الحسينيون سلاحهُم الحِوار
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (3)
نـــــزار حيدر
2024-07-10 07:20
الرِّساليُّونَ سلاحهُم الحِوار {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} والسُّلطويُّونَ سلاحهُم القتل والذَّبح {قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابࣰا وَأَبۡقَىٰ}.
هذهِ الحقيقةُ تجلَّت بشَكلٍ عميقٍ في كربلاء في يومِ عاشوراء.
فالوقتُ الذي قضاهُ الحُسين السِّبط (ع) مع جيشِ البغي وقادتهِ يُحاورهُم ويُحاججهُم ويُذكِّرهُم ويُدلي عليهِم بالأَدلَّةِ والبراهين أَضعاف الوَقت الذي استغرقتهُ المعرَكةُ بالسِّلاحِ التي خاضها معهُم.
وهذا دليلٌ على أَنَّهُ (ع) كانَ رساليّاً صاحب رِسالة يسعى لتبليغِها بكُلِّ الوسائلِ السلميَّةِ فهو لم يرمِ بنبلٍ ولم يُوعِز لأَحدٍ من أَصحابهِ برفعِ سيفٍ بوجهِ أَعدائهِ ما لم يُنذِر ويُعذِر بالأَدلَّةِ والبراهينِ القاطعةِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبۡعَثَ فِيٓ أُمِّهَا رَسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِي ٱلۡقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ} فالعذابُ بعدَ الذِّكرى [ظُلمُ الذَّات].
ولو كانَ (ع) سُلطويّاً يبحثُ عن سُلطةٍ أَو جاهٍ زائفٍ أَو خلافةٍ بأَيِّ شَكلٍ من الأَشكالِ لما قَضى وقتاً طويلاً يخطبُ في القومِ ويفسحُ المجالَ لأَصحابهِ لفعلِ الشَّيءِ ذاتهِ معهُم.
الرِّساليُّونَ حسَّاسُونَ جدّاً في مَوضُوعِ الحقُوقِ، ومِن الحقُوقِ أَن يطَّلِعَ الإِنسانُ على الأَدلَّةِ والإِثباتاتِ قبلَ أَن يختارَ ويتَّخِذَ قرارهُ النَّهائي.
يذكُرُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) حسَّاسيَّتهُ من الحقُوقِ بقَولهِ {واللَّه لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّه فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا.
مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى ! نَعُوذُ بِاللَّه مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وقُبْحِ الزَّلَلِ.}.
أَمَّا الطَّرفُ الآخر فقد كانَ واضحاً أَنَّهُ سُلطَويٌّ ودُنيويٌّ ليسَ على استعدادٍ للإِصغاءِ لوعظِ الإِمامِ وقادةِ جيشهِ خَشيةَ التَّأَثُّرِ بما يدلُونَ بهِ من حِججٍ وآراء ومَواقف وبما يذكِّرونهُم من قُرآنٍ وسُنَّةٍ وسيرَةٍ!.
يقُولُ تعالى مُتحدِّثاً عن هذهِ الظَّاهرة المُجتمعيَّة القبيحة {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وهي الظَّاهرة التي يُعاني مِنها المُصلحُونَ دائماً {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}.
الرِّساليُّونَ، إِذن، تعرفهُم من سلاحهِم، فهُم سلاحهُم الحِوار والجِدال والنِّقاش العلمي المُستند إِلى الأَدلَّة العقليَّة والبراهين المنطقيَّة، وغيرهُم سلاحهُم الفتك، كما تُشيرُ إِلى ذلكَ العديدِ من آيات القُرآن الكريم منها قولهُ عزَّ وجلَّ {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
فلكثرةِ جدالِ الرَّسُولِ معهُم تعِبَ القَومُ من الإِصغاءِ، تخيَّل، فاستعجلُوا العذابَ.
وفي قولهِ تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} دليلٌ واضحٌ على تناقُضِ أَدواتِ الرساليِّينَ معَ غيرهِم.
وإِنَّما ظلَّ الحُسين السِّبط (ع) يُجادلهُم بالتي هيَ أَحسن لعدَّةِ أَسبابٍ؛
أ/ إِلتزاماً منهُ بالنَّهجِ القُرآني فالإِمامُ (ع) لم يُخالف تعاليم السَّماء قيدَ أَنمُلةٌ لا في منُطلقٍ ولا في هدفٍ ولا في أَداةٍ ولا في أُسلُوبٍ.
