سلاحنا البكاء..
رقية تاج
2015-10-31 11:45
لولا الدموع لماتت قلوبنا حزنا وهمّا مما يعصف بنا من نوائب الدهر ولاسيما اننا نعيش في اوطان اشبعتنا قهرا، فالبكاء أسلوب ناجع لرفع الضيق اذ تستجيب العين للمشاعر الانسانية بدموع منهمرة، فتغسل الآلام القابعة في النفس، بيد انها لا تشفي الجراح بل تسّكنها، وفي بعض الحالات تفتح للروح آفاقا عديدة للرقيّ والتغيير فضلا عن الأجر والثواب الحاصل في بعض المواضع.
وللدموع في ذكرى عاشوراء شأنا آخر.. فهي تُذرف على ريحانة رسول الله وسيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام) ونحن نشارك الانبياء والملائكة وحتى السماوات والأرض بهذا النشيج المقدس، وعلى الرغم من مرور عقود متطاولة على فاجعة الطف إلا ان مآقينا لم تنضب بل تجهش بالبكاء في مجالس تعقد لتعظيم شعائر الله حتى بات العالم يسمينا بـ (البكائين).
فما هو سر وقيمة هذا البكاء؟! ولماذا يقدّسه الشيعة ويسلكون كل السبل لاستدرار الدموع من الناس في كل مناسبة؟؟
فلسفة البكاء على سيد الشهداء
ان البكاء صفة انسانية ولغة تعبر عن احساس مرهف ومشاعر رقيقة لا يعرفها اصحاب القلوب القاسية، ويعد البكاء من اعظم مظاهر العاطفة الشخصية وفي ذلك يقول روجر دبرة - الامريكي الجنوبي الثائر مجيبا احد المراسلين (الانسان العاجز عن البكاء لابد ان يكون فقد انسانيته.. ان البكاء من خصائص الروح الادمية).
وعليه فان البكاء حالة طبيعية، فأي شخص يتأثر وينفعل بارتكاب اي ظلم وجور بحق انسان عادي، فكيف لا نبكي على ابن بنت رسول الله وسيد شباب اهل الجنة بعد ان ذُبح من الوريد الى الوريد، وحتى السماء لم تبك على احد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين عليه السلام.
وان سر بقاء الحسين يكمن في جانبين: الجانب العقلي لثورته والجانب العاطفي لتضحيته، وهما بعدان مرتبطان ببعضهما ساهما في تخليد نهضة الحسين (ع). وان الله قد اعطى الحسين مكانة عظيمة لم ينالها احد قبله وقد كان استثنائيا في كل شيء من ولادته الى استشهاده، وفي فضل زيارته وصولا الى فضل البكاء عليه.
وحتى الذين قتلوا الحسين قد بكوا عليه كعمر بن سعد ويزيد بن معاوية ولكن (السهم قد نفذ)، وهنا المفارقة بين بكائين.. فدموعهم لم يكن لها أي معنى، وهو مجرد بكاء فيزيولوجي ودوافع البكاء اختلفت هنا.. فالحسين قد نصحهم وما انتصحوا والباطل قد استفحل في كل جزء منهم (بل ران على قلوبهم)، وقد عبرت عنه السيدة زينب خير تعبير في خطابها الى الناس حيث قالت: (أتبكون؟ اي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا.. فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا).
سنّة لا بدعة!
وقد أشاع البعض وعلى رأسهم النظام الاموي واحفادهم النواصب ان البكاء على الميت بدعة، وهم بذلك يرومون الوصول لقضية الحسين فهم يرتعدون لمجرد ذكر اسم هذا الثائر الذي يقض مضاجعهم، وقد تحدثت الروايات وتناقلت الأحاديث بوفرة عن بكاء رسول الله (ص) على أمّه وحمزة وجعفر وولده ابراهيم، وقد قال في رثائه: ان العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول الا مايرضي ربنا وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون.
اضف الى ذلك كله بكاء رسول الله على الحسين وهو موضع الشاهد هنا فكان (ص) أول من علم بـ شهادة الامام: (ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
وقبل ذلك قد اشار القرآن الكريم الى بكاء النبي يعقوب على ابنه يوسف الى حد العمى ولم يستنكر ذلك (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) وقبله بكى آدم لمائتين عام، وكان يعلم يعقوب بأن ابنه حي، فكيف باستشهاد الحسين وحز رأسه ورض جسده الشريف بحوافر الخيل.. ألا يستدعي كل ذلك البكاء والنحيل؟!
