الإعلام الزينبي.. دروس في البناءِ الأخلاقي والاجتماعي
لطيف عبد سالم العكَيلي
2015-11-18 05:57
ليس من الإنصافِ تحديد سيرة العقيلة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) الجهادية، وما رشح عنها من دروسٍ في البناءِ الأخلاقي والاجتماعي بخطبتيِها المدويتين في الكوفةِ أو الشام، وما حملتهما في مضامينِها الغنية بالبلاغةِ وقوة العبارات من موروثاتِ عبقرية أبيها أمير المؤمنين التي غرسها في شخصيتِها تمهيداً للقيامِ بدورِها الإعلامي المنقوع بثوابتِ الشخصية الجهادية المقاومة، الأمر الذي جعل الإمام السجاد (عليه السلام) يصفها بعبارةِ (أنتِ عالمة غير مُعلمة).
إذ أنَّ مسارَ أحداث واقعة الطف الأليمة يؤكد بما لا يقبل الشك دخولها المعركة باستعدادٍ نفسي كامل لتقبلِ مأساوية ما سيجري من جسام الوقائع والأحداث في أعقابِ استشهاد أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، ما يعني بحسبِ الباحثين والمتخصصين أنَّ حياتَها بمثابةِ إعداد وتهيئة لخطورةِ الدور الأكبر، الذي ينتظرها في مراحلِ النهضةِ الحسينية، حيث كانت السيدة زينب (عليها السلام) من دونِ أدنى شك أحد أبرز محاور هذه النهضةِ المباركة، التي تجسدت بتصديِها لمهمةِ قيادة مسيرتها بجدارة، وأدارتها بكفاءةٍ منذ اللحظة التي وقع فيها سيد الشهداء صريعاً على أرضِ الطف.
وليس أدل على ذلك من مواقفِ الشجاعة والإباء التي عكست سمو عقيلة الطالبيين وتعبيرها عن استصغارِها لما تباهى به أعداء الله تبارك وتعالى من قدرةٍ على إجهاض نهضة الإصلاح، إلى جانبِ استنكارها لبشاعةِ فعلتهم حين أذلت من شمُتَ بفجيعةِ بيت النبوة، فضلاً عن تقزيمِها سلطانهم لحظة وقفتها التاريخية يوم عاشوراء بكلِ هيبةٍ ووقار وقد تحول مخيم الحسين إلى ركامٍ يشاطر المواساة لجثثٍ مضرجة كالأضاحي على رمالِ كربلاء لتشق بحشمةٍ وإباء مجللة بالأسى والمصاب صفوف الجيش الأموي حتى وصلت الجسدِ الشريف وجلست عنده غير مدهوشة، ولم تذهلها الرزايا، فقامت بمسحِ ما تجمد من دماءٍ زكية عطرت فضاءات التأريخ الإنساني بأريجها، بالإضافةِ إلى إزالتِها بقايا السيوف وركام الرماح والنبال.
في تلك اللحظة الحاسمة من التأريخ، وفيما كانت أبصارُ جيش الطاغية تنظر إليها بذهولٍ سرعان ما تحول الى سمع، رفعت الحوراء زينب يديها، متجاوزةً مصيبتها التي تميد منها الجبال، وشخصت ببصرِها إلى السماءِ قبل نطقها بحماسةِ الإيمان وحرارة العقيدة قائلة: (اللهم تقبل منا هذا القربان، ففي سبيلِ دينك ضحى بنفسه، وأهل بيته وأصحابه).
لا مغالاة في القولِ إنَّ سيرةَ العقيلة زينب (عليها السلام)، إلى جانبِ دورها الريادي في مهمةِ إثارة محركات وعي المجتمعات الإنسانية حول ضرورة استلهام دروس عاشوراء في مواجهةِ الظلم والظلاميين، سعياً في الوصولِ إلى بوابةِ الحرية، لا يمكن النظر إليها بمعزلٍ عن فهمِ النهضةِ الحسينية، وإدراك أهدافها الرامية إلى الإصلاحِ وإزالة جميع مظاهر الرذيلة، التي عصفت بالأمةِ الإسلامية، بوصفها مشروعاً إنسانياً رسالياً وجهادياً وشح تأريخ البشرية بأبهى صور الإباء والكبرياء والبطولة والتضحية والشرف وعزة الإيمان، فضلاً عن جميعِ القيم السامية، التي عبرت عنها عملياً المآثر الخالدة لسيرةِ الإمام الحسين (عليه السلام) في جميعِ مراحل نهضته التي تعد ظاهرةً إنسانية حضارية كونية متفردة، لأجلِ معالجة مسارات انحراف الأمة وإحياء وجودها، وتصحيح أوضاعها الراهنة، وإعادة موجبات حياتها الكريمة بعد أن تأكد لأبي الأحرار ذبول ألق الأمة، وفقدانها أغلب مقومات الرسالة الإسلامية.
لا جدال في أنَّ (الإعلام الزينبي)، الذي أقض بشدةِ بأسه مضاجع الظالمين، وساهم بإسقاط أعتى عروش الطغاة، كان في واقعه الموضوعي ثورة ثقافية منظمة، أعلنتها عقيلة الطالبيين على مكامنِ الظلم وأقبية الظلام، منذ أنْ شَهدتْ جسد أبي عبدالله مسجى من دونِ رأس على رمضاءِ كربلاء. إذ قدر لهذه اللحظةِ التاريخية، التي عاشتها العقيلة زينب وهي تتمرد بكبريائها على الزمان، أنْ تكونَ امتداداً حقيقياً لسجايا أبي الأحرار في استحالةِ الخنوع للظلمِ والظالمين، متصدية لمسؤوليتِها في إبعادِ الأذى عن سبايا آل بيت النبوة، وغير متناسيةً لمهمتها التي أعدها لها أبوها أمير الإنسانية في ترسيخِ المبادئ ونبل القيم التي استشهد من أجلها سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الأمر الذي جعل هذه اللحظةِ من تأريخِ البشرية تشكل انعطافاً كبيراً في الضميرِ الإنساني، الذي ما يزال يئن تحت وطء اختناق نكسته المخجلة، فكانت هذه اللحظةِ البداية العملية لممارسةِ دورها بالدفاعِ عن ثورةِ أخيها الحسين التي تنحى صوب إعادة الاُمة إلى وعيِها الإسلامي وقيمها الرسالية.
يمكن القول إنَّ مهمةَ العقيلة زينب في قيادةِ المسيرة الحسينية والمحافظةِ على جذوةِ ثورة الإصلاح متقدة في قلوبِ الناس تجسدت بحملها وديعة رسالة الثورة، التي استشهد من أجلها أخوها إمام السلام عبر (الإعلام الزينبي)، الذي كان له الأثر الفاعل في توعيةِ المجتمع الإنساني بمبادئ النهضة الحسينية المباركة، التي فتحت آفاقا واسعة لإنارةِ دروب الثائرين الساعين في كلِ زمانٍ إلى الخلاصِ من ربقةِ أنظمة الاستلاب وزعامات الإذلال والامتهان.
بصبرِها وكبريائها وملكاتها القيادية المتأتية من إيمانِها المطلق بسموِ غاية ثورة إمام عصرها، اطلقت العقيلة زينب شرارة الثورة على الحكمِ الاموي بعد مصرع أخيها، انعكاساً لمهمتها في إكمالِ الدور الجهادي بميدانِ المواجهة الدامي، ليمتد وهجها عبر الأيام، فتناقلها الأجيال وتحييها مختلف الامم، مجهضةً ما خطط له الطغاة من مساعٍ خبيثة بقصدِ إنهاء عصر النهضة الحسينية، حيث جهدت فخر المخدرات لأجلِ عدم ذبول وهجها، فكان أنْ أصبحت النهضة الحسينية بالاستنادِ إلى متابعةِ مساراتها وتلمس حضورها المادي على مرِ العصور رمزاً للخلاصِ والتحرر والانعتاق، بوصفها من أشهر الثورات الإصلاحية التي حدثت في تأريخ الإنسانية.
إنَّ حملَ عقيلة الطالبيين لودائعٍ النهضة الحسينية المرتكز على أساسٍ من الوعي العميق بحتميةِ النصر، ألزمها امتطاء صهوة الجهاد لأجلِ مواجهة الظلم والجور والطغيان والعمل على إزالةِ أفكارِ الظالمين والتصدي لممارساتهم، التي أضرت بالإسلامِ المحمدي، فكان لثورتِها الإعلامية مخرجات فكرية وتربوية افضت إلى المساهمةِ في بلورةِ رأي عام رافض للظلمِ والأفكار المنحرفة على امتدادِ التأريخ. حيث كان (الإعلام الزينبي) بجميعِ مراحله أشد وقعاً على أعداءِ الله تبارك وتعالى والإنسانية من ضربِ السيوف وطعن الرماح، وليس أدل على ذلك من إيمانِها بالجمالِ الروحي، الذي أخزت به طاغية دار الامارة وجعلت الناس حيارى يندبون حظهم العاثر حين بادرها منتشياً بنصرٍ موهوم بسؤالٍ يمثل أحط أنماط التشفي قائلاً (كيف رأيت صنع الله بأخيك؟). إذ ألقمته حجراً بكلماتِ نصرٍ قائلة بما آتاها الله من العلم: (ما رأيت إلاّ جميلا، هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجِعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فأنظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة).
ولما انتهت إلى الشام هزت العرش الاموي بخطابِها المثير الرائع، وحققت بذلك من النصرِ ما لم تحققه الجيوش. وهو الأمر الذي يفرض علينا النظر إلى هذه الثورة، والتعامل مع مجرياتِها ومناقبها وانعكاساتها في بثِ الإصلاح الاجتماعي بهذه الصورةِ البهية المشرقة، التي سجل التأريخ مواقفها الثورية بروعةٍ واكبار، فلا عجب أنْ تكون نهضتها امتداداً لألقِ النهضةِ المباركة، التي حمل رايتها سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام)، وتجسيداً رائعاً لقيمها الراقية وأهدافها السامية.