امتداد الثورة الحسينية بعد واقعة كربلاء
الشيخ باقر شريف القرشي
2023-08-31 05:35
لقد أثارت كارثة كربلا موجة رهيبة من القلق النفسي والانفعالات العميقة سيطرت على نفوس المسلمين، ودفعتهم إلى العمل السياسي والتكتل الاجتماعي للإطاحة بالحكم الاموي «والانتقام من السفكة المجرمين.
لقد كانت الارض تستعر حربا منذ قتل الحسين (1) فقد هبت الشعوب الاسلامية كالمارد الجبار وهي تعلن سخطها العارم على الحكم الاموي وتعمل على سقوطه، ومن بين هذه الثورات:
1 ـ ثورة عبد اللّه بن عفيف:
وهي أول ثورة في الكوفة بعد قتل الامام مباشرة، قام بها البطل العظيم عبد اللّه بن عفيف الازدي، فكان أول من أطلق شرارة الثورة وأحال النصر الكاذب الذي أحرزه ابن مرجانة الى هزيمة.
2 ـ ثورة المدينة:
والشيء المحقق أن الثورة في يثرب كانت امتدادا لثورة أبي الشهداء (ع) فقد كانت النفوس تغلي كالمرجل غيظا وحنقا على يزيد لانتهاكه حرمة رسول اللّه (ص) في قتله لعترته وسبيه لذراريه.
وقد أفعمت القلوب حزنا وألما حينما رجعت سبايا أهل البيت (ع) إلى المدينة وجعلت تقص على أهلها ما جرى على ريحانة رسول اللّه (ص) من عظيم الرزايا وفوادح الخطوب، وما عانته عقائل النبوة ومخدرات الوحي من الأسر والسبي.
لقد كانت شقيقة الحسين وحفيدة الرسول (ص) زينب تلهب العواطف للطلب بثأر أخيها.
وقد رأى اهل المدينة أن الخروج على يزيد واجب شرعي فخلعوا بيعته رسميا وأعلنوا الثورة على حكومته، وقد عهد يزيد الى المجرم الاثيم مسرف بن عاقبة المري باحتلال يثرب وضم إليه جيشا مكثفا قوامه اثنا عشر الفا من اهل الشام، وقد أمره أن يبيحها لجنده ثلاثة أيام يصنعون بأهلها ما يشاءون وينهبون من أموالهم ما يحبون.
وزحف مسرف بجنوده الى المدينة فاحتلها، وقد أباحها لجنده ثلاثة أيام فقتلوا ونهبوا واستباحوا كل ما حرمه اللّه، ثم أخذ البيعة من أهلها على أنهم خول ليزيد، ومن أبي ضربت عنقه، وقد حدثت من الرزايا في تلك الواقعة ما تذوب منه النفوس، وقد ذكر المؤرخون صورا مروعة ومحزنة مما حل بالمدنيين فكانت هذه الكارثة كفاجعة كربلا وقد دفعت الشعوب الاسلامية إلى التكتل السياسي للعمل ضد الحكم الأموي والاطاحة به.
3 ـ ثورة التوابين:
وندم أهل الكوفة أشد الندم على خذلانهم للامام وجعلوا يتلاومون على ما اقترفوه من عظيم الاثم وقد أجمعوا على اقرارهم بالذنب في خذلانه ولزوم التكفير عنه بالمطالبة بثأره وقد خاطب أحدهم ابنته فقال لها:
يا بنية إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه (2) وقد عقدوا مؤتمرا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، وهو شيخ الشيعة وصاحب رسول اللّه (ص) وذو السابقة والقدم في الاسلام، فقد تداولوا الحديث فيما بينهم ورأوا أنه لا يغسل عنهم العار والاثم الا بقتل من قتل الحسين (ع).
وقد القيت في قاعة الحفل عدة خطب حماسية وهي تدعو الى التلاحم ووحدة الصف للأخذ بثأر الامام العظيم، وكان انعقاد المؤتمر فيما يقول المؤرخون في سنة (61 هـ) (3) وهي السنة التي قتل فيها الحسين.
قرارات المؤتمر:
واتخذ المؤتمر بالإجماع عدة قرارات ومن بينها:
1 ـ انتخاب سليمان بن صرد قائدا عاما للثورة ليتولى وضع المخططات السياسية والعسكرية.
2 ـ مراسلة المناطق التي تضم الشيعة في العراق وخارجه واعلامها بما أجمعوا عليه من الأخذ بثأر الامام والمطالبة بالانضمام إليهم.
3 ـ تأجيل الثورة إلى مدة أربع سنين على أن تكون السنوات الأربع فترة تأهب واستعداد للقتال.
4 ـ أن تكون النخيلة هي المركز الرئيسي الذي تعلن فيه الثورة.
5 ـ احاطة الثورة بالسر والكتمان.
وتفرق اعضاء المؤتمر وكان عددهم فيما يقول المؤرخون مائة شخص وقد أخذوا يواصلون العمل فيجمعون التبرعات لشراء الأسلحة، ويدعون الناس إلى الالتفاف حولهم والانضمام إليهم.
اعلان الثورة:
وفي سنة (65 هـ) اعلن التوابون ثورتهم العارمة على الحكم الاموي وكان عددهم فيما يقول المؤرخون أربعة آلاف، وقد أرسل زعيم الثورة سليمان بن صرد الى الكوفة الحكيم بن منقذ الكندي، والوليد بن عصير الكناني وامرهما أن يجوبا في مدينة الكوفة ويناديا بشعار الثورة.
«يا لثارات الحسين»
وحينما انتهيا إليها ناديا بذلك، ولأول مرة دوى هذا النداء المؤثر في سماء الكوفة فكان كالصاعقة على رءوس السفكة المجرمين، كما كان بلسما لقلوب المؤمنين والمسلمين، وقد التحق قسم كبير من الناس بالنخيلة فخطب فيهم سليمان بن صرد خطابا مؤثرا، واعرب لهم أنه لا ينشد مغنما أو مكسبا، وانما يلتمس وجه اللّه والدار الآخرة، ويرجو أن يكفر اللّه عنه وعن اخوانه ما اقترفوه من عظيم الذنب في خذلانهم لريحانة رسول اللّه (ص).
في كربلا:
وصمم التوابون على المضي الى كربلا لزيارة قبر أبي الشهداء (ع) ليعلنوا التوبة الى اللّه عند مرقده.
وسارت كتائب التوابين إلى كربلاء فلما وصلوا إليها صاحوا صيحة واحدة «يا حسين» واغرقوا بالبكاء والنحيب، واخذوا يتضرعون الى اللّه ليتوب عليهم، ويغفر لهم، وقد قالوا عند ضريح الامام:
«اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق.
اللهم انا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم.
اللهم انا خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا فارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين، وانا نشهدك انا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه، وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» (4).
وازدحموا على القبر الشريف اكثر من الازدحام على الحجر الأسود وهم يبكون ويتضرعون إلى اللّه ليغفر ذنوبهم ويمنحهم التوبة، ثم رحلوا إلى الأنبار.
في عين الوردة:
وسارت كتائب التوابين حتى انتهت الى عين الوردة فأقامت فيها وزحفت إليهم جنود أهل الشام والتحمت معهم التحاما رهيبا، وجرت بينهما اعنف المعارك واشدها ضراوة، ومني الجيشان بخسائر كبيرة في الأرواح، واستشهد قادة التوابين كسليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة وعبد اللّه بن سعد وغيرهم.
ولما رأى التوابون أنهم لا قدرة لهم على مقابلة أهل الشام، تركوا ساحة القتال، ورجعوا في غلس الليل إلى الكوفة، ولم تتعقبهم جيوش أهل الشام، وقد مضى كل إلى بلده، وانتهت بذلك معركة التوابين، وقد ادخلت الفزع على الأمويين، وكبدتهم أفدح الخسائر.
4 ـ ثورة المختار:
والمختار من اشهر الشخصيات العربية التي عرفها التاريخ الاسلامي وقد لعب دورا خطيرا في الأحداث السياسية والاجتماعية في ذلك العصر كما كان من ألمع السياسيين في رسم المخططات ووضع المناهج، والسيطرة على الموقف، وقد اثبتت كفاءته أنه رجل الفكر والعمل، يقول بعض الكتاب عنه: «انه كان على جانب كبير من الدارية بعلم النفس والالمام بوسائل الدعاية والاعلام، فقد كان يخاطب عواطف الناس كما كان يخاطب عقولهم، وكان لا يكتفي بوسائل الدعاية المعروفة حينئذ كالخطابة والشعر بل لجأ إلى وسائل كثيرة للدعاية منها التمثيل والمظاهرات والاشاعات، كما لجأ إلى ما نسميه الآن بالانقلاب العسكري حينما انتزع الكوفة من ابن الزبير» (5).
وكان علما من اعلام الشيعة، وسيفا من سيوف آل رسول اللّه (ص) وكان يتحرق كأشد ما يكون التحرق ألما وجزعا على العترة الطاهرة التي أبادتها سيوف الباطل، وقد سعى جاهدا للاستيلاء على الحكم لا لرغبة فيه، وانما ليأخذ ثأر آل البيت وينتقم من قتلتهم.
وقد اتهم هذا العملاق العظيم باتهامات رخيصة كاتهامه بادعاء النبوة وغيرها من النسب الباطلة التي هي بعيدة عنه وهو بريء منها، وانما اتهموه بذلك لأنه طلب بثأر الامام العظيم، وزعزع كيان الدولة الاموية، وأسقط هيبة حكمها وساوى بين العرب والموالي، فلم يميز أحدا على أحد، وقد رام السير في أيام حكمه على ضوء منهاج سياسة الامام أمير المؤمنين عليه السلام، والاقتداء بسلوكه في سياسته الاقتصادية والاجتماعية.
وكان على جانب كبير من التقوى والحريجة في الدين، ويقول المؤرخون إنه كان في أيام حكومته القصيرة الامد يكثر من الصوم شكرا للّه تعالى على توفيقه للأخذ بثأر العترة الطاهرة، وابادته للأرجاس من السفكة المجرمين.
لقد ألصقوا بهذا العملاق العظيم التهم الزائفة للحط من شأنه والتقليل من أهميته، وانا بعد دراستنا لشؤونه رأيناه من أفذاذ التأريخ ومن اعلام الامة الاسلامية بما يملك من طاقات هائلة من الفضل والتقوى واصالة الفكر وعمق الرأي وحسن التدبير، قل أن يتصف بمثلها عظماء الرجال وعباقرة الدهر.. وكان بودي أن أطيل الوقوف للتحدث عن معالم شخصيته الكريمة، والتحدث عن ثورته وكيفية استيلائه على الحكم إلا ان ذلك يستدعي وضع كتاب خاص به، وعسى أن أوفق إلى ذلك ان شاء اللّه، وقبل أن اقفل الحديث عنه اشير على سبيل الايجاز إلى بعض الجهات التي تمت الى الموضوع.
فزع السفكة المجرمين:
وساد الرعب واستولى الخوف على نفوس السفكة المجرمين من قتلة ريحانة رسول اللّه (ص) فقد كانوا على يقين أن ثورة المختار انما قامت للانتقام منهم، فهام بعضهم من خوفه في البيداء ولم يعلم له خبر، وفر آخرون إلى عبد الملك ليحميهم من سطوة المختار وغضبه، وقد خاطبه شخص منهم قائلا:
ادنو لترحمني وترتق خلتي
وأراك تدفعني فاين المدفع (6)
وجاء إليه عبد الملك بن الحجاج التغلبي لاجئا فقال له:
«اني هربت إليك من العراق»
فصاح به عبد الملك بن مروان:
«كذبت ليس لنا هربت، ولكن هربت من دم الحسين وخفت على دمك فلجأت إلينا» (7).
كما هرب بعضهم إلى ابن الزبير وانضم إلى جيشه وقاتل معه لا ايمانا بقضيته ولكن خوفا من المختار، وقد عمد المختار إلى هدم دورهم والاستيلاء على جميع ممتلكاتهم، وقد هدم دار محمد بن الأشعث واخذ انقاضها وبنى بها دار الشهيد العظيم حجر بن عدي وكان قد هدمها زياد ابن أبيه (8).
وأما الخبيث الدنس عمر بن سعد فقد قبع في بيته فزعا مرعوبا، وهو يزج بالشخصيات للتوسط لدى المختار في أخذ الامان له والعفو عنه وكتب له المختار الامان بشرط أن لا يحدث حدثا ولكنه وارى في ذلك وأراد أن لا يدخل بيت الخلاء.
لقد ارعب المختار قلوب المجرمين من قتلة الامام حتى زلزلت الارض تحت أقدامهم واجتاحتهم موجات عاتية من الخوف والارهاب فلم يهنأ أحد منهم بعيش فقد خيم عليهم شبح الموت.
الابادة الشاملة:
وأسرع المختار إلى تنفيذ حكم الاعدام بكل من اشترك في قتل ريحانة رسول اللّه (ص) فقد جاهد على الانتقام منهم وتطهير الأرض من أولئك الأرجاس، وقد قتل منهم فيما يقول الطبري في يوم واحد مائتين وثمانين رجلا، ولم يفلت أحد من قادتهم وزعمائهم، فقتل المجرم الخبيث عبيد اللّه بن زياد، وعمر بن سعد مع ولده حفص، وقتل الابرص شمر بن ذي الجوشن، ورميت بجيفته إلى الكلاب، وقتل قيس بن الأشعث والحصين بن نمير، وشبث بن ربعي وغيرهم (9).
وقد استجاب اللّه دعوة الامام العظيم في اولئك السفكة المجرمين فقتلهم قتلة بقتلة، وسقاهم كأسا مصبرة، وانتقم منهم كأشد ما يكون الانتقام، وصدق اللّه تعالى اذ يقول: «وكذلك أخذ ربك إذا اخذ القرى وهي ظالمة ان أخذه أليم شديد» ويقول الزهري: لم يبق من قتلة الحسين أحد الا عوقب في الدنيا أما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة (10).
لقد حقت عليهم كلمة العذاب في الدنيا، وهم في نار جهنم خالدون، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن ثورة المختار التي هي من انبل الثورات واكثرها اصالة في الاسلام فقد استهدفت الأخذ بثأر العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم حسبما يقول الرسول (ص) كما استهدفت نشر المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس.
فتحيات من اللّه ورضوان على المختار يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
استمرار الثورة:
ولم يؤد القضاء على ثورة المختار من قبل ابن الزبير إلى ضعف الروح الثورية عند الشيعة، فقد كانت هناك ثورات أخرى فجرها احفاد الامام الحسين واحفاد أخيه الامام الحسن، فقد هب لمقارعة الظلم والجور الثائر العظيم زيد بن علي، واشعل نار الثورة من بعده ولده يحيى وهم ينادون بمبادئ الحسين ويطلبون بثأره، واستمرت الثورات حتى تدفقت الرايات السوداء مع طلائع الجيوش الاسلامية بقيادة أبي مسلم الخراساني فأطاحت بالعرش الأموي، وقضت على معالم زهوه وجبروته.