قوة الخطاب الحسيني

عبد الرزاق عبد الحسين

2018-09-22 04:30

إذا كان الكلام صفة المتكلم كما يُقال في بعض الأمثال الدارجة، فإن هذا ينطبق على الأفواه المفوّهة وهي مصدر الأقوال الأكثر تأثيرا في الجمع، فالمفوَّه هو المتميز في كلامه، وغالبا ما يكون الخطباء والمحاضرين من المفوّهين، فالخطيب وهو يعلو المنبر، نجده ذا بلاغة وذا حذق وشخصيته تكتنز بالصفات التي تساعده على أن يكون مائزا ذا جلالة وهيبة لا تخيف الآخر لكنها تفرض عليه احترام الخطيب.

المنبر منصة ينطلق منها الخطيب في توجيه كلامه وعلْمه إلى مستمعيه من الحاضرين في المجلس، وقد يكون المنبر قوياً أو ضعيفا!!، ومردّ هذه القوة والضعف تُستمَد من الخطيب نفسه، فهو الذي يمكن أن يجعل من منبره ذا هيبة ورصانة وتأثير، ويمكن أن يجعل منه عكس ذلك تماما، فمتى يكون المنبر قويا ومتى يكون ضعيفا خاليا من أي تأثير يُذكر على المتلقي، وأكثر من ذلك هناك بعض المنابر نتيجة لضعفها قد تكون محطّ تندر وسخرية حين يكون المتكلم نفسه هازئاً ساخرا ضاحكاً في مناسبة أو من دونها.

فالخطيب المتوازن في لفظه وعلميته وحججه، وهيأته وجلسته، وطريقة كلامه، وحتى ملبسه وشكله، سيكون منبره متّسما بالهيبة والوقار المقرون بالنجاح، وما يثبت هذا تزايد عدد رواد المجلس يوما بعد آخر ومجلسا بعد آخر، وقد تتضاعف حشود الحاضرين جلوساً ووقوفا أيضا، مع إصغاء تام للخطيب، لتنتهي الخطبة أو المجلس بتأثير كبير على نفوس الحاضرين والمستمعين.

من ضمن أهم الوصايا التي يوصي بها الإمام الشيرازي الخطباء الواعظين المتكلمين، هي أن يختار الخطيب مفرداته بدقة ودراية بعيدا عن الهزء والسخرية: (على الخطيب أن يتجنب الكلام الفارغ فوق المنبر، فإن كل ذلك يؤثر في ضعف منبره/ المصدر تجاربي مع المنبر للإمام الشيرازي).

وكما يُقال أن أكثر النصائح انطباقا على الواقع، هي تلك التي تخرج من معطف التجارب الواقعية، وما يدلي به الإمام الشيرازي حاصل تجربة مهمة وطويلة مع المنبر، هضم فيها الإمام الخطيب هذه المنصة المهمة وخبر كل ما يحتك بها تقرّباً أو نفوراً، وبعد هذا الاحتكاك المباشر مع المنبر، جاءت هذه الوصايا عن تجربة واقعية لمرجع ديني عريق وخطيب مائز مفوّه، لاصقَ أو رافقَ المنبر لـ سنوات طويلة متعاقبة، وخرج منها بحصيلة العالِم المتمرس الذي خاض في الأعماق، متحديا جائلا ومن ثمّ مستخلصا عصارة ما يمنحه المنبر لمعتليه الحاذق الخبير.

ومما لوحظ أيضا مهماز الغضب وما يفعله بالخطيب ضعفا ونكوصاً، فالناس تتجن الإنسان العادي بفعل غضبه أو خروجه عن الكلام المعتاد، حتى لو كان صاحب حق، فما بالك حين يكون هذا الإنسان خطيبا يرتقي منبرا حسينيا ويخاطب الناس بلسان ليست له القدرة للسيطرة عليه، إن غضب الخطيب قد يكون بمثابة القشة التي تقصم الظهر، فالناس تستدير حول المنبر كي تتعلم وتتنوّر وتهدّئ النفوس وتجني الأمن والسعادة، وحين لا تعثر على شيء من هذا فلا حاجة لها بالغضب والصراخ الفارغ.

الحاضرون إلى المجلس يريدون من ينير لهم خفايا وخبايا نفوسهم الضائعة في ظلمات الخطايا والضنك وهشاشة الأرزاق، فإذا حضرا منبرا خطيبه حانقا غاضبا على نفسه وعلى الآخرين، لن يقربوا هذا المجلس مرة أخرى، فعلى الخطباء أن يهجروا الغضب وهم يعتلون منابرهم، وأن لا يرسلوا حمم الكلام دون حساب، أو دون تفكّر وذكاء ودقة، فالكلمة التي تطرق سمع المتلقي تذهب إلى أبعد نقطة في عقله وشعوره، فأما أن تشعره بالراحة والأمان والعرفان، وأما تشطّ به إلى مكامن الخوف وعدم الثقة والانهزام، ومهمة الخطيب أو بالأحرى من أهم مهامّه أن يشيع الأمل والثقة والأمان والرحمة والسعادة في نفوس حاضري مجلسهِ.

في وصيته الثانية يخاطب الإمام الشيرازي الخطباء: (يجب على الخطيب أن يتجنب الغضب، وإرسال حمم من الكلام، والشدة المبالغة، ونحو ذلك مما يوجب عدم إفصاح الكلام، فيقلل من التأثير في السامع).

وحين يغضب الخطيب فلا يترك تأثيرا في السامع حتى لو كان بأقلّ الدرجات، وهنا تضيع وتنسلخ تماما مهمة المنبر، فما فائدة منبراً بلا تأثير، ومن ثم ما فائدة خطيب يذهب كلامه أدراج الرياح.

وكما ينبغي على الخطيب أن يسيطر على نفسه ومشاعره، ويضبط إيقاع نبرة كلامه، ويكون لجام نفسه بيده وعقله دائما، كذلك عليه أن يكون ضابطا لمجلسه من الحضور، وأن لا يترك الجلّاس يتحدثون إلى بعضهم كما يشاؤون، ولا ينبغي أن يُطلق العنان لمن يريد الكلام أثناء الخطاب، فللمجلس حرمته وثمة تقاليد لا يجوز تجاوزها أثناء الخطاب، فأن يتكلم الحاضرين مع بعضهم كما يريدون ووقتما يرغبون، هذا لا يصح لأنه يضعف المجلس والمنبر والخطيب على حد سواء، هنا لابد أن يكون الخطيب حازماً في كفّ النقاش وإيقاف الكلام داخل المجلس، لأن ذلك يخلق نوعاً من الضوضاء لا تُحتمَل، ثم تؤدي إلى جعل المجلس نزهة للكلام، وليس مجلسا للرصانة والعلم والفائدة العقلية و العملية، وهذا المنع، منع الكلام أثناء الخطاب يشمل الكبار والأطفال معا، فحتى الطفل الصغير الذي يحضر المنبر ليس حرّا في الكلام وعليه الإنصات كما الكبار لضمان الفائدة.

على أن يقوم الخطيب بكل ما تم ذكره بأسلوب اللين وليس الخشونة أو الردع الشديد، فهذا ليس من صفات الخطباء، لأن القوة سوف تؤثر على نفوس الحاضرين وقد تصنع نوعا من السخط والحنق على الخطيب، ما يقود إلى قلة تأثيره بالحاضرين، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على شخصية الخطيب الحاذقة المتوازنة التي لا تميل للشدة ولا للعنف، في الوسطية والحكمة والحذق يكمن الحل.

وهذه وصية الإمام الشيرازي للخطباء من أصحاب المنابر:

(يجب على الخطيب إسكات الضوضاء، وما يخل بالمنبر (كصياح الطفل وتكلم المستمع)، على أن يتم ذلك باللين لا بالعنف والشدة، فإن العنف يدل على عدم ضبط النفس، ويؤثر سلباً في نفس السامع مما يقلل من أثر كلام الخطيب في النفوس).

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا