قبول النصيحة والمستحيل الاجتماعي
زيارة الأربعين ونصرة الامام الحسين (ع) (9)
مرتضى معاش
2024-08-28 04:43
(وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك)
في المقال السابق سلطنا الضوء على جملة (ومنح النصيحة) الواردة في زيارة الأربعين للإمام الحسين (عليه السلام)، وأشرنا إلى معنى النصيحة في اللغة والروايات الشريفة، والسؤال كيف يمكن أن تتحقق النصيحة على أرض الواقع والحال أننا نرى أن البعض لا يقبل النصيحة؟
عندما يأتي الزائر الكريم إلى كربلاء المقدسة، فإنه أولا يحصل على الثواب العظيم، وازدياد نفحات الإيمان في قلبه ونفسه، فالزيارة هي حالة تطهير للزائر من ذنوبه ومعاصيه وبناء للذات، وتزكية لاستكمال وترقي الفضائل في داخله، ولكي تكتمل هذه الهدية العظيمة التي ينالها الزائر، لابد أن يأخذ كلمة أو فكرة ويجعلها برنامجا في ذهنه لكي يعمل بها، فيحدث التطور في حياته العملية بالإضافة إلى حياته الصحية والنفسية والإيمانية، حتى يحصل التقدم في حياته.
فإن المراد من (ومنح النصيحة) نشر النصيحة في هذه الأمة، التي تعني تغيير الإنسان، فالهدف من زيارة الزائر هو السعي للتغيير الإيجابي والتقدمي في حياته، عن طريق البرمجة الفكرية والذهنية التي تحصل عبر نصيحة معينة، فيعود من الزيارة وهو ممتلئ بالكنوز الثمينة، والكبيرة التي يستثمرها في حياته، في هذا العام وفي الأعوام المقبلة.
النصيحة في مواجهة الازمات
ولكن لايمكن للنصيحة ان تتحقق الا بوجود عنصر هام جدا وهو قبول النصيحة، فهناك البعض لا يستمع للنصيحة أصلا، بل يعتبر المنصوح عندما تنصحه بأن هذه النصيحة إهانة له وتحط من قدره، فلا يقبل النقد ولا يقبل النصيحة، ولا يقبل أي نوع من التوجيه، بعض الناس تراهُ على خجل يستمع إليك، لكنه في قرارة قلبه، تجده لا يقبل النصيحة ولا يستمع لها.
وأكثر الناس هكذا لا يقبلون النصيحة، ولذلك تجد حياتهم ممتلئة بالمشاكل، ولو أنهم قبلوا بالنصيحة، كان يمكن ان تحَلّ مشاكهم، وبالتالي أن يصلوا إلى مراتب جيدة في الحياة، والروايات الشريفة تؤكد على اهمية طاعة الناصح.
فعليك أن تستمع للناصح ثم تطيعه إن كانت النصيحة جيدة، ولا تقل له كلا، ومع ذلك هناك ناس لا تقبل أي شيء، ولو كان على الأقل الاستماع الحقيقي الى النصيحة بتواضع، وعن الإمام علي (عليه السلام) في كلام له: (لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبون الناصحين)(1)، فالمجتمع الذي لا تصبح النصيحة فيه سلوكا رائجا يختفي فيه الخير ويمتلأ بالمنافقين المتلوّنين، حيث يروج الكذب والتصنع بدل النصيحة.
وكذللك يصبح هذا المجتمع ممتلئا بالمشاكل، والمشاكل الزوجية أمامنا مثلا حيث كلا الطرفين لا يقبلان بالنصيحة، ولا أن ينصحهم ناصح يدلّهم على أخطائهم ويخفف من غلوائهم، لكن تأخذهم العزة بالإثم ويتحكم بهم جبروت الشيطان ويزدادون صلابة وتحجرا في مواقفهم، لذا ترى أن هؤلاء النوع من الناس لا خير فيهم، وتجدهم غارقين دائما في مختلف الأزمات والمشاكل، بعيدا عن الهدوء والسلام، بل تتموج بهم الصراعات والخلافات من هنا وهناك.
