤرخين, فقد كان محمد بن السائب هذا هو والد هشام بن محمد المؤرخ المشهور الذي نقل عنه الطبري أحداث أهم المراحل من التاريخ الإسلامي.
فقد عاش أبو مخنف إلى سقوط الدولة العباسية عام (132هـ), فكان حريصاً على أن لا تفوته واقعة دون أن يؤرخها منذ صدر الإسلام وعصر الخلفاء الأربعة والعصر الأموي, حيث يخصص لها كتاباً خاصاً عنها.
آثاره الضائعة
ويتضّح ذلك من عناوين كتبه التي نهل منها أعظم المؤرخين قبل أن تندثر مدى أهميتها للدارسين فقد دوّن وحفظ أهم مراحل التاريخ الإسلامي وأكثرها أحداثاً وأرّخها بكل أمانة ومصداقية، وقد حفظ التاريخ تلك العناوين التي أربت على الثلاثين كتاباً تخصّ أهم الوقائع في التاريخ الإسلامي وهذه الكتب هي:
(كتاب الردة ــــ كتاب فتوح الشام ــــ فتوح العراق ـــ الجمل ــــ صفين ـــ أهل النهروان والخوارج ـــ الغارات ــــ الحريث بن راشد وبنو ناجية ـــ مقتل علي (عليه السلام) ـــ مقتل حجر بن عدي ــــ مقتل محمد بن أبي بكر ـــ الأشتر ومحمد بن أبي حذيفة ـــ الشورى ومقتل عثمان ـــــ المستورد بن علَّفة ـــــ مقتل الحسين (عليه السلام) ـــــ وفاة معاوية وولاية ابنه يزيد ـــــ وقعة الحرة وحصار ابن الزبير ـــــ المختار بن أبي عبيد ــــ سليمان بن صرد الخزاعي وعين الوردة ــــــ مرج راهط وبيعة مروان ومقتل الضحاك بن قيس ـ مصعب وولايته العراق ـــــ مقتل عبد الله بن الزبير ــــ مقتل سعيد بن العاص ـــــ حديث يا حميرا ومقتل ابن الأشعث ـــــ بلال الخارجي ــــــ نجدة أبي قبيل ـــــ حديث الأزارقة ــــــ حديث روستقباذ ــــــ شبيب الخارجي وصالح بن مسرح ـــــ مطرف بن المغيرة ـــــ دير الجماجم وخلع عبد الرحمن بن الأشعث ـــــ يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر ـــــ خالد بن عبد الله القسري ويوسف بن عمر ـــــ موت هشام وولاية الوليد ـــــ يحيى بن زيد ـــــ كتاب الضحاك الخارجي).
ويتضح من خلال هذه العناوين أنه كان مُلمّاً بأحداث أهم فترات التاريخ الإسلامي وأخصبها على المستوى السياسي والاجتماعي, وإضافة إلى هذه الكتب فقد ذكرت دائرة المعارف الإسلامية (المترجمة عن الإنكليزية) أن أبا مخنف صنّف (32) رسالة في التاريخ عن حوادث مختلفة وقعت إبان القرن الأول للهجرة.
مقتل الحسين أهم أثر مفقود
إن مما يُدمي القلب حقاً أن هذه الثروة العلمية قد ضاعت واندثرت ولم يبق منها سوى النزر اليسير, وهو ما رواه المؤرخون عنه. ولعل أهم أثر مفقود من هذه الآثار هو كتاب (مقتل الحسين) وهو من أشهر كتبه وعُرف به وقد اعتمده كبار العلماء والمؤرخين ومنهم الطبري وابن الأثير والجزري وغيرهم أما المقتل المنسوب إلى أبي مخنف والمتداول الآن فهو ليس له كما أشار إلى ذلك الكثير من الأعلام منهم الشيخ محمد السماوي في تقديمه لكتاب مقتل الحسين للخوارزمي حيث قال :
(فإن المقاتل القديمة المفصّلة, كمقتل أبي مخنف, لم يبق منها شيء إلا ما نقله الطبري والجزري وأمثالهما, في ضمن كتبهم, فأما أعيانها فلم يبق منها شيء, لأن (مقتل أبي مخنف) لم يوجد منذ خمسة أو ستة قرون, وكذلك أمثاله).
