زيارة الإمام الحسين (ع) بين الاستحباب والوجوب
د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي
2024-08-11 05:17
بعد مقتلة كربلاء الخالدة التي هزت النفوس وشغلت الناس على مدى العصور، والتي أقرحت الجفون وأسبلت العيون ولم ترقأ لذكرها دموع أهل البيت (عليهم السلام)، فصار خبرها إرثا يتوارثه معادن الرسالة ومختلف الملائكة ليرسموا بدموعهم ما حصل على جدهم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، ولذلك دأب أئمةُ أهل البيت (عليهم السلام) على ذكر واقعة الطف في كل يوم وفي كل موطن وموقف، وكل حديث ودرس، فجاء الحثُّ والحضُّ والتأكيد على زيارة قبر الامام الحسين (عليه السلام) من جميع الأئمة الميامين الذين أمِروا بحفظ الدين والمذهب، فمنهم من حثَّ على الزيارة ببيان الفضل والأجر، ومنهم من حضّ على الزيارة بطريقة الأمر الإرشادي المؤكد، ومنهم من جعلها من الفرائض، فينقسم البحث على:
1ـ الأمر الإستحبابي لزيارة الحسين (عليه السلام):
لزيارة الحسين (عليه السلام) فضل يرقى إلى مرتبة فضل العبادة، فقد ورد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ النَّخَعِيِّ عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: ((سَأَلَنِي فَقَالَ لِي يَا شِهَابُ كَمْ حَجَجْتَ مِنْ حِجَّةٍ قَالَ فَقُلْتُ تِسْعَةَ عَشَرَ قَالَ فَقَالَ لِي تُتِمُّهَا عِشْرِينَ حِجَّةً يَكْتُبُ اللَّهُ لَكَ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ عليه السلام))(1)، والحجّ فرض واجب من فروض الله تعالى على عباده، وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى فضل زيارة الحسين (عليه السلام) بهذا الحديث ؛ أنَّها تعدل عشرين حجَّة.
ومن طريق آخر أشار الصادق (عليه السلام) إلى أحد أصحابه بأكثر من ذلك، إذ ورد عن ((مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَاجِيلَوَيْهِ عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع كَمْ حَجَجْتَ فَقُلْتُ تِسْعَةَ عَشَرَ قَالَ فَقَالَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَتْمَمْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حِجَّةً لَكُنْتَ كَمَنْ زَارَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ))(2)، بل أكثر من ذلك عن: ((سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ صَالِحٍ النِّيلِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -عليه السلام- مَنْ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ -عليه السلام- عَارِفاً بِحَقِّهِ كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حِجَّةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله-))(3)، وهذا الفضل والحثُّ الشديد عليه من الإمام الصادق (عليه السلام) يصل إلى حد الوجوب.
ويبدو إنَّ سبب هذا الحث الشديد من إمام معصوم على زيارة الإمام الحسين لتجذر النهضة الحسينية في النفوس، وليستقي الناس من الحسين كل مبادئ الإنسانية والإصلاح وعدم الركون للحاكم الظالم ومواجهة الباطل بأقل ناصر من الحق، إذ إنَّ الوقوف على قبره يُشعر الإنسان بكرامته وعنفوان الحق وانتصار المبدأ الرصين، حتى لا يتسلط الظالمون على رقاب الناس بالباطل، وهو تجسيد لقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }{هود/113}.
