اللامبالاة والنوافذ المكسورة في قضية عاشوراء
فاطمة مرتضى معاش
2023-09-02 08:44
دعونا نتخيل للحظة مبنى به نافذة مكسورة، فكلما مرت الأيام سيغطي الغبار أكثر هذا المبنى المتروك، وستتحطم وتتكسر نوافذ أكثر، فكأنّ هذه النافذة المكسورة هي رسالة بأنّ لا أحد يهتم بهذا المكان فهلمّوا لتخريبه، وهذا ما يسمى بنظرية النوافذ المكسورة وفقاً للتجربة التي قام بها عالم النفس والاجتماع "فيليب زيمباردو"[1] في عام 1969م، والتي أصبحت فيما بعد من أشهر التجارب في دراسات علم الجريمة بشكل خاص وفي العلوم الاجتماعية بشكلٍ عام، وقد قام بالتالي:
ترك سيارتين بأبواب مفتوحة دون وجود أي أرقام ولوحات معدنية عليهما في منطقتين مختلفتين، أحد هذه الأحياء فقيرة والأخرى كانت في حي غني، بدأ المارة في الحي الفقير بسرقة وتخريب السيارة في بضع دقائق وتم تدميرها بالكامل في غضون ثلاثة أيام، في الحي الغني تطلب الأمر طويلاً لبدء تدمير السيارة، الأمر الذي دفع فيليب إلى التدخل بكسر أحد نوافذ السيارة، ثم بعد ذلك توالت أمور تخريب السيارة بالكامل في بضعة أيام، فمن خلال هذه التجربة تبين أن النافذة المكسورة أرسلت رسالة وهي "أن لا أحد يهتم، وعلى الأرجح لا توجد عواقب لإتلاف ما تم كسره أصلاً".
النظرية بسيطة للغاية، وهي أنّ الكبائر تبدأ بالصغائر، أو أنّ عظيم النار يأتي من مستصغَر الشرر، أو صغائر الأمور بدايات لحدوث كوارث. وينطبق الامر على مفهوم الجريمة التي هي نتاج الفوضى وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشرية. إذا حطم أحدهم نافذة زجاجية في الطريق العام، وتُركت هذه النافذة دون تصليح، فسيبدأ المارة بالظن بأنه لا أحد يهتم، وبالتالي فلا يوجد أحد يتولى زمام الأمور، فستبدأ نوافذ أخرى تتحطم على ذات المنوال، وستبدأ الفوضى تعمّ البيت المقابل لهذا النافذة، ومنه إلى الشارع، ومنه إلى المجتمع كله.
وهذه النظرية تأخذ مجراها في كل جوانب حياتنا، فمثلاً اذا كانت هناك أرض شبه خربة قرب منزلكم ورمى أحدهم فيها قمامته، فبعد أيام سنشاهد أناس آخرين أيضاً يرمون قمامتهم في هذه الأرض واذا بنا نرى تلال من القمامة قد تكومت فيها.
لذا نرى أن الدين الإسلامي ركز على هذه النقطة، فاذا ارتكب أحدهم ذنباً ما، يَحرم عليه أن يُصرح للناس انه ارتكب هذا الحرام وهذا ما يسميه القرآن الكريم «إشاعة الفاحشة»: «إِنَّ الَّذينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون»[2] و(الفاحشة) هي كلما يشتد قبحه من الذنوب و المعاصي[3]، ربما أحدهم لم يستيقظ لصلاة الصبح وصلاته أصبحت قضاء (والعياذ بالله) فهو ارتكب ذنباً اذا كان مقصراً، اما إذا قال للآخرين أنّ صلاته أصبحت قضاء فسيرتكب ذنباً آخر لأنه أشاع بالفاحشة وهتك حرمة قبح الفعل وبذلك يمكن أن تتحطم نافذة من المجتمع وربما بهذه الاشاعة تتحطم نوافذ أخرى للمجتمع يتبعها الانهيار.
