الإمام الحسين (ع) واقتفاء الفكر الخلّاق
شبكة النبأ
2020-08-26 03:35
يتجدد اللقاء بمراسيم الطف، وإحياء ذكرى صوت الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، وفي هذه الذكرى تتضح الرؤية بكامل بهائها لتؤكد بأن الفكر الحسيني هو طريق الأحرار، وهو السبيل الذي يقود المسلمين والعالم كله إلى حياة يسودها العدل، ويُنصَفُ فيها الجميع ، الفقير والغني، القوي والضعيف، لنعيش في كنف مجتمع يستند إلى الأفكار الحسينية الخلاقة التي تتجسد بالحق ودحر الظلم وإلحاق الهزيمة بالطغاة والفاسدين.
هنا يبحث المسلمون عن مرفأ آمن يقتفون أثره ويلجأون إليه في بحر الحياة المتلاطم، وفي عالم صاخب متوتر محتقن، تختلط فيه أوراق الحق بالباطل، وكما هو معروف فإن لكل أمة أسوة أو قدوة أو نموذج تهتدي به، ونحن كمسلمين مرت علينا دهور من الويلات والعذاب، وأكداس من الجهل والظلام، أحوج إلى الأسوة، واقتفاء مصباح الفكر الخلاق، وضالتنا هذه وجدناها في إمامنا الحسين، فكراً ومبادئ وإيثارا، ولا ينقصنا سوى فهمها وهضمها جيدا واقتفاءَها ثم العمل بها في تنظيم حياتنا، والانتقال عبرها إلى مجتمع التراحم والتكافل والإنصاف، وهو ما نحتاجه اليوم أشد الحاجة.
قوة الفكر الحسيني الخلاق تظهر جلية من طبيعة منبعها، فإن أول وأعظم الخطوط التي اختطها إمامنا الحسين، خط التمسك بسيرة جده محمد (ص) وأبيه علي بن أبي طالب (ع)، فأعلن هدفه بصوت لا أعلى ولا أصفى ولا أجلّ منه: (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب)، وهنا يمكن أن تساءل ماذا سيحدث إذا انهزم الظلم واندحر الباطل، واستأسد الحق، وعلا فوق أكداس الخطيئة المتراكمة في القلوب والنفوس وحتى العقول، إننا لا ريب سوف نعيش في عالم أفضل يسوده التوازن والعدالة الاجتماعية والاستقرار.
ولكن ماذا لو تقلدت الحكم والسلطة عقول آثمة ونفوس مريضة بالطغيان، تعيث في الأرض فسادا، تجرمُ بحق الناس، تسرق، تمتهن السُحت، تستحلي الخطايا، وتستخف بحقوق الجميع، تختلس، تتربص بأرزاق البشر، تنهش اللحم الحي والميت، تآخي الفجور، تكره العدل، تحكم بما يُشبع نهمها وشهيتها الدموية، لا رادع لها، ذاتي أو خارجي، لا النفس ترتدع، ولا القلب يخاف، ينتشر الهراء بين الجموع، تستحيل المكامن غابة يحكمها قانون القوي على الضعيف، إننا سوف نكون أسرى لقانون الغاب، وهذا ما لا يريده الإمام الحسين عليه السلام وترفضه مبادئه العظيمة وفكره المتوقد على مر الأزمان وانتصارا للحق وحرمة وكرامة الإنسان.
هذا هو مشهد الشام في حكم يزيد، والعهد الأموي الرقيع، فلا معروف ساد بين معاملات الناس مع بعضهم أو بين الحاكم وبينهم، ولا عدل، رفع المنكر بيارقه العالية وتسيّد الحقوق وامتطى الرذيلة، فوجب أن يظهر صوت الحق ويعلو، فمن يا تُرى ذلك الصوت، وهل ثمة أعلى من صوت الحسين حقاً وعدلا ومعروفاً، هدر الصوت الأعظم معلنا اقتفاء سيرة الجد والأب، سيرة الشجرة المحمدية العظمى في ثورة قلّ نظيرها عبر التاريخ.
وقد أدرك المتزلفون العابثون قوة الثورة الحسينية وأفكارها المبدئية الخلاقة، فارتدَّ المنكر وأصحابه على أعقابهم، رغم أنهم كانوا ذووا قوة هائلة مادية تتألف من الرعاع الجهلة ذوي النفوس الدنيئة والعقول المختمرة بالجشع والجهالة، فلم يكن من بد، غير خروج الثائر الأعظم واضعا الطاغية الصغير يزيد في جحر الفضيحة المعلنة، بائسا ذليلا متفسخا في أحضان الفجور والانحلال.
لقد انبثق صوت الحق الهادر، وهو صوت لم يخبو على مر التاريخ، زلزل عروش الحمقى من الحكام، وأعاد الأمور إلى نصابها، وهذا ما يحتاجه المسلمون والعراقيون منهم، ثورة فكرة تستمد قوتها وقيمها وصلابتها من جوهر الفكر الحسيني الخلاق، لتطيح بالفاسدين وتفضح أذنابهم، وتضاعف الالتزام بالخط الحسيني كطريق للخلاص من العبودية والظلم.