وأيّد هذا القول الدكتور لبيب بيضون في (موسوعة كربلاء) بقوله: (ومن أشهر كتب أبي مخنف (مقتل الحسين) الذي نقل عنه أعظم العلماء المتقدمين واعتمدوا عليه ولكن للأسف أنه فُقد ولا توجد منه نسخة اليوم وأما المقتل الذي بأيدينا والمنسوب إليه فهو ليس له بل ولا لأحد من المؤرخين المعتمدين ومن أراد تصديق ذلك فليقابل بين ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره يجد تبايناً كبيراً).
كما أيّد هذين القولين كل من العلامة أغا بزرك الطهراني في الذريعة بقوله عن المقتل المُتداول الآن: (أن فيه بعض الموضوعات) والقندوزي في ينابيع المودة بقوله عن نفس الكتاب: (ولكنه يختلف اختلافاً بيّناً حتى في الأشعار).
والظاهر أن مقتل أبي مخنف المفقود هو أكبر من المتداول الآن بكثير ويدلنا على ذلك أن أحد المؤلفين وهو حسن الغفاري جمع روايات أبي مخنف التي وردت في تاريخ الطبري فيما يخص مقتل الحسين (عليه السلام) فكوّنت كتاباً سماه (مقتل الحسين المقتبس من الطبري).
مخطوطة أمبرزيانا
وقد ذكر بروكلمان في كتابه (تاريخ الأدب العربي) (ج1 ص253) :(إن مخطوطة كتاب مقتل الحسين المنسوب لأبي مخنف موجودة في أمبرزيانا, وإنها طبعت في بومباي عام 1311هـ).
ولا ندري هل هذه المخطوطة هي المقتل الكبير لأبي مخنف الصحيح أم الصغير المنسوب؟ ولكن من المرجّح أنه المتداول الآن, لأن العلامة السماوي ذكر أن المقتل الكبير المفصّل لم يوجد منذ خمسة أو ستة قرون . لذا فمن المؤكد أن مقتل أبي مخنف هو ليس المتداول الآن, لأن هذا المتداول يحتوي على أحداث تتعارض كلياً مع الروايات التي نقلها الطبري وغيره عن مقتل أبي مخنف.
مخطوطة دمشق
ويبقى مؤلف المقتل المتداول الآن والمنسوب لأبي مخنف مجهولاً، أما متى ألّف هذا المقتل ؟ ومن هو مؤلفه ؟ فليس هناك مصدر يشير إلى ذلك ولا ندري كيف ظهر .., ويشير الدكتور لبيب بيضون إلى هذا المقتل في مقدمة موسوعته (كربلاء) ولكنه لا يبتّ فيه، فهو يتساءل بدوره عن مؤلفه فيقول: (لفت نظري وجود مخطوطة لمقتل الحسين لأبي مخنف في مكتبة الأسد بدمشق برقم (4303) أولها:
(هذا مصرع الحسين وما جرى له ولأهل بيته من قتلهم وسفك دمائهم وسبي حريمهم..) ويتابع الدكتور وصفه لتلك المخطوطة فيقول: (وهذه المخطوطة مصرع كامل قديم لمؤلف مجهول وبدون تاريخ والنسخة مخرومة الأصل ومتهرّئة والكلام فيها على شاكلة القصص ويدخل في مجرى القصة قوله: قال أبو مخنف يقصد لوط بن يحيى الأزدي والمظنون أن هذه القصة منسوبة لأبي مخنف وإذا صح أن جامعها نسبها إليه تبين الوضع فيها من أن لغتها غير لغة عصره ومن بعض أغلاط النحو فيها وزيد في آخرها فصل ليس في الكتاب الأصلي وهو شرح زيارة أبي عبد الله في يوم عاشوراء من قرب أو بعد وتقع المخطوطة في (71) ورقة أصابتها الرطوبة بما لم يؤثر....).
ولا نستطيع هنا أن نضيف شيئاً على كلام الدكتور بيضون أو البتّ في هذا المقتل غير أن الدكتور أوضح أن لغة هذه المخطوطة غير لغة عصر أبي مخنف وفيها بعض أخطاء النحو وهذا كاف للدلالة على أنها ليست لأبي مخنف.