اللامبالاة والنافذة المكسورة
من النوافذ المتحطمة في مجتمعنا هو (اللامبالاة الاجتماعية/ social apathy) أي أنه لانهتم بما يحدث حولنا حتى أصبح لنا شيئاً عادياً واخذ يتكلم عنها علماء الاجتماع على أنها ظاهرة ومتلازمة[4] ويبحثون عن علاج لها، إنها تصبح ظاهرة عندما تكون مستفحلة ومنتشرة جداً، فالسلوكيات والتصرفات إذا كانت فردية أو تتم من عدد محدود من الأفراد فلا تسمى ظاهرة، وليس لها تأثير كبير، لكنها حين تصبح حالة عامة تشمل الأعم الأغلب فسوف تكون ظاهرة.
اليوم أخذ الانسان يعيش بمفرده بعيداً عن هموم المجتمع منكفئاً على همومه الشخصية ومنعزلاً في دائرته الذاتية الخاصة، متخلياً عن كل ما يتعلق من مسؤولية بالآخرين، او يقف متفرجاً على حركة الاحداث ساكناً خارج اطار الزمن، كأنه لايعيش في المجتمع، ولا يعيش مع أناس آخرين.
فيكون محايداً لا يعمل ولا يفعل شيئاً، فبازاء كل عدم اهتمام وعدم المبالاة تنكسر نافذة من المجتمع، وعند تراکم عدم الاهتمام نرى نوافذ متحطمة في ارجاء المجتمع يتبعه انهيار المجتمع بأكمله.
أجرى باحثون اجتماعيون اختبارا تم فيه قياس مستوى اللامبالاة الاجتماعية بين الناس، وكانت نتيجة الاختبار أنه تم تصنيف 3.3٪ من الأشخاص عندما يكون هناك صراعا يتدخلون ويحاولون الفصل والصلح بين الجانبين، أما 58.4٪ من الناس لديهم شعور متوسط باللامبالاة، وللأسف 38.4٪ هم من الأشخاص الذين يشعرون باللامبالاة بصورة عالية بحيث إذا تعرضوا لحادث فسيقومون بالتصوير من اجهزتهم المحمولة ثم يمرون من المعركة دون اكتراث، وهذا إحصاء مثير للقلق.
في عام 1993م حدثت مجاعة في دولة سودان، قام المصور كيفين كارتر برحلة إلى جنوب السودان، حيث التقط صورة لنسر يفترس طفلًا سودانيًا هزيلًا قريب من موته، قال كارتر إنه انتظر حوالي 20 دقيقة، على أمل أن تنشر النسر جناحيها لتكون صورته مثالية في قمة التأثر، بعد اليأس التقط الصورة وذهب سريعا ليلحق بطائرته التي كان موعدها قريباً، تم بيع الصورة لصحيفة نيويورك تايمز حيث ظهرت لأول مرة في 26 مارس 1993 كـ "استعارة لليأس الأفريقي" وحصل على جائزة بوليترز، وفي أحد المقابلات الاذاعية المباشرة اتصل أحدهم وسأله عمّا حدث للطفلة، أجابه كارتر: "اني لم انتظر لأرى ما يحدث لأنه كان عليّ أن ألحق بالطائرة." فأجابه المتصل:" برأيي في ذلك اليوم كان يوجد نسران وأحدهم يحمل معه عدسة." وتعرض كارتر لانتقادات كثيرة لعدم مساعدته للفتاة، وجاءت في إحدى المقالات الافتتاحية الناقدة: "إنّ الرجل الذي يعدل عدسته ليأخذ الإطار الصحيح لمعاناتها قد يكون أيضًا حيوانًا مفترسًا، أو نسرًا آخر في المشهد"[5]، في النهاية لم يستطع كارتر الاستمتاع بالشهرة لأنه أصبح مستغرقًا حول مصير الفتاة وتطارده الأسئلة الصغيرة وانتحر بعد ثلاثة أشهر وقال لأحد أصدقاءه: "أنا آسف حقًا لأنني لم أحمل الطفل".
