أسباب الثورة الحسينية (1)
الشيخ باقر شريف القرشي
2022-08-04 08:08
وأحاطت بالإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) عدّة من المسؤوليات الدينية والواجبات الاجتماعية وغيرها، فحفّزته إلى الثورة ودفعته إلى التضحية والفداء، وهذه بعضها:
1 ـ المسؤولية الدينيّة:
وأعلن الإسلام المسؤولية الكبرى على كلّ مسلم عمّا يحدث في بلاد المسلمين من الأحداث والأزمات التي تتنافي مع دينهم، وتتجافى مع مصالحهم، فإنّه ليس من الإسلام في شيء أنْ يقف المسلم موقفاً يتّسم بالميوعة واللامبالاة أمام الهزّات التي تدهم الأُمّة وتدمّر مصالحها.
وقد أعلن الرسول (صلّى الله عليه وآله) هذه المسؤولية، يقول (صلّى الله عليه وآله): «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيته». فالمسلم مسؤول أمام الله عن رعاية مجتمعه، والسّهر على صالح بلاده والدفاع عن أُمّته.
وعلى ضوء هذه المسؤولية الكبرى ناهض الإمام جور الاُمويِّين، وناجز مخططاتهم الهادفة إلى استعباد الأُمّة وإذلالها ونهب ثرواتها.
وقد أدلى (عليه السّلام) بما يحتّمه الإسلام عليه مِن الجهاد لحكم الطاغية يزيد، أمام الحرّ وأصحابه قال (عليه السّلام):
«يا أيها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً؛ مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقّاً على الله أنْ يُدخله مدخله».
لقد كان الواجب الديني يحتّم عليه القيام بوجه الحكم الاُموي الذي استحلّ حُرمات الله، ونكث عهوده وخالف سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد صرّح جماعة مِنْ علماء المسلمين بأنّ الواجب الديني كان يقضي على الإمام أنْ ينطلق في ميادين الجهاد دفاعاً عن الإسلام، وفيما يلي بعضهم:
1 ـ الإمام محمّد عبده، وألمع الإمام محمّد عبده في حديثه عن الحكومة العادلة والجائرة في الإسلام إلى خروج الإمام على حكومة يزيد، ووصفه بأنّه كان واجباً شرعياً عليه، قال: إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطّله، وجب على كلّ مسلم نصر الأولى وخذل الثانية.
ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين (عليه السّلام)، سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) على إمام الجور والبغي الذي وَلِيَ أمرَ المسلمين بالقوّة والمنكر يزيد بن معاوية خذله الله، وخذل مَنْ انتصر له من الكرامية والنواصب (1).
2 ـ محمّد عبد الباقي، وتحدّث الاُستاذ محمّد عبد الباقي سرور عن المسؤولية الدينية والاجتماعية اللّتين تحتّمان على الإمام القيام بمناهضة حكم يزيد، قال:
لو بايع الحُسينُ يزيد الفاسق المستهتر الذي أباح الخمر والزنا، وحطّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات، وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم، والذي ألبس الكلاب والقرود خلاخل من ذهب ومئات الألوف من المسلمين صرعى الجوع والحرمان.
لو بايع الحُسينُ يزيد أن يكون خليفة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) على هذا الوضع لكانت فتيا من الحُسين بإباحة هذا للمسلمين، وكان سكوته هذا أيضاً رضى، والرضا من ارتكاب المنكرات ولو بالسكوت إثم وجريمة في حكم الشريعة الإسلاميّة. والحُسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية المسؤولة في الجزيرة العربية، بل في البلاد الإسلاميّة كافة عن حماية التراث الإسلامي لمكانته في المسلمين، ولقرابته من رسول ربّ العالمين، ولكونه بعد موت كبار المسلمين كان أعظم المسلمين في ذلك الوقت علماً وزهداً وحسباً ومكانة. فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤولية تناديه وتطلبه لإيقاف المنكرات عند حدّها، ولا سيّما إنّ الذي يضع هذه المنكرات ويشجّع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هذا أولاً.
وثانياً: أنّه (عليه السّلام) جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب، وجاءه ثلاثون ألفاً من الخطابات من ثلاثين ألف من العراقيين من سكّان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية، وألحّوا تكرار هذه الخطابات حتّى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الأزدي: يا حُسين سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلبِّ طلبنا وتقوم بنجدة الإسلام، وكيف والحُسين ذو حمية دينية ونخوة إسلامية، والمفاسد تترى أمام عينيه، كيف لا يقوم بتلبية النداء؟ وعلى هذا الوضع لبّى النداء كما تأمر به الشريعة الإسلاميّة، وتوجّه نحو العراق (2).
وهذا الرأي وثيق للغاية؛ فقد شُفّع بالأدلة الشرعية التي حمّلت الإمام مسؤولية الجهاد، والخروج على حكم طاغية زمانه.
3 ـ عبد الحفيظ أبو السّعود، يقول الاُستاذ عبد الحفيظ أبو السعود: ورأى الحُسين أنّه مطالب الآن ـ يعني بعد هلاك معاوية ـ أنْ يُعلن رفضه لهذه البيعة، وأنْ يأخذ البيعة لنفسه من المسلمين، وهذا أقلّ ما يجب؛ حفاظاً لأمر الله ورفعاً للظلم، وإبعاداً لهذا العابث ـ يعني يزيد ـ عن ذلك المنصب الجليل (3).
4 ـ الدكتور أحمد محمود صبحي، وممّن صرّح بهذه المسؤولية الدينية الدكتور أحمد محمود صبحي، قال:
ففي إقدام الحُسين على بيعة يزيد انحراف عن أصلٍ من أصول الدين من حيث أنّ السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلاّ بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام، ومن حيث أنّ اختيار شخض يزيد مع ما عرف عنه من سوء السّيرة، وميله إلى اللّهو وشرب الخمر ومنادمة القرود ليتولّى منصب الخلافة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكبر وزر يحلّ بالنظام السياسي للإسلام. يتحمّل وزره كلّ مَنْ شارك فيه ورضى عنه، فما بالك إذا كان المُقْدِم على ذلك هو ابن بنت رسول الله؟!
كان خروج الحُسين إذاً أمراً يتّصل بالدعوة والعقيدة أكثر ممّا يتّصل بالسياسة والحرب (4).
5 ـ العلائلي، يقول العلائلي: وهناك واجب على الخليفة إذا تجاوزه وجب على الأُمّة إسقاطه، ووجبت على الناس الثورة عليه؛ وهو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامّة، وإلاّ فأيّ تظاهر بخلافه يكون تلاعباً وعبثاً، ومن ثمّ وجب على رجل القانون أنْ يكون أكثر تظاهراً باحترام القانون من أي شخص آخر، وأكبر مسؤولية من هذه الناحية، فإذا فسق المَلِك ثمّ جاهر بفسقه وتحدّى الله ورسوله والمؤمنين لم يكن الخضوع له إلاّ خضوعاً للفسق وخضوعاً للفحشاء والمنكر، ولم يكن الاطمئنان إليه إلاّ اطمئناناً للتلاعب والمعالنة الفاسقة.
هذا هو المعنى التحليلي لقوله (عليه السّلام): «ويزيد رجل فاسق، وشارب للخمر وقاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق» (5).
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جماعة من العلماء في إلزام الإمام شرعاً بالخروج على حكم الطاغية يزيد، وإنّه ليس له أنْ يقفَ موقفاً سليباً أمام ما يقترفه يزيد من الظلم والجور.
2 ـ المسؤولية الاجتماعيّة:
وكان الإمام (عليه السّلام) بحكم مركزه الاجتماعي مسؤولاً أمام الأُمّة عمّا مُنِيَتْ به من الظلم والاضطهاد من قبل الاُمويِّين. ومَنْ هو أولى بحمايتها وردّ الاعتداء عنها غيره؟ فهو سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته، والدين دين جدّه، والأُمّة أُمّة جدّه، وهو المسؤول بالدرجة الأولى عن رعايتهما.
لقد رأى الإمام أنّه مسؤول عن هذه الأُمّة، وأنّه لا يجدي بأيّ حالٍ في تغيير الأوضاع الاجتماعية التزام جانب الصمت، وعدم الوثوب في وجه الحكم الاُموي المليء بالجور والآثام. فنهض (عليه السّلام) بأعباء هذه المسؤولية الكبرى، وأدى رسالته بأمانة وإخلاص، وضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه؛ ليعيد على مسرح الحياة عدالة الإسلام وحكم القرآن.
3 ـ إقامة الحجّة عليه:
وقامت الحجّة على الإمام لإعلان الجهاد، ومناجزة قوى البغي والإلحاد، فقد تواترت عليه الرسائل والوفود من أقوى حامية عسكرية في الإسلام وهي الكوفة، فكانت رسائل أهلها تحمّله المسؤولية أمام الله إنْ لمْ يستجبْ لدعواتهم الملحّة لإنقاذهم من عسف الاُمويِّين وبغيهم.
ومن الطبيعي أنّه لو لمْ يجيبهم لكان مسؤولاً أمام الله، وأمام الأُمّة في جميع مراحل التاريخ، وتكون الحجّة قائمة عليه.
4 ـ حماية الإسلام:
ومن أوكد الأسباب التي ثار من أجلها حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) حماية الإسلام من خطر الحكم الاُموي، الذي جهد على محو سطوره وقلع جذوره وإقبار قِيَمِه، فقد أعلن يزيد وهو على دست الخلافة الإسلاميّة الكفر والإلحاد بقوله:
لعبت هاشمُ بالملكِ فلا
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ
وكشف هذا الشعر عن العقيدة الجاهلية التي كان يدين بها يزيد، فهو لمْ يؤمن بوحي ولا كتاب ولا جنّة ولا نار، وقد رأى السّبط أنّه إنْ لمْ يثأر لحماية الدين فسوف يجهز عليه حفيد أبي سفيان ويجعله أثراً بعد عين، فثار (عليه السّلام) ثورته الكبرى التي فدى بها دين الله، فكان دمه الزاكي المعطر بشذى الرسالة هو البلسم لهذا الدين، فإنّ من المؤكد أنّه لولا تضحيته لمْ يبقَ للإسلام اسم ولا رسم، وصار الدين دين الجاهلية ودين الدعارة والفسوق، ولذهبت سدى جميع جهود النّبي (صلّى الله عليه وآله) وما كان ينشده للناس من خير وهدى.
وقد نظر النّبي (صلّى الله عليه وآله) من وراء الغيب واستشفّ مستقبل أُمّته، فرأى بعين اليقين ما تُمْنى به الأُمّة من الانحراف عن الدين، وما يصيبها من الفتن والخطوب على أيدي أُغيلمة مِنْ قريش، ورأى أنّ الذي يقوم بحماية الإسلام هو الحُسين (عليه السّلام)، فقال (صلّى الله عليه وآله) كلمته الخالدة: «حُسين منّي وأنا مِنْ حُسين»، فكان النّبي (صلّى الله عليه وآله) حقّاً من الحُسين؛ لأنّ تضحيته كانت وقاية للقرآن، وسيبقى دمه الزكي يروّي شجرة الإسلام على ممرّ الأحقاب والآباد.
5 ـ صيانة الخلافة:
ومن ألمع الأسباب التي ثار من أجلها الإمام الحُسين (عليه السّلام) تطهير الخلافة الإسلاميّة من أرجاس الاُمويِّين الذين نزوا عليها بغير حقّ، فلمْ تَعُدْ الخلافة في عهدهم كما يريدها الإسلام وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس، والقضاء على جميع أسباب التخلّف والفساد في الأرض.
لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بشأن الخلافة؛ باعتبارها القاعدة الصلبة لإشاعة الحقّ والعدل بين الناس، فإذا صلحت نَعِمَتِ الأُمّة بأسرها، وإذا انحرفت عن واجباتها فإنّ الأُمّة تصاب بتدهور سريع في جميع مقوّماتها الفكرية والاجتماعية، ومِنْ ثمّ فقد عنى الإسلام في شأنها أشدّ ما تكون العناية، فألزم مَنْ يتصدّى لها بأنْ تتوفّر فيه النزعات الخيّرة والصفات الشريفة من العدالة والأمانة، والخبرة بما تحتاج إليه الأُمّة في مجالاتها الاقتصادية والإدارية والسياسية، وحرّم على مَنْ فقد هذه الصفات أنْ يرشّح نفسه للخلافة،
وقد تحدّث (عليه السّلام) في أولى رسائله إلى أهل الكوفة عن الصفات التي يجب أنْ تتوفّر فيمَنْ يُرشِّح نفسه إلى إمامة المسلمين وإدارة شؤونهم، قال (عليه السّلام): «فلعمري، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله» (6).
فمَنْ تحلّى بهذه الصفات كان له الحقّ في تقديم نفسه لإمامة المسلمين وخلافتهم، ومَنْ لمْ يتّصف بها فلا حقّ له في التصدي لهذا المركز الخطير الذي كان يشغله الرسول (صلّى الله عليه وآله).
إنّ الخلافة الإسلاميّة ليست مجرّد سلطة زمنية على الأُمّة، وإنّما هي نيابة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وامتداد ذاتي لحكومته المشرقة. وقد رأى الإمام الحُسين أنّ مركز جدّه قد صار إلى سكّير مستهتر لا يعي إلاّ شهواته ورغباته، فثار (عليه السّلام) ليعيد للخلافة الإسلاميّة كيانها المشرق وماضيها الزاهر.