مُسْلِمُ بنُ عَقِيل سَفِيرُ الْحَضَارَةِ الحُسَينِيَّة
الْمَسِيرَةِ الْحُسَيْنِيَّةِ: فِي الْكُوفَةِ وَعُرُوجُ أَوَّلُ شَهِيدٍ فِيهَا
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-08-31 07:17
مقدمة تاريخية
الكوفة هي تلك المدينة التي اختطها قادة جيوش المسلمين لتكون مجمعاً لجيوشهم للاستراحة في طريق إكمال مهامهم العسكرية الملقاة على عاتقها من قبل السلطات الحاكمة في المدينة المنوَّرة، قالوا: "أسسها سعد بن أبي وقاص كمعسكر، عام 638م، بعد معركة القادسية زمن خلافة عمر بن الخطاب بالقرب من مدينة الحِيرة، حاضرة المناذرة. (عاصمتهم)، وقد دُمجت المدينتان عام 691م في عهد عبد الملك بن مروان، وكانت تسمى قديماً ب (كوفان)، و(كوفة الجُند)، ثم أُطلق عليها اسمها (الكوفة) وهي المعروفة بها إلى يومنا الحاضر.
في رجب سنة 36 هـ حين شرفها الإمام علي بن أبي طالب (ع) حيث جعلها عاصمة الخلافة والدولة الإسلامية، فغيَّر في الأقسام القبلية للكوفة وأجرى بعض التنقلات بين القبائل وحفر فيها بئراً ليس هنالك أعذب من مائها.
وفي عهد المغيرة بن شعبة (ت سنة 50 هـ) بُنيت جدران بيوتها باللبن، وفي عهد زياد بن أبيه (ت سنة 53 هـ) شُيِّدت بالآجر، وأول ما شيَّد أبواب الدُّور، وأول دُور نهضت كانت بشارع كندة، وأول شيء اختطه أبو الهياج الأسدي في الكوفة مسجدها في وسطها على بعد 1.5 كم من الفرات، وحفر خندقاً عليه، وبنى في مقدمته صِفَّةً من رُخام الأكاسرة، جيء به من الحِيرة، وكان يتسع إلى 4 آلاف إنسان وزاد به عُبيد الله بن زياد حتى صار يتسع لـ 20 ألف إنسان.
وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) باتخاذها عاصمة لدولته الشريفة، تطوَّرت، واتسعت، ومن ذلك الزمن صارت الكوفة مدينة أساسية في مجال السياسة والحرب، والحياة برمتها في الحضارة الإسلامية، فشهدت الكوفة أحداثاً وتطورات سياسية واضطرابات كثيرة ومهمة في ذلك الزمان، إلى وقعت مأساة عاشوراء في أرض كربلاء قريباً من الكوفة، وكان الجيش الذي خرج لقتال الإمام الحسين (ع) كله منهم، لأنه كان يتألف بشكل أساسي من أهل الكوفة، ولم يُحدِّث المؤرخون اشتراك غيرهم معهم، كما أنه لا يمكن نفي الاشتراك لكثافة الأعداد وحجم الجيش المشارك في تلك المأساة الخالدة، ولكن لا أحد يستطيع أن يُنكر أن القيادة المجرمة في الشام والكوفة هم من بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن، فالقاتل يزيد الشَّر وبذلك اعترف هو وولده معاوية الثاني، والمباشر كان عبيد الله بن زياد الدَّعي بن الدَّعي، فعليهم جميعاً لعنة الله وملائكته ورسله ولعنة اللاعنين من يوم عاشوراء إلى قيام يوم الدِّين حيث القصاص منهم.
الكوفة اجتماعياً وسياسياً
فالحقيقة التاريخية تُخبرنا عن حقيقة تلك التركيبة العجيبة التي كانت عليها الكوفة التي لم يمضِ على تمصيرها ثلاثة عقود ونصف في عصر الإمام الحسين (ع) الذي ابتدأت حضارتها وشهرتها وحضورها التاريخي مع الإمام علي (ع) الذي اتخذها عاصمة لدولته، وكان الإمام الحسين فيها طيلة أربع سنوات كنجم في سمائها المتلألئة بنجوم الأرض من أبناء أمير المؤمنين علي (ع) وعموم بني هاشم، فالحسن والحسين (ع) كانا قمري المدينة، وحديث الناس فيها، وكذلك شقيقتهما فخر المخدرات السيدة زينب (ع) التي كانت تُعلِّم النساء الدِّين والأحكام.