فقد (كان الإمام الحسين عليه السلام يريد أن يُخرج الأمة من المنكر إلى المعروف، كان يريد أن يضع حداً للمنكر، وأن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردّي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأضرابهم) (المصدر: الإمام الشيرازي/ كتاب قبس من شعاع الإمام الحسين ع).
واليوم عرف الجميع، ونحن بينهم، أننا أمام خيارين لا ثالث لهما، فأما أن نقتفي خُطا الحسين الفكرية الثقافية المبدئية، وننفذ بجلودنا من عالم مشحون بالكراهية والجشع والغل وضرب حدود الحق بالخداع وكل الموبقات المنكرة، وأما أن نُحصَر ونُحشَر في زنزانة يزيد المعاصرة، فيزيد الذي هزمه الحسين، لم تنتهِ نتانته ومآربه ولا عدالته، وهمجيته، وانطلاقا من هذا الواقع المأزوم، ما علينا إلا أن نتمسك بالصفوة الإلهية ونستنير بالمصباح الحسيني الذي لا منجى لنا بسواه.
هل لنا غير الحسين (ع) منجي من سوءات المنكر وجحافله التي تتناسل في عالم معظم ساسته وقادته بلا ضمير، يقودهم الجنون ونفوسهم تنضح باللؤم والطمع والجشع واحتقار الناس، ليس لنا سوى اقتفاء الفكر الحسيني ومبادئه وفكره ملاذا وحماية من أراذل العصر، لهذا فإن: (التمسّك بصفوة الله، والاستنارة بهذا المصباح الإلهي يكون هداية في الدنيا، ونجاة في الآخرة، لأن حب الإمام الحسين يستتبع العمل الصالح، وذلك لأنه عليه السلام مصباح ينير طريق الحق لسالكيه، ولأنه فرّق بين طريق الحق وطريق الباطل بنهضته المباركة) الإمام الشيرازي.
علينا أن نفتح القلوب برهافة وإصرار للحب الحسيني، ونلتهم فكره الخلاق التهاما، عن إيمان قاطع، فأغلب ما يحيط بنا مسلّح بالخطيئة، ومغموس بالتسميم النفعي والرذيلة والغدر والخداع والمصلحة الظالمة، (فأما أن تكون معي أو أنت ضدي) حتى لو كان متجبرا معبّأً بالكراهية والأحقاد، هذا منطق طغاة اليوم، وأما أن تشرب الذل بقبول جبري والخنوع للباطل، والتطبيل له أو الصمت على جرائمه في أضعف الحلول، وهذا كله لا يليق بالمؤمنين المؤتمنين.
تسطع أمامنا كمسلمين مبادئ الحسين عليه السلام، أفكاره، مبادئه، مواقفه التي خلدها التاريخ، فليس لنا سوى حب الحسين وطريقه وفكره ومبادئه، ففيها يكمن خلاصنا: (حقاً إن الإمام الحسين عليه السلام مصباح الهدى، فما زال نوره وضياؤه يشرق علينا بالبركة والخير فهو يميز الحق من الباطل في جميع العصور والأزمان) الإمام الشيرازي.
فالمسلمون اليوم أمام اختبار بين الحق والباطل، بين التقدم في طريق الحق والسلام، أو التراجع إلى صف الباطل والشر، لذا علينا أن نحسم أمرنا، فكيف نخدم الفكر الحسيني، وكيف نصون ونلتزم بمبادئه، نحن في حرب فكرية ومادية متشعبة، علينا الانتصار للحسين ع، كيف؟ لابد من وضع خطط إستراتيجية لمثل هذا العمل الجبار، إنها حرب واضحة وكاملة وقوية، وعلينا كحسينيين أن نفهم ونؤمن بأننا مسؤولون مسؤولية كاملة لفهم الفكر الحسيني وتطبيق مبادئه، ونشرها في أقصى أصقاع الأرض وصولا إلى عالم يسوده العدل:
(يلزم علينا أن نعمل لكي نعرض قضية الإمام الحسين ع ومبادئه وأهدافه، من خلال أحدث الأجهزة العصرية، عن طريق محطات البث المرئية والمسموعة، والإنترنت، والكتاب والشريط المسجل، وكل ما يصدق عليه الإعلام وإيصالها إلى العالم أجمعه، بشكلها الذي أراده الإمام الحسين (ع).
هذا ما أوصى به الإمام الشيرازي جميع المسلمين، وشدد على التمسك بالفكر الحسيني الخلاق، نظريا وتطبيقيا، ودعا إلى نشر هذا الفكر بكل الوسائل الإعلامية والفكرية والخطابية والتأليفية الممكنة، فنحن نعيش الاختبار الأشد ضراوة بين أن نكون حسينيين قلبا وقالبا، فكرا وسلوكا، أو العكس وهو ما لا يرتضيه الحسينيون الحقيقيون لأنفسهم مطلقا.