الشعائر الحسينية بين العقل والعاطفة

محمد علي جواد تقي

2021-08-17 11:49

"أنا قتيل العَبرَة، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى"

الإمام الصادق، عن الامام الحسين، عليهما السلام، (كتاب كامل الزيارات)

ربما يكون المنادون بـ "العقلانية" في التعامل مع قضايا الامام الحسين، عليه السلام، محقّين في ملاحظاتهم إزاء بعض المراثي ومظاهر الحزن في شهري محرم الحرام وصفر الخير، منطلقين من نواياهم الحسنة لايجاد المصاديق العملية للثقافة الحسينية في الواقع الاجتماعي، لأن بعض الاعمال المدرجة تحت لافتة "الشعائر الحسينية"، تدفع باصحابها الى نوع من السلوك الخارج عن العقل الذي نعرّفه –من جملة تعريفاته- "بوضع الشيء في محله"، ومن ثمّ ركوب المشاعر والعواطف الى درجة تقطع علاقة التواصل والتفاهم بين أولئك وهؤلاء، حتى من باب النصح والإرشاد لزلات في القول والعمل، ولكن؛ لن يكون هذا مبرراً مطلقاً لإلغاء المشاعر والعواطف من مشروع إحياء مصاب الامام الحسين، وهو مشروع نعده حضارياً بامتياز، والتعكّز على العقلانية في فهم الأمور.

العاطفة سبيل الى العقل والإيمان

لا مراء في أن كل مظاهر العقل مرغوبة ومحببة في النفوس، فهي مدعاة للإتزان، والرصانة، والالتزام بالنظام والقانون، والثبات، بيد أن كل هذا يجب ان يمرّ عبر النفس البشرية المليئة بالمشاعر والاحاسيس، وهي مدعاة للمرونة والليونة والعاطفة في معناها اللغوي "الميل والقُرب"، واذا لاحظنا مسيرة البناء الانساني في ضوء القرآن الكريم، نجد امامنا منهجاً تربوياً متكاملاً للأخلاق والآداب، وكل من شأنه تقويم المشاعر وتوجيهها الوجهة الصحيحة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، وحتى العلاقة بين الانسان وربه، بينما جاءت الآيات المحركة للعقل باتجاه العقيدة وإثبات التوحيد، لنفي كل التصورات نحو وجود عوامل وأيادي دخيلة في خلق الكون والطبيعة غير الله –تعالى- وايضاً؛ لتأكيد القوانين (السُنن) الإلهية في الحياة، ولتكون القاعدة المعرفية الرصينة غير القابلة للتغيير في المنظومة الفكرية للانسان فيما اذا اراد رسم خارطة طريق له نحو الايمان بالله وبرسالاته.

ولمن يتابع الآيات الكريمة الخاصة بالنظام الاجتماعي والأسري يجد خطابات غاية في الروعة البلاغية والتربوية تجعل الانسان ينساب نحو الايمان بشكل عفوي.

مثالٌ من السلوك الاجتماعي في الآية الكريمة بكراهة مخاطبة البعض للنبي الأكرم آنذاك من خلف جدار داره بأن يخرج اليهم، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، ولم يقل القرآن جميعهم لا يعقلون، وهي الحقيقة، بيد أن الخطاب حاول التبعيض لئلا تتعمم الحالة السلبية على الجميع، ويكون ثمة طريق لتجاوز هذه العادة السيئة، وهو ما وصفه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي بـ "أدب القرآن الكريم".

ومن السلوك الفردي والعلاقة الأسرية، يوصي القرآن الكريم الأبناء بالوالدين بأن {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فكون الوالدين أو احدهما مشركاً او ليس على الطريق الصحيح، لن يكون مبرراً في عدم البرّ والتعامل الايجابي احتراماً لمشاعر الأبوة والأمومة، والآية الكريمة واضحة في إيكال أمر الحساب والجزاء الى الله يوم القيامة.