وعن الصادق (ع) قال: إن ابا عبد الله الحسين (ع) لمّا قضي بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهنّ وما بينهنّ ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا وما يرى وما لا يرى بكى على ابي عبد الله.
دموع فيها شفاء ومثوبة..
قد يسأل البعض ما فائدة هذا البكاء وهل سيغير من الواقع شيئا؟ مستشهدين بقول الشاعر:
قل لقوم يستنزفون المآقي.......هل شفيتم مع البكاء غليلا؟
نعم يعتبر البكاء بشكل عام أفضل وسيلة للتنفيس عن الضغط النفسي والقلق والغضب والتوتر والحزن وكل الشحنات السلبية، فقد أشار العلماء الى ان الدموع تساعد على ازالة المواد الضارة من الجسم التي يفرزها عندما يكون في حالة سيئة لذلك ينصح بعدم حبس الدموع.
ولدى دراسة التركيب الكيميائي للدموع التي انهمرت في مناسبات عاطفية ووجدانية وجد انها تحتوي على كميات كبيرة من هرمونات البرولاكين والاش المتواجدين في الدم وعبر الدمع يتم تخليص الجسم من التركيز العالي لهما، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن للبكاء أجر من باب (لكل كبد حرى أجر) كما يذكر أمير المؤمنين(ع)، وان تكن لله ولأهل البيت بشكل عام والحسين بشكل خاص فلها من الاجر اضعافا مضاعفة والامام الرضا (ع) يقول: فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام.
كلمة لأرباب المنبر الحسيني..
في الحقيقة ان لمجالس الحسين فوائد جمة فهي تعبئ وتحرك الامّة لصالح الحق وهي تستعين بالدموع في ذلك والبكاء مواساة لرسول الله واهل بيته ولو ان قطرة سقطت في جهنم لأطفأت حرّها كما يقول الامام الصادق(ع)، وان خانت الدمعة البعض وكانت عصيّة على النزول فللتباكي ايضا ثواب عظيم (وان لم تجدوا بكاءا فتباكوا.. تكلفوا البكاء) كما جاء في الحديث الشريف.
فإن الاثار الظاهرية للمشاعر غالبا ما تؤثر على الحالة الداخلية للإنسان، وهنا يأتي دور الخطيب الحسيني في العناية باختيار المراثي التي تستدر الدموع، ويا حبذا لو امتلك صوتا رخيما يدخل الى قلوب الناس بسلاسة. وكذلك للمسرحيات والمشاهد التمثيلية دور كبير ايضا.
ويشيع البعض متوهما ان الحسين لا يريد منا بكاءا بل يريد تطبيق المبادئ والقيم التي استشهد من أجلها، وهذا صحيح هو لا يحتاجها بل نحن من يستفيد منها، فهو قد غادر هذه الدنيا الدنيّة وهو الان في أعلى عليين وهو يرغب في حمل أفكاره والاقتداء بسلوكياته من باب أولى، ولكن في الوقت نفسه يجب ان نعلم ان الدموع في مواضع كثيرة تنتشل الانسان من القاع، وهي تتمخض عن تغيير يصيب القلب بعد انكساره، والدليل على ذلك قصص عشناها وسمعناها عن نماذج كثيرة لمنحرفين بعيدين كل البعد عن الدين وغارقين في بحر الفجور والهوى ولم تفلح الكتب والمحاضرات والحوارات بتغييرهم، لكن تمكنت دموع غزيرة وحرقة في القلب بعد سماعهم بفجيعة الطف بأسلوب رقيق من تصحيح سلوكياتهم.
لذلك وبهدف تطوير المجتمع ونشر أفكار وقيم أهل البيت علينا ان لا نرفض ونستهزئ من الاشخاص غير الملتزمين دينيا بل احتوائهم ودعوتهم الى المجالس والاحتفاء بهم، وعدم فقد الأمل منهم ولاسيما شريحة الشباب فربّ دمعة أشعلت شمعة في القلوب المظلمة. وما أجمل ان نكون ممن دعا لهم الامام الصادق (ع).
اللهم ارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي حزنت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.