ب/ إِنَّهُ (ع) لم يشأ أَن يختارَ أَحدٌ منهُم قِتالهُ عن جهلٍ وعدمِ مَعرفةٍ، لتكونَ حجَّتهُ عليهِم أَقوى وأَمضى، كما وردَ ذلكَ في زيارةِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) المعرُوفةِ بزيارةِ [أَمينِ الله] التي زارَها الإِمامُ عليُّ بن الحُسين السجَّاد زَين العابدِينَ (ع) بقولهِ {وأَلزمَ أَعداءكَ الحُجَّةَ في قتلهِم إِيَّاكَ، معَ ما لكَ منَ الحِجَجِ البالِغةِ على جميعِ خَلقهِ}.
ج/ حتَّى الذين قاتلُوا مع الحُسين السِّبط (ع) واستُشهدُوا في يومِ عاشوراء لم يشأ الإِمام أَن يُقاتِلَ أَحدهُم معهُ ويُضحِّي برُوحهِ ودمهِ [معصُوبَ العَين] من دونِ أَن يعرفَ على ماذا يُقاتِل ومَن يُقاتل ومَع مَن يُقاتل؟! ولذلكَ فهوَ لم يشهَد على أَصحابهِ بقَولهِ (ع) {أَمَّا بعدُ؛ فإِنِّي لا أَعلمُ أَصحاباً أَوفى ولا خيراً من أَصحابي، ولا أَهلَ بيتٍ أَبرَّ ولا أَوصلَ من أَهلِ بيتي فجزاكُمُ الله عنِّي خيراً} وهيَ أَعظمُ وِسامٍ قلَّدهُ الحُسين السِّبط (ع) لأَصحابهِ وأَهلِ بيتهِ، إِلَّا بعدَ أَن خبرهُم وامتحنهُم وخيَّرهُم، كما يصفُ ذلكَ لأُختهِ زَينب الكُبرى بنتِ عليٍّ (ع) عندما سأَلتهُ {أَخي؛ هل استعلمتَ مِن أَصحابِكَ نيَّاتهُم فإِنِّي أَخشى أَن يُسلِمُوكَ عندَ الوثبةِ واصطِكاكِ الأَسنَّةِ!}
فبكى (ع) وقال {أما والله! لقد نهرتهُم وبلَوتهُم وليسَ فيهِم إلَّا الأَشوَسَ الأَقعَسَ يستأنِسُونَ بالمنيَّةِ دوني استئناسَ الطِّفلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ} وهذهِ علامةُ اليقينِ عندَ المُؤمنِ بقضيَّتهِ كما يقُولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {واللَّه لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ}.
وهُنا يشخَصُ فارِقٌ كبيرٌ جدّاً بينَ كيفيَّة إِختيار الرِّسالي لأَصحابهِ الَّذين سيُساعدُونهُ على إِنجازِ المُهمَّةِ الرِّساليَّةِ المُلقاةِ على عاتقهِ وبينَ كيفيَّةِ إِختيارِ السُّلطوي لهُم.
فالرِّساليُّ يبحثُ عن رجالٍ واعينَ نزيهِينَ شُجعاناً في قولِ الحقِّ لا تأخُذهُم في الله لَومةَ لائمٍ، يعرفُونَ الرِّجالَ بالحقِّ وليسَ العَكس، يبذلُونَ كُلَّ شيءٍ مِن أَجلِ تحقيقِ الهدَفِ السَّامي وهُم مِصداقٌ لقولِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) {لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّه سُبْحَانَه إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} يستَقيمُونَ فلا تُغيِّرهُم سُلطةٌ ولا يُغيِّرُ ولاءاتهُم مالٌ، يُتاجِرُونَ معَ الله ولا يُتاجِرونَ بالدِّينِ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
أَمَّا السُّلطَويُّونَ فيلتفُّ حَولهُم المصلحيُّونَ والوصُوليُّونَ وتُجَّار الدِّينِ والمذهبِ والقِيَمِ والدَّمِ من الجهَلةِ والإِمَّعاتِ الذينَ لا يُميِّزُونَ بينَ النَّاقةِ والجَملِ، يُقاتلُونَ مِن دُونِ أَن يعرفُوا السَّبب ويُطيعُونَ بِلا وعيٍ، همُّهم تحقيقُ مصالهِم الشخصيَّة حتَّى إِذا كانت على حسابِ القِيَمِ والمبادئِ والأَخلاقِ.
فلقد أُتِيَ بِجَانٍ لأَميرِ المُؤمنِينَ (ع) ومَعَهُ غَوْغَاءُ فَقَالَ {لَا مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لَا تُرَى إِلَّا عِنْدَ كُلِّ سَوْأَةٍ}.