الاهواء عدو النصيحة
إن عدم إطاعة الناصح تكشف عن نفس الإنسان وأهواءه، فهذه النفس عجيب غريب أمرها عندما لا يطهّرها الانسان ولايزكيها، فتصبح مزاجية، تتبع الأهواء وتمتلئ بالرذائل، فالهوى هو الذي يوقع بالإنسان، لذلك هو عكس النصيحة، فالنصيحة تأتي من العقل، والهوى يأتي من النفس المريضة.
وجاء في زيارة الأربعين المخصوصة هذه العبارة: (وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ)، وهي تعبير عن الآية القرآنية: (فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) طه 16. وكذلك دلالة على التغطرس الذي يعيش فيه المغرورون بالدنيا وقد اصبحوا في ادنى درجات التسافل والانحطاط عندما لم يستمعوا الى النصيحة.
وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (من ملكه الهوى لم يقبل من نصوح نصحا)(2)، فهو لا يقبل النصح، لأن هوى نفسه تسيطر عليه، وكما يُقال في علم النفس لديه نرجسية، فيتعلق بنفسه ويحبها حبا اعمى، لذلك فإن أغلب الناس الذين يقعون في المشكلات والضلال والانحراف، لأنهم لا يستمعون، ولو استمعوا ولم يغلقوا آذانهم ولا قلوبهم لأصبحوا في الطريق الصحيح.
وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (طوبى لمن أطاع ناصحا يهديه، وتجنب غاويا يرديه)(3)، فلأنه لم يستمع لنصيحة ذلك الناصح، فإنه سوف يقع حبال الغاوي الذي يغويه ويسقطه في الضلال والأزمات والمشكلات.
وأغلب الناس يعتبرون أنك إذا تكلمت معهم عن الدين، فإنك تمارس عملية الموعظة لهم، وبعض الناس لا يقبل تتكلم له عن الأحكام الشرعية، أو القضايا الدينية، فهو يجادلك ولا يقبل النصيحة في الدين، ولا يقتنع ولا يستمع، وأيضا لا يطيع حين تنصحه ببعض الأمور الأخلاقية والدينية.
وعن الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: (عليك بطاعة من يأمرك بالدين فإنه يهديك وينجيك)(4)، ففي الهداية النجاة، وكثيرا ما أفكر في هذه القضية، لماذا بعض الناس يرون أو يعتقدون بأن الدين يقف عائقا أمامهم، لماذا يعتبر الدين والالتزام بالأحكام الشرعية شيئا ثقيلا عليه؟
الالتزام ببعض الاحكام الشرعية، ورفض البعض الآخر، هذا غير صحيح، وهذا يعني بأن الإنسان قد وقع في الضلالة، إنه سقوط حتمي، لأن الأحكام الشرعية واحدة ولا يمكن أن تُجزَّأ، لذلك فإن الإنسان الذي يتعظ ويقبل نصيحة الناصح في الدين يكسب النجاة في حياته ويتجنب الوقوع في الانحراف.
السعادة الظاهرية والتعاسة الداخلية
أما هؤلاء الذين لا ينجون، عندما يعتقدون أن السعادة تُشترى بالمال، لكن السعادة قضية معنوية وليست مادية، لهذا لا يمكن شراءها ماديا، فهؤلاء الذين يسقطون في غمرة فلسفة المال، فهم الذين غالبا لا يقبلون النصيحة في الدين، فالأموال الموجودة لديه تجعله في حالة من المتعة العمياء، لذلك فإن أولئك الذين يهتمون بالأموال كثيرا قد يظهرون للناس بأنهم سعداء، لكن التعاسة تملأ دواخلهم، والمشاكل قد اغرقتهم في بحور البؤس.
(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة2/3.
