ملحمة عاشوراء رموز عابرة لحدود الحاضر والمستقبل

د. لطيف القصاب

2025-07-22 05:56

غالبا ما تثير إعادة الحديث عن عاشوراء حفيظة من يرى فيها دعوة لاجترار ماض محزن، وتهييجٍ للضغائن، والأحقاد التاريخية بين أبناء الدين الواحد، مستشهدين على وجاهة ما يذهبون إليه بـ (قصص) منطقية، ورصد لمخالفات ترافق إحياء المناسبة! 

وعلى الرغم من أن بين هؤلاء أشخاصا على قدر من العلم، والبصيرة، والاطلاع لكنهم لأسباب مجهولة أو معروفة يغفلون عن حقيقة أن ما جرى في واقعة الطف لا ينحصر أثره في دين واحد، أو جماعة بعينها، وأن الإنصاف يقتضي التمييز بين ممارسات سلبية تصدر عفوا من بسطاء، وأخرى لا يُستبعد أن تكون مدفوعة بأجندة لا يُسعدها تصوير الواقعة، وتسويقها بطريقة مثلى.  

إن في إعادة التذكير بواقعة الطف سنويا إعادة لوعي الإنسان بالقيم التي تجعل منه إنسانا، وليس من قبيل المبالغة القول إنها تمثل ركنا أساسيا في حائط الصدّ ضد الانهيارات الأخلاقية التي تعصف بالمثل العليا لبني البشر جرّاء جشع، ووحشية أسوأ من فيهم. 

وتكفي قراءة محايدة لتفاصيل الملحمة الكربلائية في أن تمنح الباحث الحرّ انطباعا حاسما في أن الواقعة برمتها تمثّل رمزا شاخصا يُحيل على الفور إلى النفور من الظلم، والغلظة، والغيلة، والغدر مثلما يُحيل إلى تمجيد العدالة، والشجاعة، والثبات على الموقف المشرّف، وحسب ذلك الفعل ترقية لمشاعر الإنسان النبيلة، وتحصينًا للجانب الأخلاقي لديه. 

عاشوراء بهذا المعنى إذن ليست لحظة عابرة ، بل مسار دائم، والحسين عليه السلام ليس مجرد ضحية على مذبح الحرية، والكرامة فحسب بل ضرورة إنسانية وأخلاقية، وإن مكمن القوة في الرمز الكربلائي تحديدا يتجلى في تجاوزه لحدود الزمان والمكان، وقدرته الفائقة على مخاطبة البنية الثابتة في الإنسان، وقوامها الحاجة إلى المعنى انطلاقًا من إثارة الضمير الذي قد يضعف لكنه لا يموت؛ إذ هو مرتبط بروح الإنسان. 

والبعد الرمزي المسؤول عن تغذية واقعة الطف بإكسير الخلود يمثل قانونا أخلاقيا مطلقا، وسنّة كونية تتجسد عيانا كلما فُقد العدل وساد الجور، وكلما فرضت معادلات القوة والقهر على الإنسان أن يقف في مفترق للخضوع أو للكرامة.

وهو الرمز نفسه الذي يتحوّل لا شعوريا في عقل المريد، وقلبه إلى مجسّ شديد الحساسية يلفت انتباه (ضميره) إلى مكامن الظلم، ويدعوه إلى اصطفاف تلقائي مع المظلومين ضد الظالمين، أما إذا انتفى وجود هذا المجسّ بالشكل الذي وصفناه توًا فهو المؤشر المؤكد على استحالة وجود أثر للحسين عليه السلام في دخيلة هذا المتعلق به شكليا.

إن كل مريد حقيقي للحسين عليه السلام لا يملك إلا أن يرى ما يحدث في غزة اليوم -على سبيل المثال- إلا بوصفه ملحمة عاشورائية كبرى تستعيد مفردات الحدث العاشورائي بواقعية مذهلة، لاسيما حين يجري التأمل بطبيعة الحصار المائي، والغذائي الذي يفتك بالناس هناك من غير تفريق بين رجل وامرأة وصغير، وكبير. 

ويتأكد هذا الحال حين نمعن النظر بالاختلال المهول في موازين القوى بين جيش الصهاينة الجرار وبين محاصرين حسينيين، بصرف النظر عن القيد المذهبي بطبيعة الحال؛ لأن هؤلاء المحاصرين البواسل موقنون بأن العدل ممكن ولو بعد حين، وأن الدم إذا حمل لواء الحق سيهزم السيف ولو بعد أجيال، فغزة اليوم هي طف جديد لإيقاظ ضمير العالم النائم، وهي من جهة أخرى تمنح المسلمين عامة فرصة جديدة للانتماء إلى جبهة الحسين انتماء موقف، وهذا هو الأهم من الانتماء بالشكل أو بالاسم. 

ففي كل عصر يُخيّر الإنسان فيه بين الضمير، والمصلحة تحضر كربلاء بوصفها شاهدا على وجوب ترجيح الإنسانية بصيغة قيمية، لا بصيغة طائفية، وللإنسان حينها أن يكون إنسانا حرًّا أو لا يكون! ومن هنا نستطيع الحكم بيقين راسخ أن كل وسيلة إعلام مثلا تغض النظر عن مشاهد الذبح بالرصاص، والجوع الذي ينال الفلسطينيين مشاركة مشاركة فاعلة في قتل الحسين عليه السلام مجددا وإن كانت محسوبة شكليا على خطه، ومعسكره. 

وإن كلّ قادر على مدّ عون للفلسطينيين ماديا أو معنويا، ثم لا يفعل ذلك منتحلا العلل والمعاذير الواهية هو هارب من معركة حسينية، أو هو مساهم في مذبحة حسينية. أمّا هذا الذي يألف مشاهد الذبح، والجوع في غزة من غير أن يتحرك له واعز من ضمير، بل يلتمس العذر للأعداء لا يفرق في كثير أو قليل عن الأعراب الأجلاف الذين حزّوا رأس الحسين عليه السلام، ورضَّوا بحوافر خيولهم جسده الشريف.

ذات صلة

العدالة البيئية وحقوق الأجيال القادمة: نحو رؤية قانونية وأخلاقية مستدامةسياسة الأمن القومي العراقيإيران.. تغيير السلوك هو البديل عن تغيير النظامتقاسم مفضوح للأدوار بين واشنطن وتل أبيب في سورياما هو علم الاجتماع؟