تارةً يُقتل انسان وتكون اللامبالاة للقضية واضحة وجلية، فالمجتمع ربما يكون لديه رد فعل واضح حول الموضوع، ولكن الأكثر ايلاماً يكون عندما تُقتل روح الانسان ولانرى اهتماماً لذلك، لأنّ في هذه الحالة القتل لايكون لشيء محسوس ومرئي، وخير مثال على ذلك هو عمالة الأطفال، فهم في عمر يكون اللعب مسئوليتهم الوحيدة ولكنهم يتعرضون للحر اللاهب والبرد القارس والضرب والعنف والتحرش الجنسي، ومن الأرقام الصادمة في هذا المجال هو أنه في عام 2020، شارك طفل من بين 10 أطفال بعمر 5 سنوات في عمالة الأطفال حول العالم، وهو ما يعادل إجمالاً 160 مليون طفل. هذا في حال أنّه تقول منظمة الأمم المتحدة: "إنّ طفلاً من بين أربعة أطفال (ممن تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و17 سنة) في البلدان الفقيرة، ملتحق بأعمال تعتبر مضرة بصحته ونموه". رغم هذه الأرقام المخوفة فإننا عندما نرى طفلاً في تقاطعات الشوارع يترجانا لكي نشتري منه شيئاً فانّ جل مانفعله أن نرفع زجاج نافذة السيارة لكي لانسمع ما يقول في حين أنّ روحاً تُقتَل أمام أعيننا ولانفعل له شيئاً.
وتارةً يُقتَل تفكير الانسان، فاذا سُلب قدرة الفكر من الانسان فانه ليس قادرا بأن ينتخب ويتطور ويعيش حياة طبيعية فيصبح الانسان مجرد آلي يملي عليه الآخرون ما یفعل ويصبح خاضعا لمواقع التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، فعن رسول الله (صلى الله عليه واله): «إِنَّ التَّفَكُّرَ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمُسْتَنِيرُ فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّور»[6]، فاذا سُلِب من الانسان ضوء الدرب فكيف سيجد طريقه نحو النور، قال الامام الكاظم (عليه السلام): «دَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّر»[7]، وأيضاً قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام): «إِنَّ التَّفَكُّرَ يَدْعُو إِلَى الْبِرِّ وَالْعَمَلِ بِهِ.»[8]
وخير مثال على قتل التفكير هو ما تحدثه التكنولوجيا اليوم في أطفالنا، فالأرقام صادمة في هذا المجال، تشير الإحصاءات إلى أنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و 17 عامًا يقضون ثلث يومهم مع الأجهزة الإلكترونية والعالم الافتراضي. تظهر الإحصائيات العالمية أحيانًا أنّ استخدام الأطفال الأوروبيين والأمريكيين يصل إلى أكثر من 9 ساعات في هذا المجال، كما تشير الإحصائيات أنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عامين وخمسة أعوام أسبوعياً يقضون 30 ساعة في مشاهدة التلفاز واللعب بالأجهزة الالكترونية، وذلك في حين أنّ البحوث العلمية تثبت أنّ قضاء الوقت في عالم الافتراضي يَقتُل التفكير لدى الانسان ومن جانب آخر يجب أن يلعب الطفل لتنمو قدرة عقله وتفكيره، ونحن في دوامة من اللامبالاة لانفعل شيئاً حيال هذه المشكلة الكبيرة.
وتارةً تُقتَل معنويات الانسان، فالإنسان کائن متعدد الأبعاد، والمعنى يشكل جزء مهما من كيانه، فاذا قُتل المعنى منه فسيصبح كما يقول القرآن الكريم: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»[9]، وسيبتعد الانسان كثيراً عمّا خلقه الله سبحانه من أجله، ونرى اليوم العالم قد اتجه كثيراً نحو المادية حتى أصبح كل همّه وكل ما يسعى له، ونرى أنّ الانسان ابتعد عما خلقه الله سبحانه وتعالى من أجله، حتى أصبحت الكثير من الأعمال العبادية كالصلاة باهتة اللون في المجتمع وقلة هُم من يهتم بها اهتماماً كما تطرقت له الاحاديث المباركة، أما نحن، فابتعاد الناس عن الله سبحانه أصبح لنا شيئاً عادياً وكأنه اذا كنا مع الله عزوجل والتزمنا وحدنا بالعبادات فذلك يكفي، ولانعرف أنّ من اوجد ثقبا في سفينة المجتمع فسينتهي بغرق جميع من في السفينة وليس شخص الثاقب وحده.
