سبايا آل الرّسول (ص) في دمشق
الشيخ باقر شريف القرشي
2023-09-05 05:32
وعانت عقائل الوحي ومخدرات الرسالة جميع ضروب المحن والبلاء في تلك الأيام السود التي مرت عليهن في الكوفة، فقد عانين مرارة الاعتقال في السجن وشماتة الأعداء وذل الأسر في بلد كانت موطنا لشيعتهم ومركزا لدعوتهم، وكن في حالة مشجية تذوب من هولها النفوس.. ونعرض إلى سير الأحداث الأليمة التي جرت عليهن حينما ارسلن الى دمشق.
تسيير الرءوس:
وأمر ابن مرجانة بتسيير رءوس العترة الطاهرة الى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة لتمتلئ قلوب الناس فزعا وخوفا من بني أمية وليكونوا عبرة لكل من تحدثه نفسه بالخروج عليهم، وقد سيرت مع زجر بن قيس الجعفي وأبي بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن ظبيان الأزدي،
تسريح العائلة النبوية:
وسرحت عائلة آل النبي (ص) مع محفر بن ثعلبة من عائذة قريش وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، واركبت على أقتاب الجمال وهن بحالة تقشعر منها الأبدان يقول عبد الباسط الفاخوري:
«ثم أن عبيد اللّه جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان وترتعد منها مفاصل الانسان بل فرائض الحيوان» (1).
تشييع أهل الكوفة للاسرى:
وخرجت الكوفة بجميع طبقاتها لتوديع ركب أهل البيت وهم ما بين باك ونائح وقد غصت طرق الكوفة بالناس وهم يبكون عامة الليل، فلم تتمكن القافلة أن تسير من كثرة الزحام فاستغرب الامام زين العابدين (ع) منهم وراح يقول: «هؤلاء قتلونا ويبكون علينا!!» (2).
وعجت نساء همدان بالبكاء والنياحة (3) وعلا منهن الصراخ والعويل وأمر شمر بن ذي الجوشن أن يغل الامام زين العابدين بغل في عنقه فغل (4) وانطلقوا بالأسرى حتى التحقوا بالقافلة التي معها الرؤوس، ولم يتكلم الامام زين العابدين مع الجفاة بكلمة واحدة، ولا طلب منهم أي شيء طيلة الطريق (5) وسارت القافلة لا تلوي على شيء حتى انتهت الى القرب من دمشق فأقيمت هناك حتى تتزين البلد بمظهر الزهو والأفراح.
تزيين الشام:
وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمحلات العامة والخاصة باظهار الزينة والفرح للنصر الذي احرزته في قتل ريحانة رسول اللّه (ص) وسبي ذريته، ويصف بعض المؤرخين تلك الزينة بقوله:
«ولما بلغوا ـ أي اسارى أهل البيت ـ ما دون دمشق بأربعة فراسخ، استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحا وسرورا حتى بلغوا بهم قريب البلد فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتى تتوفر زينة الشام، وتزويقها بالحلي والحلل والحرير والديباج والفضة والذهب، وانواع الجواهر على صفة لم ير الراءون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده، ثم خرجت الرجال والنساء والاصاغر والاكابر والوزراء والأمراء واليهود والمجوس والنصارى، وسائر الملل الى التفرج ومعهم الطبول والدفوف والبوقات والمزامير، وسائر الآلات اللهو والطرب، وقد كحلوا العيون وخضبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس وتزينوا أحسن الزينة ولم ير الراءون اشد احتفالا ولا اكثر اجتماعا منه، حتى كأن الناس كلهم قد حشروا جميعا في صعيد دمشق» (6).
لقد اظهر ذلك المجتمع الذي تربى على بغض أهل البيت جميع ألوان السرور والفرح بما أصابهم من القتل والسبي وجيء بالرأس العظيم وسط هالة من التهليل والتكبير على هذا النصر الذي احرزه حفيد أبي سفيان وكان خالد بن صفوان أو غفران في دمشق حينما أتى برأس الامام فاظهر الجزع والبكاء واختفى عن الناس لئلا تقبض عليه عيون بني أمية، وهو يقول:
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد
منزملا بدمائه تزميلا
وكأنما بك يا ابن بنت محمد
قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا
في قتلك التأويل والتنزيلا
ويكبرون بأن قتلت وانما
قتلوا بك التكبير والتهليلا (7)
ويقول سهل بن سعد: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فاذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقت عليها الحجب والديباج والناس فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول فقلت في نفسي: إن لأهل الشام عيدا لا نعرفه فرأيت قوما يتحدثون فقلت لهم:
«الكم بالشام عيد لا نعرفه؟»
«نراك يا شيخ غريبا»
«أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول اللّه»
«يا سهل ما أعجبك أن السماء لا تمطر دما والأرض لا تنخسف بأهلها!!».
«وما ذاك؟»
«هذا رأس الحسين يهدى من أرض العراق!!»
«وا عجبا يهدى رأس الحسين والناس يفرحون من أي باب يدخل»
وأشاروا الى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف واذا بالرايات يتبع بعضها بعضا، واذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللّه (ص) وهو رأس ريحانته الحسين، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطأ، وبادر سهل الى احدى النسوة فسألها:
ـ من أنت؟
ـ أنا سكينة بنت الحسين
ـ الك حاجة؟ فانا سهل صاحب جدك رسول اللّه (ص)
ـ قل لصاحب هذا الرأس أن يقدمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول اللّه (ص).
وأسرع سهل الى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء (8).
الشامي مع زين العابدين:
وانبرى شيخ قد ضللته الدعايات الكاذبة فأخذ يشق الصفوف الحاشدة حتى انتهى إلى الامام زين العابدين فرفع عقيرته قائلا:
«الحمد للّه الذي اهلككم وأمكن الأمير منكم»
وبصر به الامام فرآه مخدوعا قد خفي عليه الحق فقال له:
ـ يا شيخ قرأت القرآن؟
ـ بلى
ـ أقرأت قوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ» وقوله تعالى: «وَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ» وقوله تعالى:
«وَاِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي اَلْقُرْبىٰ» وتهافت الشيخ فقال بصوت خافت:
«نعم قرأت ذلك»
قال له الامام: نحن واللّه القربى في هذه الآيات، يا شيخ أقرأت قوله تعالى: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.».
«بلى»
«نحن أهل البيت الذين خصهم اللّه بالتطهير»
وسرت الرعدة في أوصال الشيخ وجمد دمه، وقال للامام بنبرات مرتعشة:
«باللّه عليكم أنتم هم؟»
«وحق جدنا رسول اللّه (ص) إنا لنحن هم من غير شك»
وود الشيخ أن الأرض قد وارته، ولم يقل تلك الكلمات القاسية والقى بنفسه على الامام وهو يوسع يديه تقبيلا، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلا:
«ابرأ الى اللّه ممن قتلكم»
وطلب الشيخ من الامام أن يمنحه العفو والرضا فعفا عنه (9) وكانت الأكثرية الساحقة من أهل الشام على غرار هذا الشيخ قد ضللتهم الدعاية الأموية، وحجبتهم عن معرفة أهل البيت عليهم السلام.
سرور يزيد:
وغمرت الافراح والمسرات يزيد حينما وافاه النبأ بمقتل الامام وكان في بستانه الخضراء (10) فكبر تكبيرة عظيمة (11) ولما جيء بالسبايا كان مطلا على منظر في جيرون، فلما نظر الى السبايا والرءوس قد وضعت على الحراب امتلأ سرورا وراح يقول:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت
تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت: قل أو لا تقل
فلقد قضيت من الرسول ديوني (12)
لقد روى حفيد أبي سفيان أحقاده واستوفى ثأره من ابن فاتح مكة ومحطم أوثان قريش فقد قتل العترة الطاهرة وسبى ذراريها تشفيا وانتقاما من النبي (ص).
رأس الامام بين يدي يزيد:
وحمل محفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن رأس ريحانة رسول اللّه (ص) هدية الى الفاجر يزيد بن معاوية، ولما انتهيا إلى البلاط الأموي رفع محفر عقيرته ليسمعه يزيد قائلا:
«جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم»
فأنكر عليه يزيد ورد عليه:
«ما ولدت أم محفر الأم واحمق، ولكنه قاطع ظلوم» (13)
وأذن يزيد للناس اذنا عاما ليظهر لهم انه قهر آل النبي (ص) وازدحم أهل الشام على القصر وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنونه بهذا النصر الكاذب (14) ووضع رأس ريحانة رسول اللّه (ص) بين يدي سليل الخيانة والاجرام فجعل ينكت بمخصرته ثغره الذي طالما كان النبي (ص) يترشفه، وجعل يقول متشفيا وشامتا.
«قد لقيت بغيك يا حسين» (15)
ثم التفت الى من كان معه فقال لهم: «ما كنت أظن أبا عبد اللّه قد بلغ هذا السن، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود» (16) وتأمل في وجه الامام فغمرته هيبته فطفق يقول:
«ما رأيت مثل هذا الوجه حسنا قط!!» (17)
وراح يوسع ثغر الامام بالضرب وهو يقول: ان هذا وايانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت
قواضب في ايماننا تقطر الدما
يفلقن هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ولم يتم كلامه حتى انكر عليه أبو برزة الأسلمي فقال له:
«اتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذا لربما رأيت رسول اللّه (ص) يرشفه، أما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد (ص) شفيعه».
ثم قام منصرفا (18) واندفع يحيى بن الحكم متأثرا وهو يقول:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة
من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
أمية أمسى نسلها عدد الحصى
وبنت رسول اللّه ليس لها نسل (19)
فالتاع الطاغية منه ودفع في صدره، وقال له: اسكت لا أم لك (20) لقد تأثر كل من يملك ضميرا حيا من المصائب الأليمة التي صبها الطاغية على آل البيت.
نصب الرأس في جامع دمشق:
وبعد ما قضى الأثيم وطره من العبث برأس سيد شباب أهل الجنة نصبه في جامع دمشق في المكان الذي نصب فيه رأس يحيى بن زكريا (21) وقد علق ثلاثة أيام (22).
رأس الامام عند نساء يزيد:
وبعث الطاغية برأس ريحانة رسول اللّه (ص) الى نسائه ليظهر مقدرته وزهوه أمامهن، فأخذته عاتكة وطيبته، فأنكر يزيد ذلك وقال: ما هذا؟
فقالت له:
«بعثت إلينا برأس عمي شعثا فلممته وطيبته» (23)
السبايا في مجلس يزيد:
وسر الطاغية سرورا بالغا بسبايا أهل البيت فأوقفهم موقف السبي بباب المسجد مبالغة في اهانتهم واذلالهم (24) وعمدت جلاوزته الى بنات رسول اللّه (ص) وسائر الصبية فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام فكان الحبل في عنق الامام زين العابدين إلى عنق عمته زينب وباقي بنات رسول اللّه (ص)، وكانوا ـ فيما يقول المؤرخون ـ كلما قصروا عن المشي أو سعوهم ضربا بالسياط، وجاءوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدع من هولها الجبال، وهم يكبرون ويهللون فأوقفوهم بين يدي يزيد فالتفت الامام زين العابدين فقال له:
«ما ظنك بجدنا رسول اللّه (ص) لو يرانا على مثل هذه الحالة؟» فتأثر يزيد ولم يبق أحد في مجلسه الا بكى (25) وقد تألم الطاغية مما رأى فراح يقول:
«قبح اللّه ابن مرجانة لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا» (26) ثم أمر بالحبال فقطعت عنهم والتفت الى علي بن الحسين فقال له:
«إيه يا علي بن الحسين أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع اللّه به ما رأيت».
فأجابه شبل الحسين بكل هدوء وطمأنينة بقوله تعالى:
(مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ ولاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ، ولاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ واَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ).
وتميز الطاغية غضبا وذهبت نشوة أفراحه، وتلا قوله تعالى:
«مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» فقال له الامام:
«هذا في حق من ظلم لا في حق من ظلم» (27)
وزوى الامام بوجهه عنه ولم يكلمه (28) احتقارا له واستهانة بشأنه.