2ـ الأمر الوجوبي لزيارة الحسين (عليه السلام):
وردت في الاخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الأمر بوجوب زيارة الحسين (عليه السلام) ولو في العمر مرَّة واحدة، وليس هذا فحسب، بل جاء في الروايات الأمر بأمر الشيعة كلهم بزيارة الحسين ولو كلَّف ذلك الدَّم، فمن الأخبار التي نصَّت على الأمر الوجوبي ما ورد عن باقر الأئمة أبي جعفر محمد بن علي (عليهم السلام) قوله لزرارة بن أعين: ((يَا زُرَارَةُ! مَا فِي الْأَرْضِ مُؤْمِنَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُسْعِدَ فَاطِمَةَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَا- فِي زِيَارَةِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ! إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَلَسَ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَ جَمَعَ اللَّهُ زُوَّارَهُ وَ شِيعَتَهُ لِيَصِيرُوا مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُ صِفَتَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَيَأْتِيهِمْ رُسُلُ أَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا رُسُلُ أَزْوَاجِكُمْ إِلَيْكُمْ يَقُلْنَ: إِنَّا قَدِ اشْتَقْنَاكُمْ وَ أَبْطَأْتُمْ عَنَّا، فيَحْمِلُهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ السُّرُورِ وَ الْكَرَامَةِ إِلَى أَنْ يَقُولُوا لِرُسُلِهِمْ: سَوْفَ نَجِيئُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّه))(4)، فقد وجبت زيارة الحسين على الناس ومن لم يستطع ؛ ففي العمر مرة ؛ ومن لم يستطع ؛ فيكفيه أن يزره من بعيد بالزيارة المخصوصة حيث: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وكذلك ما جاء عن صادق العترة: ((عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُمَرَ عَنْ حَسَّانَ [غَسَّانَ] الْبَصْرِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -عليه السلام- قَالَ: قَالَ لِي يَا مُعَاوِيَةُ لَا تَدَعْ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ -عليه السلام- لِخَوْفٍ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهُ رَأَى مِنَ الْحَسْرَةِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّ قَبْرَهُ كَانَ عِنْدَهُ أَ مَا تُحِبُّ أَنْ يَرَى اللَّهُ شَخْصَكَ وَسَوَادَكَ فِيمَنْ يَدْعُو لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله- وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْأَئِمَّةُ -عليه السلام- أَ مَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا مَضَى وَيُغْفَرَ لَكَ ذُنُوبُ سَبْعِينَ سَنَةً أَ مَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ تتبع [يُتْبَعُ] بِهِ أَ مَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ غَداً مِمَّنْ يُصَافِحُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله))(5).
هذا وقد أكَّد الإمام الباقر (عليه السلام) بالوجوب المؤكد على زيارة الحسين (عليه السلام) تأكيداً لا يقبل التأويل، وذلك في ما قاله: أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي وَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَتِّيلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ الْخَزَّازِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ عليه السلام قَالَ ((مُرُوا شِيعَتَنَا بِزِيَارَةِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -عليه السلام- فَإِنَّ إِتْيَانَهُ مُفْتَرَضٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ يُقِرُّ لِلْحُسَيْنِ -عليه السلام- بِالْإِمَامَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّوَجَل))(6)، وغيرها من الروايات التي جعلت من الزيارة فرض واجب كفروض الله تعالى، لأنَّها تُذكِّر بالله وبكتابه وأحكامه ومنهج الرسل المبتعثين منه عزَّ وجل.
خلاصة القول:
نخلُص مما تقدَّم: إنَّ زيارة المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فرضٌ واجبٌ على كل مسلم ومسلمة، وبالخصوص على من يعتقد بإمامة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بأنَّها عهد الله في الأرض، وربما ما جاء بسبيل الإستحباب والحث المباشر مع التأكيد؛ فيها شيء من التقية، رغم أنَّ الروايات تحمل في طياتها الوجوب الضمني، أمَّا الروايات التي جاء بها الأمر بالزيارة؛ قطعت الطريق أمام التأويل والتحليل بالأمر الحقيقي الصادر من الإمام المعصوم إلى الناس، فقد جاء الوجوب بطريقة الأمر الوجوبي والتنبيه والإرشاد إلى طريق الحق الذي عبَّده الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه بدمائهم ليُنيروا دروب الثائرين ما دامت الدنيا قائمة؛ ولكي لا يبقى للناس على الله تعالى من حجة.