المنبر الحسيني وتجديد المناعة الإيمانية
خطاب الشيخ فوزي آل سيف أنموذجا
عبد الحميد الحسني
2021-08-30 02:52
مدخل:
يعتبر التجديد الثقافي لأي مجتمع بمثابة التنمية المناعية لهويته والجرد المعتبر لحيثياته الأساسية الثقافية والمراجعة الموضوعية لذاكرته المعرفية، والمواسم الخاصة بكل مجتمع هي محل اهتمام المثقفين والمصلحين والعلماء والفاعلين الاجتماعيين كون هذه المواسم ذات رسوخ تاريخي وشعوري لدى أفراد ذلك المجتمع، والمجتمعات الإسلامية ليست بدعا عن بني البشر، حيث لديها مناسبات خاصة وذات أثر بليغ في صناعة الوعي وتجديده ونظم أمور المسلمين وملاحقة الاختلالات والانحرافات والمهددات الجوانية والبرانية وهذا ما نلمسه ونستشفه في موسم عاشوراء من كل سنة.
حيث يهفو المؤمنون من كل مذاهب الإسلام للنهل من موارد المنبر الحسيني وتحقيق أكبر قدر من المعرفة الجديدة والمواكبة لتحديات الواقع من خلال تفكيك المعضلات الفكرية والثقافية وفك طلاسم التحديات النفسية والاجتماعية والإعلامية المضادة للمرتكزات الدينية، وهذه التطلعات في المقابل لابد لها من معارف وحكمة وأدب ومشرط جراح ماهر في تفكيك حمولات الواقع وأيضا خطاب رصين لا يراوغ ولا يتهرب بل يتسم بالموضوعية والدقة المنهجية وبراءة الحجاج في نظم الأمر وإسناد الإشكالات والمشكلات إلى أصولها بلا مواربة أو استخفاف وإنما بكل رحابة صدر وثقة وعزم على الاجابة الجادة والكاملة دون الاستغراق في التاريخ وإنما عبر مقاربة معرفية لحمولات التاريخ بما يغني صحة ومصداقية الواقع نحو الرشد الفردي والوعي الاجتماعي بعيدا عن الشخصنة والجمود والعصبية والطائفية والعجب المعرفي.
هذا النسق الثقافي في الموسم العاشورائي له أهله ومن خلال متابعتي كل سنة للمحاضرات وخاصة هذه السنة تشكلت لدي معرفة بتطور ملحوظ على مستوى الخطاب الثقافي للمنبر الحسيني، وهذه المعرفة في الأصل تعود لعدة عقود لكن خصوصيتها هذه السنة ترتبط بمادة الخطاب ومنهجه وآفاقه وأخلاقه، فالأدب الأخلاقي يعكس الكلمة الطيبة الحاملة للقيمة المعرفية والمنهج الرصين والنقاش المسؤول والتطلع الايماني في رفد إنسانية المسلم وغيره بثقافة الإسلام الشامخة.
وعلى ضوء ما تقدم ستكون لي مقاربات وقراءات لخطاب أحد الخطباء والذي يعتبر رائدا من رواد المنبر الحسيني في الزمن المعاصر، ممن لامست خلال عقد من الزمن دقة عالية في اختياره المواضيع ومناقشتها وتحليلها ومدى تقريرها للمؤمنين بلغة علمية نقدية وتجديدية وصيغة أخلاقية عالية اقل ما يقال عنها أنها مسؤولة وسليمة بحيث تغني العقل والقلب والحركة في إنسانية المهتم بمنظومة الإصلاح الحسيني الخالد..
الشيخ فوزي آل سيف ونهج تجديد الخطاب:
المتابع لنتاج الشيخ فوزي آل سيف يدرك مدى تركيزه على البناء المعرفي للمتلقي من جهة وتنمية المسؤولية الثقافية الرشيدة من جهة ثانية، وهنا يكمن سر الخطاب الناجح حيث يبقي الخطيب مساحة للمستمع مساحة التفكر والتساؤل ضمن إطار منهجي متوازن، حيث اتسمت محاضرات هذه السنة بطابع تأملي تحليلي رصين في فك طلاسم العديد من الشعارات الثقافية الحداثية وغيرها التي يتم تداولها من العديد من المثقفين الدينيين والعلمانيين المناهضين لكل ماهو ديني، معتمدين في ذلك النقد خطابا بمفردات أكاديمية واستخدام المسائل الحساسة والغامضة لدى العامة لفتح النقاش حولها عبر التوسل بما يتناسب وتوجيه الأنظار لما يرونه حقيقة وينطلقون من منهج التشكيك المعتمد في فلسفة الدين لدى الآخر الديني غير المسلم كالمسيحيين أو اليهود وأصحاب الأديان الوضعية وفلسفات الإلحاد عبر التاريخ.