ولكن الكوفة كانت مجتمعاً مؤلفاً من عدد كبير من العشائر، والقبائل العربية المختلفة الآراء والمشتة الأهواء من يمانيين قحطانيين، وشماليين مضريين، وقد قسَّموا المدينة إلى أرباع، ثم أسباع كل قبيلة تسكن في ناحية، مع أعداد كبيرة جداً من العبيد الحمر، والصفر، والسود، الذين جاؤوا بهم نتيجة الفتوحات الكبيرة، بحيث توسَّعت الكوفة وربما فاق عدد سكانها المليون، (وبعض العلماء يذهب إلى أربعة ملايين ولكن ذلك مستبعد في ذلك الحين)، فكانت الكوفة مؤلفة من فسيفساء اجتماعية وقبلية وعشائرية غير متجانسة، لكثرة الأعداد، وكبر المساحة، وقلة الزمن فيها فلم تصهرهم في بوتقتها بعد بل كانت كل مجموعة مازالت على ولائها لعشائرها، وتحكمها عاداتها وتقاليدها الجاهلية التي جاءت فيها من أمصارها الأصلية.
وأما الرأي السياسي في الكوفة فلم يكن لها رأي معين لأنهم جُند الخليفة، وكل مَنْ صار خليفة فالجيش والجنود يُعطونه الطاعة والانقياد مع قادتهم، فعندما كان فيها أمير المؤمنين (ع) كانوا معه وجنوده في مقارعة عدوَّه الداخلي والخارجي، ولكن لم يكونوا على وعي عقائدي وديني يجعل من فكرهم انتماء عقائدي، فينتمون إلى مدرسة الولاية العلوية، فكانوا – الكثير منهم – ينظر إليه كخليفة وحاكم سياسي فقط ولا يعرفون معنى ولا مبنى للإمامة الإلهية المفترضة الطاعة والتي تكون إمتداداً للرسالة الإلهية، بل كان الكثير منهم قد دخلوا الإسلام خوفاً من السيف، أو طمعاً بالدينار والدرهم، وهذا ما أدركه معاوية بن هند، وأمثاله فراحوا يشترون الناس بالذهب والفضة مستغلين جهل العالم بأمير المؤمنين الإمام علي (ع) كما فعل بأهل الشام.
يُروى أنه قدم معاوية بن أبي سفيان من الشام، فأتى مجلساً فيه علي بن أبي طالب، وطلحة بن عُبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعمار بن ياسر، فقال لهم: يا معشر الصحابة، أوصيكم بشيخي هذا خيراً (عثمان)، فوالله لئن قُتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلاً ورجالاً، ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال: يا عمار، إن بالشام مئة ألف فارس، كل يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعُبدانهم، لا يعرفون علياً ولا قرابته، ولا عماراً ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحابته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعداً ولا دعوته، فإياك يا عمار أن تقعد غداً في فتنة تنجلي، فيقال: هذا قاتل عثمان، وهذا قاتل علي". (الإمامة والسياسة ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني: ج ١ ص ٣٢)
بهذه الوقاحة –وما أكثرها لدى حكام بني أمية– كان يُهدد كبار الصحابة بمآت الألوف من السيوف التي كان يُراهن على جهلهم وغبائهم الديني، ويُبيِّن أن انتماءهم لمَنْ يُعطيهم العطاء، فانتماءهم لدنياهم وقائدهم الذي يُطعمهم، ولا يعرفون من الدين إلا ما علَّمهم إياه معاوية وبني أمية وزبانيتهم ممَنْ باع آخرته بدنيا معاوية.
والكوفة كانت متزلزلة من كل النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي مدينة عسكر بُنيت على الفظاظة، والغلظة، والقتال، مع ما كان فيه اجتماعهم المنهك من الحروب المتواصلة من الجمل، ثم صفين، وبعدها النهروان الذين كانوا جميعاً من الكوفة، ولذا لم تستجب لابن رسول الله الكبر الإمام الحسن السبط (ع)، بل غدرت به وحاولت قتله في المدائن، وتقاعست عن نُصرته حتى اضطر لمهادنة وموادعة معاوية في قصة الصلح المعروفة.