المخطوطة كتبت بعد عصر الطبري
ولا نعرف الغاية التي جعلت مؤلف هذه المخطوطة المجهول لأن ينسبها إلى أبي مخنف, إذ أن هذه النسبة ستحدث تشوّشاً في الرواية والنقل, ولكن الحمد لله أن هذه المخطوطة كتبت بعد نقل الطبري وغيره من المؤرخين عن المقتل الصحيح لأبي مخنف, فحفظوا رواياته المنقولة مباشرة عنه لما لها من أهمية تاريخية بالغة, فقد نقل الطبري كل رواياته التي وردت في تاريخه والمتعلقة بمقتل الحسين (عليه السلام) عن أبي مخنف باستثناء روايتين رواهما عن هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف.
لقد أدرك المؤرخون القيمة الحقيقية لروايات أبي مخنف, كونها كانت (مادة خام) لم تمتزج بها الأهواء, ولم تلوثها السياسة, خاصة وأن الفترة التي أرخها كانت فترة أحداث سياسية صاخبة, كثرت فيها التيارات والانقلابات والثورات ويستشف ذلك من خلال عناوين الكتب التي ألفها أبو مخنف, وهذا ما جعل فلهوزن يقول في كتابه تاريخ الدولة العربية :
(إن الروايات القديمة المتعلقة بعصر بني أمية توجد حتى اليوم على أوثق ما تكون عليه عند الطبري لأنها لم تختلط ولم تتناولها يد التوفيق والتنسيق, والطبري حفظ لنا خصوصاً قطعاً كبيرة جداً من روايات أبي مخنف الراوية المحقق, فحفظ لنا بذلك أقدم وأحسن ما كتبه ناثر عربي نعرفه).
أثر أبي مخنف لا يزال شاخصاً
وكان للمصداقية التي تعامل بها أبو مخنف مع الرواية في النقل أثرها عند المؤرخين الذين جاؤوا بعده, وهذا ما جعل المؤرخين يعتمدون على رواياته بشكل مطلق, حيث نرى الطبري اعتمد عليه بشكل كامل, فكان ما نقله عنه فيما يتعلق بواقعة الطف كأنه مقتل مصغر للذي ألفه أبو مخنف, كما كان لأسلوب أبي مخنف المميز في الطرح والابتعاد عن التعصب الأعمى الذي اعتاد عليه المؤرخون أكبر الأثر على تهافت المؤرخين على الأخذ برواياته.
أبو مخنف إنموذج المؤرخ الأمين
يقول فلهوزن : (وأعظم ما صنع أبو مخنف من حيث تقدير قيمة الروايات, هو أنه جمع طائفة كبيرة من روايات متنوعة ومن أخبار الشيء الواحد مختلفة في مصادرها, بحيث يستطيع الإنسان أن يوازن بينها ويعرف الصحيح المؤكد منها من غيره, وأبو مخنف قد توصل بذلك إلى أن صارت الأشياء الثانوية تتوارى, لأنها لا تظهر إلا مرة واحدة كما صارت الأشياء الأساسية لا تزال تزداد بروزاً لأنها تتكرر في جميع الروايات).
ويتضح من كلام فلهوزن أن أبا مخنف لم يكن مؤرخاً كبيراً, فقط بل كان أديباً كبيراً أيضاً, فالأشياء الأساسية التي تزداد بروزاً هي الثيمة كما تسمى في المصطلح الأدبي, التي تدور عليها أحداث الروايات المختلفة ذات المضمون الواحد, ولو تسنّى لأحد النقاد أن يتناول روايات أبي مخنف على نمط التحليل السردي فسوف يظهر جانب علمي آخر عند أبي مخنف وهو الأدب, حيث لم يسبقه أحد من المؤرخين في تناول الرواية بهذا الشكل الأدبي الرفيع.
المؤرخ الموسوعي
كان أبو مخنف من أخصب الأقلام في الفترة التي عاشها على مدى قرن كامل, كما كانت تلك الفترة من أخصب الفترات أحداثاً وخاصة في العراق الذي يعد منبع الثورات ضد الأمويين والعباسيين, فكان أبو مخنف يتناول كل حركات وسكنات تلك الأحداث والثورات ويدونها ورغم أن هذه الأحداث والثورات المتعاقبة تحتاج إلى جيش من المؤرخين لتدوينها إلا أن أبا مخنف كان حريصاً على أن لا تفوته منها صغيرة ولا كبيرة ورغم ذلك فلم تقتصر رواياته على أحداث العراق فقط, كما جاء في الفهرست لابن النديم حيث قال :
(قرأت بخط أحمد بن الحارث الخزار, قال العلماء: (أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره, والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس, والواقدي بالحجاز والسيرة, وقد اشتركوا كلهم في فتوح الشام).