ولخطورة هذا النهج الثقافي على العقائد والأخلاق والأمن الثقافي للمجتمع المسلم، خصص الشيخ فوزي آل سيف أكثر من ٦ محاضرات في كشف زيف الادعاءات وقدم نماذج في بقية المحاضرات تقريبا لأبعاد هذا التحدي الثقافي وأهدافه في ضرب الصحة العقيدية للشباب والشابات في عالمنا العربي والأخطر فتنة الأسر والمجتمع ككل ومحاولة تمزيق قيمه وتماسكه الأخلاقي والتكاملي، حيث أذكر عدة نقاط جدا مهمة ناقشها الشيخ آل سيف مناقشة جدا دقيقة على سبيل المثال لا الحصر:
١. محاضرة نموذجية عن تاريخ الولاء بإندونيسيا
٢. مقاربة مسألة تاريخ المعصومين عليهم السلام وتاريخ أحداث عاشوراء والقضية المهدوية
٣. التأكيد على المسؤولية عن أصول الوعي الديني اسريا ومجتمعيا..
٤. الفصل بين حقيقة الإيمان وادعاءات تفكيك الفهم الديني وما يرافقه من انتقاء وتزييف للمعارف الدينية وتسقيط البديهيات بمسرحيات اعلامية ومهاترات شخصانية
٥. تركيز الهدف الأخلاقي في التدين المؤسس على ثقافة دينية سليمة عبر مقاربة ماهية نيل جائزة الجنة..
٦. تجاوز مهاترات الفلسفة النسوية عبر عرض معالم البيت الحسيني وتنوير نساء المسلمين من خلال أنموذج اخوات الإمام الحسين عليه السلام..
تجديد الخطاب بين الراهن والمستقبل:
استطاع الشيخ فوزي آل سيف بخبرته وسعة الفقه المعرفي والثقافي لديه مع حكمته في إدارة مسائل الخلاف، أن يمحص احد اهم وأخطر التحديات الثقافية المهددة للأمن العقائدي لدى إنساننا العربي والمسلم، فإشكالات سرطان الإلحاد الجديد قد نخرت عقول ونفوس العديد من شبابنا، حيث مؤخرا كما تم تداوله عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عرفت سلطنة عمان عدة نقاشات في جلسات حوارية عبر تطبيقات زووم وغيره حول مواضيع حساسة وخطيرة على الامن المجتمعي وذات علاقة الإلحاد الجديد والنسوية الجديدة، ولعل ذات الافتعالات بإسم النقاش الثقافي والتجديد والثورة المعرفية تشهدها العديد من البلدان العربية والإسلامية مما ينذر يفتن وانحرافات وظواهر سوسيوثقافية تعبث بالاستقرار وتفتعل المشاكل التي تهدم الأسر والقيم عروة عروة.
لكل هذا وغيره من رهانات ضحايا الاستغراق في فلسفة الشك ممن اهتزت عقيدتهم وتفسخت أخلاقهم واخذتهم العزة بالإثم ببلاد الغرب ويحاولون جاهدين إلى فرض خياراتهم مع ادعاء ملكية الحقيقة المطلقة وانهم دعاة الحوار العلمي بينما واقعهم غير ذلك وعلى ذات نهج الشيخ آل سيف ودون شخصنة الظاهرة، هذا التزييف الثقافي الذي بدأ يكتسح مجالنا العربي والإسلامي منتهزا مؤخرا جائحة كورونا.
محاضرات الشيخ آل سيف هذه السنة وعلى ما أذكر قبل بضع سنين، اشتملت على تحذير سماحته من موجة الإلحاد القادمة عبر الشبكة العنكبوتية وحرب الجيلين الرابع والخامس ومناورات المشككين التي تستهدف استنزاف الطاقات العلمية وتحريف الحقائق والتدمير النفسي وغسل الأدمغة بمشاريع الاستدمار الثقافي، والاهم في برنامج الشيخ فوزي لهذا الموسم العاشورائي انه فتح باب النقاش على مصراعيه واخرج الجدال من العموميات التي تخدع الكثيرين واستل خيوط التفاصيل حيث تسكن الأفكار الميتة والقاتلة والمشاريع الشيطانية، مما يستدعي تخطيط منهجي في خطاب المنبر الحسيني وخطب الجمعة في الفترة المقبلة لأن سطوة دعاة الإلحاد الجديد في ظل شبه صمت الخطاب الديني يوحي للجماهير أن قضيتهم ناجحة مسبقا، بينما حال المسلمين يختصر في كون الإسلام الاصيل وضمنها الرسالة الحسينية قضية ناجحة تحتاج لمحامين حكماء وعقلاء وعدول وخبراء استراتيجيين..
خاتمة وتوصيات:
ان الخطاب الديني خطاب حساس ويحتاج لدقة في كل تفاصيله وابعاده واهدافه، لذلك لابد من ضبط محددات ومواصفات وأخلاقيات للمتصدي في الوسط الديني وخطابه، كون الخطاب بإسم الدين يهدف لتركيز الثابت المشترك بين أبناء الأمة الواحدة عبر لغة ونهج الاعتدال والوسطية والتسـامح وتمكين القـيم الإنسانية المشتركة على الحساسيات والشكوك والمصالح الضيقة، هكذا خطاب أهل لدحر الفتن والدسائس والمشاريع الطائفية في مهدها وكفيل بتفكيك الخلافات بين تنوعات الأمة، كما أنه يؤسس لوحدة الرؤية على أساس الثابت الديني المشترك ومناقشة المتغير والمختلف على ضوء المعرفة والأخلاق..
على ضوء ما سبق ومن خلال تحليلنا الوصفي لتجربة الشيخ فوزي آل سيف، وما نلمسه في خطاباته المتوازنة والموضوعية والهادفة، نشير الى ان عملية تجديد الخطاب المنبري:
1. عملية شاملة تتضـمن تجديده على مستوى الآليات والإدارة والمحتوى (الخطاب الرسالة) ودقة إختيار المتلقي.
2. هناك حاجـة كـبيرة وضرورية لوعي القائمين على المنبر الحسيني أهمية الإلمام ببرامج الامن الفكري واهميتـه والالتفات الى تضمين مقومات الامن الفكري في مضامين المحاضرات ومناهج الطرح وملاحقة المستجد ثقافيا ومعرفيا وفلسفيا وعلميا..
3. الانتباه الى ان سلبيات الخطاب الإنفعالي من ناحية ومن ناحية أخرى الخطاب التسويقي دون تخطيط أو معرفة بحيثيات الموضوع، لأن الجمهور متنوع وفيه متخصصين ممن يمكن الاعتماد عليهم استشاريا في صناعة المادة الإعلامية القوية والخلاقة للوعي..
4. تلافي ضيق الافق ومحدودية الرؤية والتركيز على اللحظة الحالية بعيدا عن فقه المستقبل، لأن الكلمة مسؤولية ورسالة، فلابد من ضبطها زمنيا كما تضبط لغويا وعلميا ومنهجيا..
5. تنقية المنبر الحسيني من الخطباء والمتصدين من الـذين يظهـر لديهم تلون خطابي مما قد يشوه مبادئ النهضة الحسينية التي نسعى جميعا لترسيخها مجتمعيا. عبر تطوير إدارة الحسينيات وتشجيع العمل المؤسسي ضمن فرق عمل متخصصة وخاصة فريق عمل إعلامي وعلمي يشرف عليه الخطيب..
نختم بالتأكيد والتركيز على التعامل العقلاني الـذي يستهدف تصحيح الاختلالات الإدارية والثقافية والاجتماعية من خلال تجديد ثقافة الشورى في اشـاعة النهج الحسيني بالصورة الحقيقية لا تلك الملوثة بالأمراض النفسية والمصالح الضيقة، لأن الإصلاح في الأمة بحاجة لوعي واخلاق وتواصل بين العاملين من أجل مواجهة التحديات العقيدية والأخلاقية والاجتماعية والله المستعان..