المال مكمّل للحياة وليس هو الهدف الأساس فيها، لذلك فإن الإنسان الذي يسقط في هذا الجانب هو الذي لا يقتنع ولا يقبل النصيحة من الناصح، لهذا حتى لو كانت عندهم أموال كثيرة سوف تجد أن مشاكلهم كثيرة، لدى أولادهم وفي عائلاتهم، تقول الآية الكريمة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) طه 124. فالإعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى يخلق الحياة التعيسة.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (من علامات الإدبار سوء الظن بالنصيح)(5)، فالإدبار ويقابله الإقبال، والإقبال يعني التقدم والنجاة، بمعنى أقبلت عليه الحياة، أما الإدبار فيعني تخلّت عنه الحياة، بمعنى الفشل والسقوط، فهذا الذي يتخلى عن طاعة الناصح، فإن نتيجته الادبار والتخلف والسقوط.
الندم وكآبة الماضي
وهؤلاء الذين يقعون في الادبار نتيجة تخلفهم عن الناصح، دائما يعيشون الحسرة والندم، ودائما يفكر في الماضي ولماذا لم أفعل هكذا ولماذا فاتني أن أعمل الشيء الفلاني، لذلك دائما تجد عنده غمّ وكآبة من الماضي، فلا يستطيع أن يصلح نفسه، لأنه يمارس نفس الخطأ، أي يكرر أخطاءه، ودائما يحدث هذا معه في كل سنة، وينغمس في الأباطيل لأنه لا يقبل النصيحة ولا يطيع الناصح.
لذلك هناك أناس لا يستمعون إلى النصيحة، فيخسرون الكثير، على العكس من الذين يسمعون الناصح ويقبلون النصيحة ويستفيدون منها في حياتهم، أما من لا يقبل النصيحة فتجده كئيب كسول لا يمتلك حماسة الاستماع للنصيحة وتصحيح الخطأ.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ)(6)، فالعالِم عندما يقدم لك موعظة، ونصيحة فهي علم ووعي وتجربة، وأنت عصيته، ولم تستمع لنصيحته فقط، وإنما خالفته، مع انه لديه علم فيما نقله إليك، لذلك من التعقل أن يكون الإنسان واعيا ومتأنيا في طاعة الناصح.
طاعة الناصح اصعب الصعوبات
علما بأن طاعة الناصح أمر صعب جدا، فابحث بين الناس وحاول أن تعثر على من يقبل النصيحة، حيث يحتاج إلى أن يكون الإنسان مروضا لنفسه، ومسيطرا عليها، وموجّها لها، حتى يصل إلى مرحلة معينة من القدرة الذاتية في السيطرة على النفس، وهذا كله يحتاج من الإنسان إلى بناء، ولا يتم بين ليلة وضحاها، لذا على الإنسان أن يزكّي نفسه وينمّي فكره وبالنتيجة يصل إلى مرحلة قبول النصيحة وطاعة الناصح.
وعلى كل زائر وحسب قابليته وقدرته أن يضع برنامجا في حياته حول هذه القضية، وأن يكون مطيعا للناصحين، قابلا للنصيحة، حتى يستطيع أن يتطور في حياته، ويستطيع السير على نهج الإمام الحسين (عليه السلام).
المداومة على الخير لقمع الشر
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: (فتشعب من العقل الحلم، ومن الحلم العلم، ومن العلم الرشد، ومن الرشد العفاف ومن العفاف الصيانة، ومن الصيانة الحياء، ومن الحياء الرزانة، ومن الرزانة المداومة على الخير، ومن المداومة على الخير كراهية الشر، ومن كراهية الشر طاعة الناصح)(7).
بملاحظة التسلسل الموجود في هذه الرواية، فإن الإنسان لا يمكنه أن يطيع الناصح إلا عندما يترك الشر، ولا يكره الشر إذا لم تكن لديه مداومة على الخير، فإذا لم يكن مداوما على الخير وقع في الشر، لهذا فإنه بالخير يردع قدوم الشر إليه، وبالمداومة على الخير يسد جميع المنافذ أمام دخول الشر، ويدفعه عن القدوم إليه.
وقبل هذه المرتبة هناك الرزانة، وقبلها الحياء، وقبل الحياء الصيانة، أي صيانة النفس، التي تحصل بالعفاف، عن الدنيا وعدم التعلق بأشيائها، وقبل مرحلة العفاف يحتاج إلى الرشد، الذي يحصل بالعلم، ولن يحصل على العلم الا بحلم يردعه عن الشهوة الغضبية، فالغضب دائما يذل الإنسان، ويأخذه إلى حالة من الاضطراب الداخلي، فالحلم يردعه عن التسافل الى الجهل، فكم يحتاج الإنسان الى ان يعمل ويعبر خطوات ويطوي مراتب حتى يصل إلى طاعة الناصح.