ينقل عن أحد المؤمنين أنه كان ملتزماً بأعلى ما يكون وكان يقوم بالنوافل على أحسن وجه، ولكن بعكسه أولاده كانوا بجهة أخرى غير ملتزمين دينياً، توفى هذا الشخص وشاهده أحدهم في عالم الرؤيا وسألوه عن حاله، قال: عندما أتيت الى العالم الآخر، فانّ الله سبحانه اعطاني الثواب كاملاً إزاء كل ما عملته من الصلوات والعبادات ولكن بعد ذلك قالت لي الملائكة كلمة (تكون معناها): «أنت لم تفهم من الدين شيئاً»[10]، فالله سبحانه وتعالى لايريد فقط أن نرتقي وحدنا نحو الكمال بل أن نأخذ بأيدي من حولنا ونرتقي معاً.
دخل على الامام الباقر (عليه السلام) رجل، فقال: رَحِمَكَ اللَّهُ أُحَدِّثُ أَهْلِي؟ قَالَ (عليه السلام):«نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[11] وَقَالَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها[12]»[13]، يقول الشيخ الطبرسي: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أي أهل بيتك وأهل دينك،[14](وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي بالمداومة عليها واحتمال مشاقها بل الأمر بها واحتمال مشاقه أيضاً.[15]
في ليلة العاشر من محرم أرسل الامام الحسين (عليه السلام) ابا الفضل العباس (عليه السلام) ليرى ما يُريد جيش العدو وما يسعى اليه، ففهم العباس (عليه السلام) أنّهم اما يريدون البيعة ليزيد او الحرب معهم، فجاء الْعَبَّاسُ إِلى الحسين (عليه السلام) وأخبره بما قال القوم فقال الحسين (عليه السلام):«ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى غَدٍ وَتَدْفَعَهُمْ عَنَّا الْعَشِيَّةَ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ قَدْ أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ وَكَثْرَةَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ... وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَهُمْ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مَا بَيْنَ رَاكِعٍ وَسَاجِدٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِد»[16]، على بعد خطوات من الشهادة فأكثر مايحبه الامام (عليه السلام) هو التقرب من الله بالعبادة والذكر والصلاة، فلم لايكون ذلك في طليعة حياتنا وندعو من نحبهم بما كان يحب الامام؟!
اذا بحثنا قضية استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) بنظرة تحليلية نرى أنه من أهم الأسباب الاجتماعية التي أراقت بالدماء الطاهرة في كربلاء هي عدم المبالاة الاجتماعية التي أحاطت بجمهور الشيعة في ذلك الزمان، بحيث أنّ كثير منهم لصد بعض المشاكل الاجتماعية التي يمكن أن تحيط به أو بعائلته فإنّه يهرب من المسئولية ويتخذ الحيادية وعدم الفعل شيئاً ويخوض في دائرة ذاته، تلك الفئة الكبيرة من الناس التي تفرجت على مقتل الامام الحسين (عليه السلام) وأولاده واصحابه، واتخذت جانب الحياد، واهتمت بالشأن الخاص على حساب الاهتمام بالشأن العام وهذا ما يدل على وجود متلازمة اللامبالاة لديهم الذي بالتالي قادهم الى الانحراف وبالتالي إراقة هذه الدماء المباركة، وسنذكر بعض الدلائل الروائية لهذا التحليل:
الله سبحانه وتعالى هكذا يروي مصيبة الحسين (عليه السلام) لموسى (على نبينا واله وعليه السلام): «يا مُوسَى صَغِيرُهُمْ يُمِيتُهُ الْعَطَشُ وكَبِيرُهُمْ جِلْدُهُ مُنْكَمِشٌ يَسْتَغِيثُونَ وَلَا نَاصِرَ وَيَسْتَجِيرُونَ ولَا خَافِر»[17]، (أَجَارَهُ) بمعنى الإمالة، أي الجذب الى نفسه والسوق إليه لحفظه وحراسته وجعله تحت لوائه، و(الِاسْتِجَارَةُ) طلب ذلك[18]، و(الغوث) هو الإعانة والنُّصرة عند الشِّدة[19]، فالله سبحانه وتعالى يعدّ عدم مبالاة الناس في ذلك الزمان وعدم اغاثة آل بيت رسول الله (عليهم السلام) من أعظم المصائب التي حدثت في كربلاء.
