وجاهة الدارين في نصرة الإمام الحسين (ع)
الشيخ جاسم الأديب
2023-08-02 04:38
لا تكاد تخفى على أحد من المسلمين وجاهة أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) الذين صاروا مضرباً للمثل في بلوغ العلى والظفر بوجاهة الدارين بحيث إنّ حجة الله على الخلق أجمعين يشهد لهم برفعة الدرجة فيقول: إنّي لا أعلم أصحابا ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي. الإرشاد: 2/91.
وجاء في زيارة الناحية: (السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوَّأكم الله مبوَّأ الأبرار، أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومهَّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحق غير بطاء، وأنتم لنا فرطاء، ونحن لكم خلطاء، في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). المزار الكبير: 495.
وروي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خرج بالناس، حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيدي الناس حتى طاف بمكان يقال له (المقذفان)، فقال: قتل فيها مائتا نبي ومائتا سبط كلهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع وعشاق شهداء، لم يسبقهم ممن كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم. بحار الأنوار: 41/290.
وبلغ مقام أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقف أمامهم ويقول: السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ دِينِ اللّٰهِ، السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ رَسُولِ اللّٰهِ، السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ، السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ فاطِمَةَ الزّهْراءِ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمِينَ، السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ أبي مُحمّدٍ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ الوَفيِّ الزَّكِيِّ النّاصِحِ الوَلِيّ، السّلامُ عَليكُم يا أنْصارَ أبي عبداللّٰهِ، بِأبِي أنْتُمْ واُمِّي طِبْتُمْ وطابَتِ الأرْضُ الّتي فِيها دُفِنْتُمْ، وفُزْتُمْ فَوْزاً عَظِيماً، فَيا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكُمْ فأفُوزَ مَعَكُمْ [في الجِنانِ مَعَ الشُّهداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ اُوْلئِكَ رَفِيقاً، والسّلامُ عَليكُمْ ورَحْمَةُ اللّٰهِ وبَرَكاتُهُ. مصباح المتهجد: 2/723.
بالطبع لم يبلغ أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) هذه المقامات إلا لمعرفتهم بإمام زمانهم وشدّة تفانيهم به، فقد أبدع الأنصار في تسطير صور الفناء في سيدالشهداء (عليه السلام) ريثما سمعوا استنصاره قائلاً: من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى. كشف الغمة: 2/29.
وقبل بيان مواقف الأنصار الخالدة وتفانيهم في إمام زمانهم لابأس أن نذكر بعض الشهادات من أعدائهم في حقّهم ومن ذلك:
لما اشتد القتال بين العسكرين صاح عمرو بن الحجاج بعسكره - وكان من قادة جيش ابن سعد- فقال: أتدرون من تقاتلون؟
تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم، والله! لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم. إعلام الورى: 244.
وقال آخر: عضضت بالجندل، أنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يمينا وشمالا، تلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب بالمال، ولا يحول حائل بينها وبين المنية أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين، لا أم لك. نفس المهموم: 302.
أمّا صفات أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) التي تميّزوا بها عن غيرهم فهي:
البصيرة النافذة
لم يكن أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) كسائر من حضروا مع الإمام الحسين إلى كربلاء وتخلّوا عنه بمجرد أن دعاهم إلى تركه وقال: ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وذروني مع هؤلاء القوم حتى يفرج الله عني. اللهوف في قتلى الطفوف: 90.
بل كان أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) نافذي البصيرة ثابتي الأقدام في الدفاع عن إمام زمانهم، فلما تفرّق القوم عن الإمام الحسين (عليهم السلام) وصار كل منهم يأخذ بيد صاحبه انبرى الأصحاب بمواقفهم البطولية وظهرت بصيرتهم النافذة فأبوا أن يتخلّوا عن إمام زمانهم وكشفوا للعالمين عن بصيرتهم النافذة.
نُقل أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) خرج ذات ليلة إلى خارج الخيم حتّى أبعد، فتقلّد هلال سيفه، وأسرع في مشيه حتّى لحقه، فرآه يختبر الثّنايا، والعقبات، والأكمات المشرّفة على المنزل، ثمّ التفت إلى خلفه، فرآني، فقال (عليه السّلام): من الرّجل، هلال؟
قلت: نعم، جعلني اللّه فداك، أزعجني خروجك ليلا إلى جهة معسكر هذا الطّاغي.
فقال (عليه السّلام): يا هلال! خرجت أتفقّد هذه التّلاع، مخافة أن تكون مكنّا لهجوم الخيل على مخيّمنا يوم تحملون، ويحملون.
ثمّ رجع (عليه السّلام) وهو قابض على يساري، وهو يقول: هي هي واللّه، وعد لا خلف فيه.
ثمّ قال: يا هلال! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين من وقتك هذا، وانج بنفسك.
فوقع هلال على قدميه، وقال: إذاً ثكلت هلالا أمّه، سيّدي إنّ سيفي بألف، وفرسي مثله، فو اللّه الّذي منّ عليّ بك لا أفارقك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي. الدمعة الساكبة: 4/272-273.
وجاءه جون مولى أبي ذر يطلب الرخصة في القتال، فطلب منه الإمام الحسين (عليه السلام) الانصراف وعدم تعريض نفسه للقتل، فقال: إنّي في الرخاء ألحس قِصاعكم وفي الشدة أخذلكم، والله إنّ ريحي لمنتن وإنّ حسبي للئيم ولوني لأسود فتنفسْ عليّ بالجنّة، فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم، فما لبث هذا المولى الصادق حتى قتل بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) فجاءه الإمام ووضع خدّه على خدّه ودعا له قائلاً: اللهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد. مثير الأحزان: 33.
التفاني في نصرة الحسين (عليه السلام)
كان أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) متفانين في نصرة إمام زمانهم فبذلوا دونه الأرواح ورخصوا من أجله كل غالي وثمين، فكانوا يتسابقون إلى المنيّة ويأنسون بها كما يأنس الطفل بمراضع أمّه.
وقد ذكرنا وصف عمرو بن الحجاج إيّاهم لمّا قال لعسكره: أتدرون من تقاتلون؟
تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم، والله! لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.
وقال آخر: عضضت بالجندل، أنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يمينا وشمالا، تلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب بالمال، ولا يحول حائل بينها وبين المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين، لا أُمّ لك.
وقد صوّر الأنصار أعظم صور في التفاني في نصرة إمام زمانهم ومن ذلك:
قبل أن تبدأ المعركة صلّى الإمام الحسين (عليه السلام) بأنصاره وأهله فاغتنم الأعداء الفرصة وأخذوا يرشقون الإمام وأصحابه بسهامهم، وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره، ووقف ثابتاً كأنه الجبل لم تزحزحه السهام التي اتخذته هدفاً لها، ولم يكد يفرغ الإمام من صلاته حتى أُثخن بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه، وهو يقول بنبرات خافتة: اللّهم العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيّك منّي السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك.
والتفت إلى الإمام (عليه السلام) ليرى هل أدّى حقّه ووفى له بعهده قائلاً: أوفيت يابن رسول الله؟.
فأجابه الإمام شاكراً له: نعم أنت أمامي في الجنة. مقتل الحسين للخوارزمي: 1/246-247.
وتقدّم عابس نحو القوم بالسّيف، وبه ضربة على جبينه، وكان أشجع النّاس، فجعل ينادي: ألا رجل لرجل؟ فعرفه ربيع بن تميم الهمدانيّ، فقال: أيّها النّاس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم!.
فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة، فرموه من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثمّ شدّ على النّاس، فهزمهم بين يديه، ثمّ عطفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه. نهاية الإرب: 20/454.
وبلغ من تفاني نصرة الأنصار للإمام الحسين (عليه السلام) أنهم لم يقتصروا على نصرته أحياءاً بل نصروه أمواتاً، فلما صُرع مسلم بن عوسجة وسقط على الرمضاء وكان به رمق جاءه صديقه حبيب بن مظاهر، وقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير.
فقال له حبيب: لولا إنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمّك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.
قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله- وأهوى بيده إلى الحسين- أن تموت دونه.
قال: أفعل ورب الكعبة. مقتل الحسين للخوارزمي: 2/15-16.
وقد أشار الشاعر إلى هذا النوع من النصرة بقوله:
نـصـروه أحـيـاء وعـنـد مـمـاتهم-----يوصي بنصرته الشّفيق شفيقاً
أوصى ابن عوسجة حبيباً قال-----قاتـل دونـه حـتّـى الـحمام تذوقاً
التنافس في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)
لم يقتصر أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) على نصرة الإمام بل تنافسوا في ذلك وسطروا للعالم أعظم صور في التنافس في رخص الأرواح وبذل الغالي والنفيس في النصرة.
وقد سجّل التأريخ لنا عنهم أعظم صور التنافس في نصرة المعصوم (عليه السلام) ومن ذلك:
أولاً: التنافس في الخطاب: فقد تنافس الأنصار في خطابهم في نصرة ابن بنت نبي الله (عليه السلام) وقدّموا للبشرية خير تنافس في بيان نصرة الإمام.
فقد قال مسلم بن عوسجة الأسدي للإمام (عليه السلام) لما طلب منهم أن يتركوه، وقال: أنحن نخلّي عنك ولما نعذر إلى اللّه في أداء حقّك؟! أما واللّه! حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك، حتى أموت معك.
وقال سعد بن عبد اللّه الحنفي: واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فيك، واللّه لو علمت أنّى أُقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حيا، ثم أذر، يفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك؟
وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابداً.
وقال زهير ابن القين: واللّه لوددت أنّي قتلت ثم نُشرت، ثم قُتلت، حتى أُقتل كذي ألف قتلة، وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
وأتاه فتيان جابريّان وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ إنِّي لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريرَي عين. فقالا: واللّٰه ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك.
فقال: جزاكما اللّٰه جزاء المتّقين. الكامل: 3/292.
ثانياً: التنافس في المواقف: فلم يسمح الأنصار للهاشمين أن ينالوا شرف الشهادة بين يدي ابن بنت رسول الله قبلهم بل آثروا الشهادة والفناء قبلهم، وكما عن بعض المؤرخين: أنّ السيدة زينب (عليها السلام)، قالت: خرجت من خيمتي ليلة العاشر لأتفقّد الحسين وأنصاره، وقد أفرد له خيمة، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلو القرآن، فقلت في نفسي: أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده؟
والله لأمضين إلى أخوتي وبني عمومتي، وأعاتبهم بذلك، فأتيت خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة، فوقفت على ظهرها، فنظرت فيها، فوجدت بني عمومتي و إخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة، وبينهم العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسين (عليه السلام) مشتملة بالحمد والثّناء للّه والصّلاة والسّلام على النّبي (صلّى اللّه عليه وآله)، ثمّ قال في آخر خطبته: يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي، إذا كان الصّباح فما تقولون؟ فقالوا: الأمر إليك يرجع و نحن لا نتعدّى لك قولك، فقال العبّاس: إنّ هؤلاء، أعني الأصحاب، قوم غرباء والحمل الثّقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصّباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للموت لئلاّ يقول النّاس قدّموا أصحابهم، فلمّا قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة، فقامت بنو هاشم و سلّوا سيوفهم في وجه أخي العبّاس، وقالوا: نحن على ما أنت عليه.
فقالت السيدة زينب (عليها السّلام): فلمّا رأيت كثرة اجتماعهم، وشدّة عزمهم، وإظهار شيمتهم، سكن قلبي و فرحت، و لكن خنقتني العبرة، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين (عليه السّلام) وأخبره بذلك، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ونظرت فيها، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة، وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول: يا أصحابي، لم جئتم إلى هذا المكان؟ أوضحوا كلامكم، رحمكم اللّه. فقالوا: أتينا لننصر غريب فاطمة، فقال لهم: لم طلّقتم حلائلكم؟ فقالوا: لذلك.
قال حبيب: فإذا كان الصّباح فما أنتم قائلون؟
فقالوا: الرّأي رأيك، ولا نتعدّى قولاً لك؛ قال: فإذا صار الصّباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشميّا مضرّجا بدمه وفينا عرق يضرب لئلاّ يقول النّاس قدّموا ساداتهم للقتال، و بخلوا عليهم بأنفسهم، فهزّوا سيوفهم على وجهه، وقالوا: نحن على ما أنت عليه.
قالت زينب: ففرحت من ثباتهم. معالي السبطين: 1/340-342.
ثالثاً: التنافس في القتال: فقد تنافس أنصار الحسين (عليه السلام) في قتال الأعداء رغم قلّة عددهم وكثرة عدوّهم، وتركوا وراءهم خير نماذج عن التنافس في القتال من أجل إمام زمانهم.
ومن شواهد تنافس الأنصار في القتال هو تنافس أسرة وهب الكلبي في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) .
فقد نقل المؤرخون أنّ وهباً كان حديث عهد بالزواج ولما سمع استغاثة الإمام الحسين (عليه السلام) واستنصاره لبّى دعوته والتحق بعسكره هو وأُمّه قمر وزوجته.
فبعد أن قاتل وهب القوم وقتل منهم جماعة رجع إلى أُمّه، فوقف عليها، فقال: يا أمّاه أرضيت؟
فقالت: ما رضيت أوتقتل بين يدي الحسين (عليه السّلام)، فقالت إمرأته: باللّه لا تفجعني في نفسك، فقالت أُمّه: يا بني لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه.
وكان بين عرس وهب وبين يوم الطف سبعة عشر يوماً وكان يصعب على إمرأته فراقه، فقالت: يا وهب إنّي أعلم أنك إذا قتلت في نصرة ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) دخلت الجنة وضاجعت الحور فتنساني، فيجب أن آخذ منك عهداً بمحضر الحسين (عليه السّلام) في ذلك، فاقبل وهب وامرأته إلى الحسين (عليه السّلام)، فقالت: يا بن رسول اللّه لي حاجتان:
الأولى: إنّه إذا مضى عنّي وهب فأبقى بلا محام ولا كفيل فسلّمني إلى أهل بيتك.
الثانية: إذا قُتل وهب فيضاجع الحور فتكون شاهداً على أن لا ينساني.
فلمّا سمع الحسين (عليه السّلام) كلامها بكى بكاءاً شديدا، ثم أجاب سؤلها وطيّب خاطرها.
فبرز وهب إلى القتال فلم يزل يقاتل حتى قطعت قطعت يده اليمنى، فأخذ السيف بشماله فقطعت شماله، فأخذت إمرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين حرم رسول اللّه، فقال لها: كنت تنهيني عن نصرة الحسين (عليه السّلام) والآن جئت تحرضينني؟
قالت: لا تلمني يا وهب، فإنّي عفت الحياة وتركت الدنيا منذ سمعت نداء الحسين (عليه السّلام) وهو ينادي: وا غربتاه، وا قلّة ناصراه، وا وحدتاه، أما من ذابّ يذبّ عنّا؟ أما من مجير يجيرنا؟ قال وهب: ارجعي فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء، قالت: لن أعود أو أموت معك، ولمّا كان وهب قد قطعت يده أخذ طرف ثوبها بأسنانه ليرجعها فأفلتت منه، فاستغاث وهب بالحسين (عليه السّلام) وناداه، فقال الحسين: جزيتم من أهل بيتي خيراً ارجعي إلى النساء بارك اللّه فيك، فإنّه ليس عليكن قتال، قالت: سيّدي دعني فإنّ القتل أهون من الأسر في أيدي بني أمية، فقال (عليه السّلام): يصيبك ما يصيب أهل بيتي وحالك كحالهم، وردّها بلين الكلام، فانصرفت وجعل وهب يقاتل حتى سقط على الأرض.
فذهبت إمرأته تمسح الدم عن وجهه فبصر بها شمر فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها، وهي أول إمرأة قُتلت في عسكر الحسين (عليه السلام) .
ثم أُخذ وهب أسيراً فأتي به عمر بن سعد، فقال: ما أشدّ صولتك؟
ثم أمر فضربت عنقه، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين (عليه السّلام)، فأخذت أُمّه الرأس فقبّتله وقالت: الحمد للّه الذي بيض وجهي بشهادتك بين يدي أبي عبد اللّه، ثم قالت: الحكم للّه يا أمة السوء أشهد أنّ النصارى في بيعها والمجوس في كنائسها خير منكم، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به صدر قاتله فقتلته، ثم شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين، فقال لها الحسين (عليه السّلام): اجلسي فقد وضع الجهاد عن النساء، فإنّك وابنك مع جدّي في الجنة، فرجعت وهي تقول: إلهي لا تقطع رجائي، فقال لها الحسين (عليه السّلام):
لا يقطع اللّه رجاك يا أم وهب. ناسخ التواريخ: 2/386.
أقول: بعد كل هذه الصورة التي ذكرناها في وجاهة أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) في الدارين يلمع في النفس بصبص من معنى قول المعصوم (عليه السلام) في زيارة عاشوراء: اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين (عليه السلام)، فمن أراد أن يكون وجيهاً في الدارين فلا يقصّر في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، فما زالت صرخته الخالدة تدوّى في الآفاق: هل من ناصر فينصرني؟