الإمام الحسين (ع) والكوفة
ومن الحقائق التاريخية الواضحة هي أن الإمام الحسين (ع) هو أعلم خلق الله بالكوفة وتنوعها، وتشتتها، ولكنها هي المدينة الوحيدة التي نعمت فترة من الزمن بالعدل العلوي، وسمعت الخطب، ونهلت من العلم من باب مدينة العلم، وفيها كبار أصحاب أمير المؤمنين (ع) أولئك الأبطال الذين لاحقهم معاوية وقتلهم تحت كل حجر ومدر، فكان الأمل ببقايا أولئك الذين ذاقوا مرارة الحكم الأموي، والطغيان الذي مارسه عليهم ولاة معاوية بن أبي سفيان الذي هجَّر خمسين الف منهم إلى خراسان، والآلاف الباقية تهجَّرت من تلقاء نفسها خوفاً من عسف وظلم بني أمية، الذي وصفه المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: "أن برئت الذِّمة ممَنْ روى شيئاً من فضل أبي تراب، وأهل بيته".
فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرءون منه، ويقعون فيه، وفي أهل بيته، وكان أشدُّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة مَنْ بها من شيعة علي (ع)، فاستعمل عليهم زياد بن سُميَّة، وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبَّع الشيعة، وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع)، فقتلهم تحت كل حجر، ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي، والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطرفهم، وشردهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم. (فلا يقل احد أن الشيعة هم الذين قتلوا الإمام الحسين (ع)
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: "ألا يُجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة".
وكتب إليهم: "أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته".
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء، والحباء، والقطائع، ويفيضه في العرب منهم، والموالي فكثُر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرَّبه وشفعه فلبثوا بذلك حيناً.
ثم كتب إلى عماله: "أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله".
فقُرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله، ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: "انظروا مَنْ قامت عليه البيِّنة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه"، وشفع ذلك بنسخة أخرى: "مَنْ اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره".
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي (ع) ليأتيه مَنْ يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الدَّيانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها، فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (ع) فازداد البلاء والفتنة فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض". (شرح نهج البلاغة: ج11 ص46)
هذه حقيقة الوضع الاجتماعي في الكوفة، فكانت الصًلحاء وأصحاب أمير المؤمنين (ع) إما في القبور شهداء، أو في المطامير سجناء، والناس مرعوبة من بني أمية وعسفهم وجورهم وطغيانهم، ولذا كان الإمام الحسين (ع) على وجل منهم فكان لا بد من أن يُرسل ثقة من أهله ليعرف حقيقة تلك الرسائل الكثيرة جداً التي وصلت إليه من أهل الكوفة التي يشكون منها الظلم الأموي.
مسلم بن عقيل سفير الحسين (ع)
هكذا اتخذ الإمام الحسين قراره بإرسال ذاك البطل الذي ربَّاه وعلمه وخبره جيداً عمَّه أمير المؤمنين (ع) الذي زوجه ابنته رقية، فكان آية في الشهامة والشجاعة والإيمان، بل كان قلعة حصينة من الدين وولاية أولياء الله، وكان مرافقاً شخصياً لابن عمِّه وغمامه الحسين (ع)، فاستدعاه في منصف شهر رمضان وحين كان في مكة المكرمة وأعطاه رسالة إلى أهل الكوفة، قال الشيخ المفيد في معرض ذكره لرسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (عليه السلام): وتلاقت الرسل كلّها عنده، فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس، ثمّ كتب مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله وكانا آخر الرسل: (بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين؛ أمّا بعد: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم: (أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ)؛ وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، فإنّ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله؛ فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام). (الإرشاد:2/39)
وبالفعل قام مسلم بن عقيل بالمهمة الصعبة خير قيام، وبايعته الجموع الغفيرة من أهلها ولكن بيعتهم كانت على العافية وليس على الحرب والقتال لأنهم لم يكونوا من أهل الغيرة والنجدة والشجاعة فأولئك أفناهم معاوية وظلمه، ومَنْ بقيَ منهم كان مختفياً عن النظار منتظراً امر إمامه لينهض بواجبه كبرير، وأنس بن كاهل، وحبيب بن مظاهر، وزهير بن القين وأمثال هؤلاء الأبطال الذين تربوا على مائدة الولاية الحيدرية، فهم أهل الوفاء وكانوا خير أصحاب لسيد الشهداء في يوم عاشوراء الدامي.