ونقرأ في زيارة عاشوراء: «وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِقِتَالِك»، و(أَسْرَجْتُ الفَرَسَ) أي شددت عليه سرجه أو عملت عليه سرجاً[20]، و(أَلْجَمْتُ الفرس إِلْجَاماً) أي جعلت اللِّجَامَ في فمه[21]، و(تَهَيَّأْتُ للشيء) أي استعددت وأخذت له أهبة[22]، ويظهر من سياق الزيارة أنه الكثير ممن كانوا في جيش يزيد لم يقاتلوا الامام حسين (عليه السلام) وجلّ ما فعلوه هو التهيؤ وركوب الفرس والوقوف في الجيش، ولكن الحيادية بهذا المقدار أيضاً منبوذة وبعيدة عن رحمة الله ويشمل لعنته تعالى، لأنه على الانسان أن يتخذ الموقف الصحيح ضمن الجهة الصحيحة.
وفي قضية شخص يقال له الشَّعْبِيُّ يقول: "رأيت رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ولَا أَرَاكَ تَغْفِرُ لِي)، فسألته عن ذنبه فقال: كُنْتُ من الوكلاء على رَأْسِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) وكان معي خمسون رجلاً، فرأيتُ غَمَامَةً بَيْضَاءَ مِنْ نُور وقد نزلت مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْخَيْمَةِ وَجَمْعاً كَثِيراً أَحَاطُوا بِهَا،... فِيهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه واله) وَجَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ فَبَكَى النَّبِيُّ (صلّى الله عليه واله) وَبَكَوْا معه جَمِيعاً، فَوَثَبَ عَلَيَّ ملك الموت فَوَثَبْتُ عَلَى رِجْلِي وَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَمَانَ الْأَمَانَ فَوَ اللَّهِ مَا شَايَعْتُ فِي قَتْلهِ وَلَا رَضِيتُ، فَقَالَ (صلى الله عليه واله):«وَيْحَكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مَا يَكُونُ»، فقُلتُ: «نَعَمْ»، فَقَال (صلى الله عليه واله): «يَا مَلَكَ الْمَوْتِ خَلِّ عَنْ قَبْضِ رُوحِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ يَوْماً»، فَتَرَكَنِي وَخَرَجتُ إِلى هذا المَوضِع تَائِباً على ما كان مِنِّي"[23]، النظر الى الظلم وعدم الفعل شيئاً هو بحد ذاته ذنب، فكيف إذا كان النظر لظلم وقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله)!
في قضية أخرى سأل أحدهم (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الْقَاضِي الأَعْمَى) عن سبب عمائِه، فقال: "كنت حضرت كربلاء ولكن ما قاتلت، فنمت فرأيت شخصاً هائلاً قال لي: أجب رسول الله، فقلت: لا أطيق، فجرَّني الى رسول الله فوجدته حزيناً وبُسِط أمامه نَطْعٌ، فَقُلْتُ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا ضَرَبْتُ بِسَيْفٍ ولَا طَعَنْتُ بِرُمْحٍ وَلَا رَمَيْتُ سَهْماً»، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه واله): «أَ لَسْتَ كَثَّرْتَ السَّوَادَ؟!» وأخذ من طَسْتٍ فيه دَم، فَكَحَّلَنِي من ذلك الدم فاحترقت عيناي فلمّا انتبهتُ كنت أعمى"،[24] ربما ظنّ هذا الشخص أنّ مجرد الحضور مع العدو لايضرّ شيئاً ولكن الحيادية وعدم المبالاة هو أيضاً وزر بحد ذاته، هناك حق وهناك باطل ولايوجد حدّ وسط في ما بينهما لذا على الانسان أن يحدّد موقفه تجاه ذلك ويأخذ القرار الصحيح وفق ذلك.
قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) في الذين اعتزلوا القتال في حرب صفين والجمل: «خَذَلُوا اَلْحَقَّ وَلَمْ يَنْصُرُوا اَلْبَاطِلَ»[25] وكتبوا في شرح الحديث أنه بعض الناس كـ(عبد الله بن عمر) (سعد بن أبي وقاص) و (أبي موسى الأشعري) في حرب صفين اعتزلوا القتال فلم يقاتلوا مع الامام (عليه السلام) ولا ضده فقال لهم الإمام: إنهم خذلوا الحق بالقعود عن القتال دونه ولم ينصروا الباطل بالقتال معه، فهم لم ينصروا الباطل لكنهم خذلوا الحق.[26]
وأيضا قضية (عبيدالله بن الحر الجعفي) توحي بالتأمل، لأنه بعد قتل مُسلم بن العقيل استقرّ في اطراف الكوفة ليبتعد عن الصعوبات في القضايا السياسية والاجتماعية ويكون في أمان ظاهري، فسيد الشهداء (عليه السلام) دخل عليه ودعاه الى نصرته، ولكنه قال: "والله ما خرجت من الكوفة الا مخافة أن تدخلها، ولا أقاتل معك، ولو قاتلت لكُنت أول مقتول، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما"، فأعرض عنه الحسين (عليه السلام) بوجهه وقال: «إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك»[27]، فالهروب من المسؤولية بحجة الهروب من المشاكل هو ما وقع فيه، فما هو قيمة المال اذا لم يضع الانسان نفسه في الموقف الصحيح الذي يرضي الله سبحانه؟!
فاذا الانسان ترك الحيادية واللامبالاة واتّخذ الموقف الصحيح وكان سواده في جانب الحق فقد ظفر، فهناك رواية لطيفة يقول الامام الصادق (عليه السلام): «لَا تَدَعْ زِيَارَةَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لِخَوْفٍ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ زِيَارَتَهُ رَأَى مِنَ الْحَسْرَةِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّ قَبْرَهُ كَانَ عِنْدَهُ أَ مَا تُحِبُّ أَنْ يَرَى اللَّهُ شَخْصَكَ وَسَوَادَكَ فِيمَنْ يَدْعُو لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)»[28]، ربما يكون شخصا واحدا بين ملايين من الزوار في زيارة الأربعين ليس له تأثير، ولكن المبالاة والاهتمام واتخاذ الموقف في الجهة الصحيحة بحيث يؤدي الى ازدياد السواد في جهة الحق هو ما أكدت عليه الروايات، لأنّ جبهة الحق تتشكل من مجموع الوحدات.
يقول القرآن الكريم: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر»[29]، أنتم المسلمون خير أمة إذا خرجتم من حالة اللامبالاة وأصبحتم تهتمون بباقي الناس وتسعون لنشر المعروف في المجتمع وتقليل المنكر فيه.
كربلاء الحسين لنا درسٌ وعبرة، نرى من خلالها أناس كثيرون وقعوا في الهاوية بسبب لامبالاتهم، فالتاريخ يساعدنا بأن نتعلّم من أخطاء سكانه في كل خطوة نخطوها.
التنمية الاجتماعية تبدأ من الواحد فينضم اليه الآخرون، الواحد هو بداية التطور وكسر اللامبالاة، يمكن لكل واحد منّا أن يكون "الواحد" و "الرائد" في مجاله، حتى لو فشلنا ولم ينضم إلينا الآخرون، فإنّنا أيضاً سننجح، لأننا هزمنا خوفنا من الداخل، لأننا قلنا لا "لللامبالاة" ولأننا تحلينا بالشجاعة وخطونا خطوة إلى الأمام، وبهذه الخطوة قد نكون أصلحنا نافذة من نوافذ المجتمع وتجنّبنا كسر الباقي منها.