محرم: صدى كربلاء في وجدان الأمة
علي عريبي
2025-07-07 05:01
بكل خشوع وإجلال، نستقبل شهر محرم الحرام، أول شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الأربعة التي حرّمها الله، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ... مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36]. إنه شهر له مكانة عظيمة في وجدان الأمة الإسلامية، ارتبط عبر القرون بقيم التضحية والفداء، واستحضار ذكرى واقعة كربلاء الخالدة، التي تجدد الوعي في القلوب وتبعث في النفوس روح النهضة والتغيير.
في هذا الشهر، تعيش القلوب الحزينة ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام، سبط النبي محمد صلى الله عليه وآله، الذي خرج مناديًا بالإصلاح قائلاً: "إني لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي." وقد ضحى الإمام الحسين بنفسه وأهل بيته وأصحابه في ملحمة كربلاء من أجل إحياء القيم الإسلامية التي انحرفت عن مسارها، مؤكدًا أن الحق لا يُقاس بالكثرة، بل بالصبر والثبات على المبادئ.
وقد عبّر النبي الأكرم ﷺ عن العلاقة الروحية العميقة بينه وبين سبطه حين قال: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا». إن عاشوراء ليست مجرد ذكرى مأساة، بل هي مدرسة للأحرار، نستمد منها أعظم دروس الصبر، والثبات، والتسليم إلى الله. فالإمام زين العابدين عليه السلام، رغم عظم المصاب، ظل رمزًا للعبادة والصبر، والسيدة زينب عليها السلام كانت نموذجًا للبطولة، حين وقفت في مجلس يزيد وقالت: "ما رأيتُ إلا جميلاً"، في أبلغ تعبير عن رضاها بقضاء الله، رغم الفاجعة.
ومع مرور الأيام، تولّى الأئمة من بعد الحسين، كالإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام، مهمة نقل نهضة كربلاء من السيف إلى الفكر، ومن الدم إلى العلم، فأسّسا لنهضة ثقافية خالدة، حفظت مبادئ كربلاء، وجعلتها مشكاةً لكل الثائرين في وجه الظلم والانحراف. ويُستحب في هذا الشهر إظهار الحزن والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "البكاء على الحسين يُكفّر الذنوب العظام".
ذلك لأن إحياء الشعائر هو نوع من تعظيم ما عظّمه الله، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. فمحرم الحرام ليس مجرد بداية عام هجري، بل هو بداية عهد متجدد مع الله، نُعلن فيه ولاءنا للحق، ورفضنا للظلم، وتمسكنا بخط أهل البيت عليهم السلام، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33].
فلنجعل من هذا الشهر المبارك فرصةً للمراجعة والتوبة، وتعزيز الوعي الديني، ونشر قيم العدالة والتضحية والوفاء، مستلهمين من عاشوراء طهارة النفس، وسمو الروح، والتعلق الأصيل بمبادئ الإسلام التي ضحّى من أجلها سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام.