قِيَمُ النَّهضَةِ الحُسَينِيَّةِ وَنُهُوضُ القِيَمِ الإِجتِمَاعِيَّةِ
عبد الحسين السيد
2022-08-03 07:02
مقدمة واقعية
ما أحوجنا في هذا العصر لقيم عاشوراء، فكيف نستثمر عاشوراء الحقيقة، لتغيير عاشوراء الواقع، وكيف نقرأ عاشوراء التاريخ في نهضة الأمة في الحاضر، وكيف تساعد بل وتؤسس لنهضتها المعاصرة وبناء حضارتها المنشودة تلك هي المسألة التي يجب أن نعالجها في هذا الواقع المأزوم حقاً..
وعندما ذهبتُ أبحث عن مفاتيح النهضة الحسينية المباركة، فلم أجد إلا أبحاثاً مختصرة وأغلبها مكررة من هنا وهناك ويغلب عليها أقوال الخطباء الأجلاء من خدمة المنبر الحسيني الشريف، حيث يُلقون الأفكار كما يُلقون الورود والأزهار ليصنعوا ربيعاً في الأمة ولكن يتفاجأ الجميع أن الأمة مازالت في خريفها، وراحت تدخل في شتاء بارد قارس ويتساءلون بتعجب، وذهول: أين ذهبت بذورنا، وكل ما نثرناه من بذور الفكر والرؤى الحسينية الحضارة خلال قرون من التعب والملايين من الخطب؟
فتركتُ المفاتيح ورحت أبحث عن القيم الحضارية للنهضة الحسينية الشريفة، فكانت المفاجأة أكبر حيث أنني وجدت بعض الكتب القليلة والأبحاث المتناثرة هنا وهناك ولكن رغم قلتها تجدها مختصرة في جانب واحد هو الجانب الأخلاقي، والقيم الأخلاقية فقط، فوقفت حائراً وأتساءل مع نفسي: أليس عندنا هذا الكم الهائل من الكتب والمؤلفات والدراسات والأبحاث، عدا عن ملايين الخطب والمحاضرات، ويبقى هذا الجانب الحيوي والضروري جداً بل والحضاري أيضاً أنه بكر لم يقربه أحد إلا من بعيد، وبإشارات عابرة للأفكار من هنا وهناك؟
نعم؛ وهذا ما عزز الفكرة التي تدور في خلدي منذ أن عرفت الإمام الحسين (ع) كشخص وكشاخص، كإنسان وكإمام، وكقائد وكقدوة، وتعرَّفت على نهضته المباركة وكتبتُ وبحثتُ فيها طويلاً فوجدتها مازالت بكراً من كثير من زوايا وجوانب الفكر، وطرحت هذه المسألة على الأخوة والأعلام في إحدى الندوات الفكرية فتفاجأ البعض ولكن أُعجب منها وأثنى عليها وقال: فعلاً كلامك صحيح عاشوراء ما زالت بكراً، فقلت له: لأن الإمام الحسين (ع) ما دام مبدعاً، يُبدع لنا الأفكار والرؤى الحضارية في كل زمان ومكان وعبر الأجيال والعصور والدهور لأن الإمام الحسين إمام، وقائد، عابر للقارات، والأجيال لأنه مشروع الله في الأرض ليُنقذ العباد من الضَّلالة وحيرة الجهالة.
فالإمام الحسين (ع) ليس للشيعة، ولا حتى للمسلمين، بل الإمام الحسين للإنسان في كل زمان ومكان، فهو راية للإنسانية، وهو رسالة كونية، وعالمية، فهو إنسان الله، وولي الله، وخليفة الله في هذا الخلق ليُعيدهم إلى إنسانيتهم التي ينسلخون منها بين الفينة والأخرى، كما نجد ذلك واضحاً وجلياً في حضارتنا المادية الصفرية في القيم، والعملاقة في الفساد، فلولا الحسين (ع) ونهضته، وذكره، ومنبره، وشعائره لم يبقَ دين، ولا قيمة، ولا إنسانية فهو الواحة في صحراء هذه الحضارة الصفرية القاحلة من الفضائل والقيم والدِّين.
قيم النهضة الحسينية
وهنا رحتُ أفكر بالأساس الذي قامت عليه النهضة الحسينية المباركة، ورغم كل الحديث يكون عنها إلا أنها لم تتبلور في كتاب واحد، أو تنظَّم في خيط جامع لها يوحدها لتكون منهلاً عذباً وغديراً فكرياً حسينياً ينهل منه الجميع، فلكل بيت أساس يقوم عليه، ولكل فسطاط وخيمة أعمدة تقوم عليها، ولكل مبدأ، وعلم، وفكر أساسيات يقوم عليها ويتقوَّم على أساسها فما هي القيم الأساسية للنهضة الحسينية المباركة؟
هذا هو السؤال الذي أرَّقني في هذا الموسم العاشورائي، ومن عادتي أن أفرِّغ نفسي خلال هذه الأيام للشحن الروحي والنفسي والتَّطهير القلبي، والروحي والذاتي بالبكاء والحضور في أكثر ما يمكن من مجالس الذِّكر الشريفة للإمام الحسين (ع)، ولكن عندما رأيت هذه الثغرة الفكرية الواضحة في هذا البناء الحسيني الراقي، فرأيت أنه من واجبي أن أُنبِّه العلماء الأعلام والأساتذة الكرام، وأقف إلى جانب إخواني الخطباء والخدام للإشارة إلى ضرورة تلافي هذا النقص وترميم هذه الثغرة في هذا البناء الحسيني الحضاري، وهو كشف وتبيين الأسس الحضارية للنهضة الحسينية المباركة.
ولا نعني بذلك الجانب الأخلاقي فقط أيها الأحبة القيم الأخلاقية هي جانب اجتماعي واحد في أساسيات النهضة الحسينية، وليست هي كلها، فالنهضة الحسينية الشريفة كانت أشمل وأكمل وأكبر وأعظم من أن نقيدها بتقويم أو محاولة إصلاح لجانب اجتماعي واحد أفسده الزمان والسلطان الغشوم الظلوم، فهذا ظلم بحدِّ ذاته للنهضة الشاملة التي أرادها الإمام الحسين (ع) لنهضته الربانية، وقومته الإلهية التي انطلقت منذ أربعة عشر قرناً ولكن لم تنتهي ولن تنتهي إلا بالقيامة المظفرة لحفيده صاحب العصر والزمان (عج) الذي يقوم على اسم الله وتحت شعارات النهضة الحسينية، ولتحقيق الأهداف الكبرى التي ضحَّى من أجلها السبط العظيم سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، تلك الأهداف التي تشكل في الحقيقة القيم الكبرى للحياة، وهي القيم العظمى للنهضة الحسينية الإلهية، ولا نختصرها بالقيم الإجتماعية التي تشكل جانباً واحداً وإجرائياً منها، وتلك القيم الكبرى هي:
1- الدِّين الإلهي؛ فدين الله هو القيمة الكبرى لوجود هذه الحياة، وهو القيمة الأولى التي نهض الإمام الحسين (ع) من أجلها، (أقام الدِّين)، وهي التي بعث الله من أجلها 124 ألف نبي ورسول وهي هدف بعثة الرسول الأعظم (ص) في العرب بآخر سلسلة الدِّين، وأكمله وأتمَّه الله في يوم الغدير الأغر.
2- الكتاب الإلهي؛ وهو القرآن الحكيم الذي يجمع كل ما أنزل الله من السماء على جميع الأنبياء والرسل (ع)، وهذا الكتاب النوراني الذي أنزله الله تعالى لهداية البشر إلى الصراط المستقيم، وإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، وهذا القرآن هو قيمة كبرى من قيم الحق والحقيقة في هذا الكون، فهو كتاب الله التدويني بمقابل كتاب الله التكويني والإمام الحسين (ع) رأى بأم عينه وهو الإمام لأمة جده أن القرآن مهجوراً وإن استمر نهج بني أمية الأشقياء سيكون مقبوراً، فقام بنهضته لتثبيت القرآن الحكيم في الأمة.
3- الرسول الأعظم (ص)؛ وهو القيمة الذروة لبني البشر، فالله خلق الخلق وبسط الرزق كرامة ومحبة وتكريماً وتعظيماً لحبيبه المصطفى محمد (ص)، أول مخلوق في عالم النور وآخر نبياً مرسلاً في عالم الظهور، والعجيب الغريب أنه كانت أبغض العرب أو أحياء قريش إليه هم بنو أمية وبنو المغيرة، وعندما رآهم ينزون على منبره ساءه ذلك ولم يُر مستجمعاً ضاحكاً ستة أشهر حتى إلتحق بالرفيق الأعلى، لأنهم الذين حاربوه طيلة عمره الرسالي في مكة المكرمة، ثم لحقوه بحربهم وعداوتهم إلى المدينة المنورة، ولم يدخلوا الإسلام إلا مكرهين مجبرين مغصوبين، ولكن وصلوا إلى سدَّة الحكم والخلافة بعد اثني عشر سنة وهذا من أعجب العجب، ولكن عندما وصلت إلى ابن هند الهنود وراح يدفن الإسلام بكل جهده وجهاده حتى أوصى بها إلى خليفته الخرق النزق فكان لا بدَّ من القيام عليه لحفظ سيرة وسنة وذِكر النبي العظيم (ص) ومَنْ أحق بحفيده خامس أصحاب الكساء بحفظه في أمته، فقام بنهضته لحفظ السُّنة المطهرة والسيرة العطرة لرسول الله (ص) وهو القيمة التي لا تعادلها أي قيمة في دنيا البشرية لأنه الرحمة الإلهية لهم.
4-الولاية الإلهية؛ وهي القيمة العظمى التي يقف تحتها ويتفيَّأ بظلها كل القيم الدِّينية والإنسانية الأخرى لأنها الخيمة التي أرادها الله لخلقه أن تكون خيمة الروح والروحانية، وبناء المعنى والمعنوية لهم، وجعلها الله تقوم على اثني عشر عموداً بعدد نقباء بني إسرائيل لحفظ الدِّين، والقرآن، والسُّنة المطهرة من أن يعبث بها العابثون إلا أن هذه الأمة كانت كبني إسرائيل تماماً حيث تبعتهم (حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل)، وحتى بعضهم راح يعبد العجل ولكن ليس الذَّهبي الذي صنعه السامري، والإمام الحسين (ع) هو عمود أساسي من أعمدة تلك الخيمة وذلك الفسطاط الذي أراده الله جامعاً لكل رسالات السماء وحافظاً لأمانات الأنبياء، ومحققاً لأهدافهم ورسالاتهم وتأويلاً لكتبهم أيضاً في آخر الزمان، والإمام الحسين (ع) قام بنهضته لأنه رأى بني أمية يهدمون فسطاط الله فوق عباده، ويدمرون تلك القيمة الكبرى للولاية العظمى في هذه الحياة فقام قيامته ليقول لأهل العالم: فسطاط الله قائم، وأركانه ثابتة، وهو مستمر ودائم حتى ولدي الإمام القائم بالحق هادي الأمم ومهدي هذه الأمة (عج) وكل ما فعله ويفعله الأشقياء هو باطل ومحض هراء زائل.
5-الأمة الإسلامية؛ هذه القيمة الكبرى التي هي صاحبة المصلحة في النهضة الحسينية المباركة ولكن لم تفقهها ولم تعيها ولم تدركها وتعلم حقيقتها إلى اليوم للأسف الشديد لأنها سلبوا منها قرارها، ورأيها، وشخصيتها، ثم سلبوا كل شيء منها وساقوها سوق الأنعام إلى حيث يشاء أو يريد السلطان، أو الشيطان الرجيم، وهي إلى اليوم تُساق بعصى غليظة بيد السلطان ولكن باسم الدِّين، وأول ما يهدم ويحارب فيها الدِّين، فهي مخدَّرة، ومنوَّمة، وغائبة عن نفسها وقيمتها الحقيقية، فقام الإمام الحسين (ع) ليُعيد لها شخصيتها ووحدتها وكرامتها التي استلبتها السلطة الأموية وأرادتها عبيداً أرقاء لبني أمية، وكل مقدراتها بستاناً لهم يأخذون ما يشاؤون ويتركوا فُتاتهم لتعيش الأمة حياة الذل والمهانية، ولولا نهضة الإمام الحسين (ع) لصار يزيد الشر وصبيان النار والأوزاغ المروانية خلفاء الله في أرضه، بل كانوا يرون أنفسهم أعظم من ذلك كما سوَّل لهم شيطانهم الحجاج بن يوسف، وخالد القسري، والمغيرة بن شعبة وغيرهم من شياطين السلطة والطغيان المعروفين في التاريخ.
والإمام الحسين (ع) قام بنهضته ليقول لهم: كلا أمة جدي هي مَنْ تطيع الله فقط (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، مهما كان وأيٍّ كان فالعاصي هو العدو الذي يجب أن تقوم عليه الأمة كلها لتحفظ نفسها ووجودها وكيانها ومصالحها في هذه الحياة، فقيمة الأمة ووحدتها هي من القيم الأساسية للنهضة الحسينية الشريفة فمتى تعي الأمة له ذلك؟
6-الإصلاح الشامل؛ تلك هي القيمة التي طالما تحدثنا عنها، واستهلكت من أعزتنا خطباء المنبر الحسيني الشريف، وأجادوا وأبدعوا في بيانها، وتفصيلها وشرحها، وهي تنطلق من كلمة للإمام الحسين (ع) معروفة (إنما خرجت لطلب الإصلاح)، فجاءنا هذا العام مَنْ يُشكك فيها أيضاً ويقول: إنها من اختراعات ابن الأعثم، أخذها عنه شيخنا المفيد دون تحقيق أو تدقيق وجاءنا بعد عشرة قرون مدققاً لها ليخرجها من الثورة والنهضة الحسينية بفكره العملاق، ولكن حقيقة النهضة الحسينية هي الإصلاح العام والشامل في كل جوانب الحياة في الأمة الإسلامية وكانت تشمل:
- الإصلاح السياسي وعلى مستوى القيادة والخلافة والحكم..
- الإصلاح الفكري والثقافي والروحي (الديني)..
- الإصلاح الاقتصادي وإعادة الحقوق المسروقة إلى أصحابها من الأمة المظلومة.
- الإصلاح الأخلاقي الذي أفسدته الممارسات الأموية والقرشية من عودة إلى الجاهلية.
- الإصلاح العلمي؛ الذي أهملته الحكومات المتعاقبة لتخمد شعلة العلم في الأمة.
هذه النواحي الخمسة هي كلها تنضوي تحت راية الإصلاح الشامل التي خرج من أجلها الإمام الحسين (ع) وقام بنهضته المباركة لتحقيقها، وهي في الحقيقة صحيحة ولا غبار عليها وقد تناولها العلماء الأعلام والخطباء الكرام بالتفصيل والتحليل والتدقيق وأبدعوا مأجورين مشكورين على كل ما قدموه من زاد فكري إصلاحي لهذه الأمة بحيث حافظت على ألق النهضة الحسينية وسيرتها ومسيرتها في الأمة الإسلامية، وهو ما نسميه ونطلق عليه خلود النهضة الحسينية المباركة في الأمة وتناميها وتقدمها وتطورها.
كما أن هذه المعالجات الفكرية والعلمية طوَّرت كثيراً مسيرة النهضة وأوصلتها إلى العالمية كما نرى اليوم بحمد الله وفضله علينا وعلى الإنسانية، فالعالم يسير إلى الحسين (ع) بخطى حثيثة ويتقدم إليه في كل مكان لأن الحسين (ع) هدف إنساني وقيمة حضارية وجودية لبلورة وتحقيق إنسانية الإنسان وبناء حضارته المنشودة.
ولذا سنعالج هذه القيم الكبرى في سلسلة من المقالات المختصرة لتكون مجالاً جديداً للعلماء والباحثين الأفاضل لمزيد من الكشف والبيان عن تلك القيم الحضارية الكبرى للنهضة الحسينية الشريفة، ولا تبقى أسيرة جهة واحدة، أو تُختصر ببعض القيم الأخلاقية والممارسات الاجتماعية الراقية التي ظهرت في كربلاء كالوفاء، والولاء، والإيثار، والعطاء، والرحمة، والرأفة، والحياء، وغيرها من تلك المنظومة القيمية الأخلاقية التي طفحت بها عاشوراء القيم والأخلاق والفضائل..
أيها الأحباء
نهضة الإمام الحسين (ع) وقيامته كنهضة جده رسول الله (ص) وقيامته في مكة المكرمة قبل شهادته، والقيم الكبرى لنهضة الرسول الأعظم (ص) هي ذاتها القيم التي قام من أجلها الإمام الحسين (ع) وهي قطعاً لا تنحصر بالأخلاقيات الاجتماعية فقط، بل هي منظومة متكاملة من القيم التي تقوم عليها الحياة الإنسانية برمتها، هكذا يجب أن ننظر لنهضة الإمام الحسين (ع) لننقلها من الشيعية إلى الإنسانية، ومن كربلاء المقدسة إلى العالمية ببركة جهودكم وفكركم وقيمكم الحسينية المباركة..