وبما أن أهل بيت رسول الله هم صنوّ القرآن الكريم، والامام الحسين، ترجمان القرآن ومن تجلياته العظيمة، فانه، عليه السلام، اتبع هذا المنهج القرآني –السماوي في التعامل مع الناس، وايضاً مع أهل بيته وهو يعد العدّة لخوض أقسى مواجهة دامية في التاريخ، فقد اختبر النفوس والقلوب والمشاعر واستجلاها بشكل تام ليكون القتال بين يديه عن ايمان نابع من الأعماق، وليس لقلقة لسان، او قناعة بفكرة معينة او موقف او قول، فكانت البداية في الاصحاب الذين كانوا جميعاً يعتقدون من الناحية العقلية أنهم يسايرون إماماً معصوماً مفترض الطاعة، و ذو منزلة ومكانة عظيمة في الامة، بيد أن الامام الحسين وضع كل هذه القناعات على محك القلب لتظهر المعادن الحقيقية، حتى إنه استجلى مشاعر ابن أخيه الحسن المجتبى، القاسم، عليهما السلام، بالسؤال: "كيف الموت عندك"، أجاب: "فيك يا عمّ أحلى من العسل"!

إن الكتب والعهود والمواثيق وأشباهها تمثل مفردات العقل، وقد احتج بها الامام الحسين على أهل الكوفة وشيوخها، لكن المشكلة كانت في بواطن النفوس، فقد كانت مشاعر الجُبن، والميل الى المال والامتيازات والمناصب أقوى من العقل فراح ضحية النفوس المريضة والقلوب المشككة، ولكن! خرج من هذا الاختبار العسير شخص واحد هو؛ الحُر، الذي كشف للإمام الحسين وللعالم أنه كان سليم الطوية، نظيف القلب، فلم يعبأ بالموازين العسكرية والمنطقية وانطلق الى حيث من المستحيل أن يرى من حوله أو يستشعر بحواسه ما سيؤول اليه مصيره بعد استشهاده مع الامام الحسين، كما لم يدركوا بالمرة مآلاتهم المأساوية والمريعة.

العقل ما قبل المعركة والعاطفة ما بعد المعركة

الحالاتان موجودتان في تراثنا الحسيني، تجسدها الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها، فمن يتحدث عن العقل فهو يستذكر مرحلة ما قبل الواقعة، من انطلاق قافلة الامام الحسين من المدينة، ثم الى مكة، وكيف أن الامام أراد لفت أنظار الحجاج الى قضيته الحق عندما حلّ إحرامه وغادر الديار المقدسة لإثارة دفائن العقول، ومن ثم إرسال سفيره وابن عمه الى الكوفة؛ مسلم بن عقيل، لمتابعة أمر البيعة وتهيئة الارضية الاجتماعية والسياسية لقدومه، ومن ثمّ ما جرى من تحولات هائلة وانقلاب كامل في الرأي على الامام الحسين، وحتى اللحظات الاخيرة كان الإمام يحاجج أهل الكوفة بالعقل والمنطق والبراهين التي بأيديهم وأنه آخر ابن بنت نبي في هذا العالم، وغيرها من المحاججات القوية.

أما عندما وقع السيف بين اصحاب الامام الحسين وجيش بن سعد، بدأت مرحلة جديدة من النهضة الحسينية، بخطاب من نوع آخر لا مجال فيه للعقل والمنطق، بغير الاستغاثات، والتظلمات، ومشاهد قسوة القلب، والدموية، والغدر، ولا أدلّ من لحظة ظهور الامام الحسين أمام المعسكر الأموي حاملاً طفله الرضيع يطلب له شربة من الماء، ثم حصل ما حصل للرضيع من وصول سهم حرملة الى نحره بدلاً من الماء الى فمه!