فالرواية التاريخية تصف حالة مزرية لأهل الكوفة تجاه سيدهم وقائدهم مسلم بن عقيل الذي بايعه منهم حوالي العشرين ألف، وكان معه في صلاة المغرب حوالي أربعة آلاف ولكن عندما أنهى صلاته في العشاء والتفت فلم يجد معه شخص واحد يدله على الطريق المؤدي إلى خارج المدينة فأي تساقط وتسافل كان فيه أولئك العبيد للدنيا والسلطان الغاشم؟
ونأخذها رواية من الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره الشريف) حيث يقول: " فكتب مسلم (ع) إلى الحسين (ع) في العاشر من ذي القعدة: (أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى.. والسلام) (مقتل الحسين (ع): ص51)
وهكذا جعل الناس يختلفون إلى مسلم بن عقيل (ع) ويبايعونه، وفي بعض الروايات أنه بايع الحسين (ع) أربعون ألفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا مَن حارب ويسالموا مَن سالم. (مثير الأحزان: ص16)
ثم يقول: "وكتب عيون بني أمية (عبد الله بن مسلم وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد)، إلى يزيد يخبرونه بقدوم مسلم بن عقيل (ع) الكوفة ومبايعة الناس لـه وضعف النعمان بن بشير، وقالوا: "إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف".
فدعا يزيد سرجون الرومي مولى معاوية، وكان سرجون مستولياً على معاوية في حياته، واستشاره فيمَن يولي على الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد وهو يومئذ وال على البصرة، وكان معاوية قد كتب لابن زياد عهداً بولاية الكوفة ومات قبل إنفاذه، فقال سرجون ليزيد: لو نُشر لك معاوية ما كنت آخذاً برأيه، قال: بلى، قال: هذا عهده لعبيد الله على الكوفة، فضمّ يزيد البصرة والكوفة إلى عبيد الله وكتب إليه بعهده: (أما بعد، فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين! فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام). (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص91)
فشيعة يزيد هم المتحكمين في الكوفة وهم مَنْ خَبرهم معاوية حيث أفاض عليهم من المال الحرام بما اشترى به ذممهم وضمائرهم وأديانهم، فكانوا جواسيس له، ولكل واحد منهم أطماعه وتطلعاته من الأموال والولايات أو غيرها من الطموحات الدنيوية التافهة.
فالكوفة لم تكن شيعية خالصة، وأهلها من الشيعة حتى يقول هؤلاء الدجالون، والمنافقون السائرون بسيرة يزيد الشر، وأبيه معاوية، فالشيعة كانوا مطاردين تحت كل حجر ومدر، وأما العبيد والإماء من سكان الكوفة فكانوا شيعة ليزيد، ولهذا خاطبهم الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء بقوله روحي فداه: (وَيْلَكُمْ يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُمْ لاَ تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ هَذِهِ وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عَرَباً كَمَا تَزْعُمُون). (اللهوف على قتلى الطفوف:١٢٠)
فلم يكن لهم دين يردعهم، ولا أحساب تمنعهم، ولم يخافوا المعاد، ولم يكونوا أحراراً بل كانوا عبيداً أذلاء لابن ميسون يزيد الشر، وابن مرجانة الدَّعي، وكل ذلك لم يمنعهم من اقتراف تلك الجريمة النكراء بحق الإمام الحسين (ع) وإخوته، وأبنائه، وأصحابه الميامين، وعيالاته العفيفات الطاهرات وهم ثقل النبوة، وفيهم فخر المخدرات سيدتنا ومولاتنا زينب الكبرى (ع)، فمسلم بن عقيل (ع) كان سفير الحضارة الحسينية الإنسانية لأهل الكوفة، فبدؤوا صحيحاً ولكن انتهوا بشكل كارثي مازالت نتائجه تعصف في هذه الأمة، فلو صدقوا ما بايعوا عليه لتغير وجه التاريخ كله ولبنت الكوفة حضارة من أرقى الحضارات في هذه الحياة.
فالسلام على الحسين أبد الدهر وعلى شيعته ومحبيه مدار العصر.