وكما أن (أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه)، كذلك فإن طاعة الناصح تعد من المراتب الكبيرة للإنسان. لذا لابد أن يعمل الإنسان على نفسه، حتى يصل إلى هذه المراتب.
في الرواية نفسها يستمر رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله:
(وأما طاعة الناصح فيتشعب منها الزيادة في العقل، وكمال اللب، ومحمدة العواقب، والنجاة من اللوم، والقبول، والمودة، والاسراج، والانصاف، والتقدم في الأمور، والقوة على طاعة الله، فطوبى لمن سلم من مصارع الهوى).
فالذي يطيع الناصح من خلال العمل بتلك المقدمات سوف يصل إلى نتائج أساسية وهي الانتصار والفوز في الحياة بالعواقب السليمة، والنجاة من المشكلات والأزمات، فطاعة الناصح واسطة في الفوز والنمو والارتقاء، وعدمها هو السقوط.
كن لينا ولاتتخذ موقفا متشنجا
ذكر في رسالة الحقوق حقوق كثيرة، ومنها قضية الناصح والنصيحة، حيث يجب على كل من يمتلك المقومات اللازمة للنصيحة، أن يقدم النصيحة للآخرين، وعلى الإنسان إذا سمع النصيحة أن يطيعها، فهذه حقوق لابد من تأديتها والالتزام بها، وهي حقوق حقيقية تدل على المسؤولية والالتزام، وقد يعبر عنها بالواجبات.
فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام):
(وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب حمدت الله عز وجل، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتهمه وعلمت أنه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلا أن يكون مستحقا للتهمة فلا تعبأ بشيء من أمره على حال)(8)، فماذا يعني هذا؟
يعني أولا يجب أن لا تأخذ حياله موقفا، يوجد بعض الناس بمجرد أن تتكلم معه يتخذ منك موقفا ويصاب بالتشنج، ويتخذ موقفا سلبيا ويغلق كل نوافذ الحوار، يقفل عقله، ولكن عليك أن تلين له جناحك، والجناح هنا هو تعبير عن القوة والشدة عند الإنسان.
فكما يطير الطير بجناحه، فهذا يمنح الطير قدرة وطاقة فيطير الطير بجناحيه، كذلك الإنسان توجد عنده قدرة وقوة تعبر عن الشدة، سواء كان حاكما أو مسؤولا أو طبيبا، أو يمتلك سلطة معينة، والناس يخافون منه، فلا يقبل النصيحة من الصغير عمرا أو منصبا.
لذا عليك أن تليّن جناحك، وتستمع للنصيحة حتى لو كان من يقدمها لك أقل مرتبة منك، في السلطة أو بالعلم، المهم عليك أن تسمع النصيحة، فيمكن أن تكون هذه نصيحة مفيدة لك جدا، فلماذا تقفل قلبك أمام الخير حين يأتيك؟
عليك أن تلين جناحك، وتركز في سمعك، وتكون جادا في ذلك وليس اعتباطا، لابد أنك تلاحظ بعض الناس، أحدهم يتكلم معك ويتكلم ويواصل توجيه كلامه لك، لكن عندما يحين دورك في توجيه الكلام له، يتشاغل بشيء آخر مثل الموبايل أو أي شيء آخر، يعني هو لا يستمع لك، المهم بالنسبة له قال كلمته لك.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): (فاصغي إليه سمعك)، بمعنى ليس السمع فقط وإنما تصغي له، بمعنى الإصغاء والتركيز أكثر، فبعضهم قد يستمع لربع الكلام، وهذه مشكلة حقا.
وأخيرا فإن هذه الرواية الشريفة، في غاية الأهمية وتناولها والبحث فيها يحتاج إلى مجال أوسع، وهذا ما سنقوم به في مقالنا القادم...