إن فلسفة الشعائر الحسينية منذ نشأتها لتجسيد بعض ما جرى على الامام الحسين في تلك الواقعة الرهيبة، كوننا نجهل الكثير الكثير مما جرى عليه، وعلى أهل بيته بسبب شحّة الروايات التاريخية، وتنكّر المؤرخون لما جرى في كربلاء. ولذا نجد أن اللطم على الصدور، او جلد الظهور بالسلاسل الحديدية، الى جانب البكاء، وايضاً مشاهد التشبيه لرموز الواقعة مثل؛ أبي الفضل العباس، او القاسم، او قافلة السبي وغيرها، وايضاً إجراء مشاهد تمثيلية لأفراد ورموز جيش عمر بن سعد، كلها محاولات عاطفية لإحياء التاريخ وتجسيده بشكل مستمر أمام أنظار الناس على مر الزمن، ومن ثمّ إثارة مشاعر الحزن على ما جرى، فأول ما يتحرك في الانسان مشاعره وأحاسيسه قبل عقله، وهذا ما أدركه جيداً الأئمة الاطهار في الحثّ على استذكار مصاب الامام الحسين بالنياحة والشعر والبكاء، فانطلقت المجالس الحسينية، وانطلق الشعراء لنظم قصائد الرثاء منذ الايام الاولى لاستشهاد الامام الحسين، وهي خطوة –من الناحية الحضارية- تُعد استباقية ومتقدمة في طريق الإسهام في بناء الانسان فكرياً ونفيساً، عبر العقل والعاطفة.

فكما أن الأئمة دعوا الناس للبكاء والنحيب، فان الامام السجاد، عليه السلام، كان يعرّف الناس بالحقائق المغيبة، ويكشف زيف الدعاية الأموية، لإعادة صياغة الفكر والثقافة لدى الأمة، ولتحكم عقلها فيما تسمع وترى وما اذا كان مطابقاً لقيم ومبادئ السماء، وما جاء به رسول الله، وما ضحى من أجله الأئمة المعصومون، فلا نجد في أي مقطع تاريخي من حياة الأئمة فصلاً بين الجهد العقلي لإحياء قضية الامام الحسين، والجهد العاطفي لإحياء مصابه ومصاب أهل بيته.

ولعل هذا ما يؤكده سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه "الامام الحسين.. عظمة إلهية وعطاء بلا حدود"، عندما يجعل الدين محور الشعائر الحسينية، ومحور لكل نشاط وعمل لإحياء النهضة الحسينية، "إن الشعائر الحسينية جزءٌ من شعائر الله –تعالى- أو يمكن القول أنها من أهم شعائر الله، فليس للإمام الحسين وجود غير ما يدل على وجود الله –تعالى- ولا هو بمعزل عن دينه –سبحانه، وقد فدى بنفسه وكيانه وكل ما يملك لله –تعالى-".

هذا الطريق الطويل من العاطفة الى العقل ومن ثمّ الى "ما يدلّ على الله"، هو ما نشهده اليوم، وعلى مر التاريخ، والى يوم القيامة، من مشاركات وفعاليات، وحتى ابتكارات شتّى لإحياء مصاب الامام الحسين، والإبقاء على هذه الحرارة في النفوس والقلوب.

ومن هذه المشاركات والفعاليات التي لا تروق للبعض لاسباب تعنيهم، نجحت تجارب عظيمة للتغيير والتحول لمن يستبعد تحولهم الفكري والعقدي، من الباطل الى الحق، ومن الضلال والانحراف الى الرشاد، لتبقى مشاهد الشعائر الحسينية ميداناً واسعاً للسعي نحو التغيير كلٌ حسب مؤهلاته النفسية، وقدراته الذاتية على الاعتراف بواقعه الخاطئ ثم تغييره بالكامل. ولكن! بشرط إفساح المجال للجميع لخوض هذه التجربة دون استثناء، ما دامنا نتحدث عن البعد الانساني للقضية الحسينية، وأنها تفوق الاطار الديني والطائفي، وأذن؛ لتفوق الاطار الاجتماعي والاطار الذهني والذوقي والاحتكام الى معايير لا علاقة لها بالنهضة الحسينية تسوق البعض الى التشكيك والإلغاء بما يضرنا أكثر مما ينفعنا.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي