رسالتنا في عاشوراء
الإرشاد والهداية، الخدمة، الإنسانية، المحبة، الحرية
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-09-19 07:14
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)([1])
على ضوء هذه الآية المباركة هناك عدة بصائر نذكر منها:
أولاً: اقامة الدين هي المسؤولية الكبرى
ماهي رسالتنا في شهر محرم الحرام؟
وليس المقصود بمرجع الضمير في (رسالتنا) الخطباء الكرام فقط، ولا العلماء الأعلام ولا رجال الدين الكرام، بل نقصد حتى الطبيب والمهندس والمحامي والسياسي والصحفي أيضاً، ماهي رسالة هؤلاء في شهر محرم؟ بل نقصد حتى المزارع والعامل والبقال والعطار، الرجل والمرأة والكبير والصغير.
الإجابة على ذلك في كلمة واحدة فقط تضمنتها هذه الآية الشريفة: ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، هذه هي وظيفتنا: أن نقيم الدين، البقال عليه أن يقيم الدين في محل بقالته وفيمن يتعاطى معه، وكذلك الطبيب، والمهندس والتاجر وغيرهم.
ان الكثير منا يتوهم أن إقامة الدين هي مسؤولية الدولة أو مسؤولية مراجع التقليد (حفظهم الله جميعا) أو مسؤولية الطبقة العليا الراقية من المجتمع، كلا إذ يقول تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ) والضمير يرجع للكل، شرع لكم أي لكل رجل وامرأة، انثى أو ذكر، عالم أو متعلم أو جاهل، مسؤول أو غير مسؤول أو أي شيء آخر كان.
(شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ) ما الذي شرعه؟ (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، فالطبيب عليه في مطبه أن يرصد ويلاحظ هل أنه أقام الدين في تعامله اليومي مع خمسين إلى مائة مريض مثلاً أو مع بعض الموظفين لديه؟ وكذلك التاجر في الشركة، او الوزير في الوزارة، كلٌ في حدود قدراته وطاقاته وإمكاناته، هل أقام الدين كما صنع سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه وكما كانت الغاية النهائية من نهضته وثورته المباركة؟.
ان إقامة الدين هي حقيقة ذات مراتب ودرجات كما أنها ذات مصاديق، فقد يكون بمقدوري أن أقيم الدين في جملة مصاديق وإن لم استطع إقامة الدين في كافة المصاديق، إلا أن ذلك لا يعفيني عن هذا الواجب (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ).
اذن: إقامة الدين هي رسالتنا في شهر محرم، بل في كل شهور السنة، إلا أن شهر محرم يصلح كمنطلق بل هو أفضل منطلق لإقامة الدين لأن ثورة سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه بما تميزت به وبما حفلت به من تضحيات لا نظير لها على مر التاريخ وبما تميزت به من فتوة وشهامة وإباء وعزة نفس وحرية وغير ذلك، ومن العاطفة أيضاً حيث كمية العاطفة الجياشة الهائلة التي احتضنتها هذه المناسبة، تعد مناسبة استثنائية للانطلاق لإحياء الدين وإقامته فشهر محرم الحرام إذن هو أفضل منطلق لإقامة الدين.
ثانياً: مظاهر ومصاديق اقامة الدين
بعد ان عرفنا ان الرسالة العامة في شهر محرم هي إقامة الدين، علينا ان نتعرف على مظاهر إقامة الدين، وسوف نذكر في هذه العجالة بعض الأبعاد والمظاهر والرسالات فنقول: ان مظاهر اقامة الدين ومصاديق إحيائه يمكن ان نلخصها في ثلاث رسائل مهمة في هذا الشهر:
الرسالة الأولى لشهر محرم هي: رسالة الإرشاد والهداية.
الرسالة الثانية لشهر محرم: هي رسالة الخدمة والإنسانية.
الرسالة الثالثة لشهر محرم: هي رسالة المحبة والحرية.
وهناك رسالات أخرى أيضاً، قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ...).
الرسالة الاولى: رسالة الهداية والارشاد
الرسالة الأولى هي الرسالة المعروفة المعهودة التي اضطلع بها العلماء والخطباء ورجال الدين وكثير من المؤمنين: رسالة الهداية والإرشاد، ولا كثير كلام في هذه العجالة حولها.
إلا أننا نشير إشارة واحدة فقط وهي أن من مظاهر الهداية والإرشاد التي ينبغي أن تطوّر وأن تتبلور بشكل أفضل في شهر محرم: إحياء القرآن الكريم.
إحياء القرآن الكريم في شهر محرم
والجميع يعلم ـ ولله الحمد ـ ان سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) في ليلة عاشوراء قضى تلك الليلة في تلاوة القرآن الكريم وبمناجات الرب العظيم، فاهتدى بتلاوته ـ بأبي وأمي ـ ومناجاته مع ربه، مجموعة من العسكر المقابل: ثلاثون شخصا فيما أحصاه التاريخ، ثلاثون شخصا من الأعداء عندما سمعوا صوت مناجاته (صلوات الله وسلامه عليه) خرجوا من معسكر ابن سعد وانضموا إلى معسكر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وقاتلوا حتى قُتلوا (رضوان الله عليهم ).
هذه هي رسالة الهداية والإرشاد: المنبر ضروري وواجب، الخطبة والمصيبة وما أشبه ذلك ضرورية وواجبة لكن القرآن الكريم ايضا ضروري وواجب، فينبغي أن تتبنى الحسينيات والمساجد والخطباء تشويقا وتحريضا، ذلك بحيث تتحول قراءة القرآن الكريم وتلاوته إلى ظاهره عامة: بحيث تسمع صوت القرآن يعلو في كافة المساجد والحسينيات والشركات والوزارات ليل نهار، ولم لا؟ ففي وقت المجلس يعقد مجلس ومحاضرة ومصيبة وشعائر ثم الوقت الباقي يعلو صوت قرآني يتلى صباحا ومساءا وعلى الاقل ان يكون ذلك في العشرة الاول من شهر محرم.
ان القرآن كتاب هداية، وهو نور من العمى وحبل الله المتين، فما أجمل ان تذهب للمطبات والمدارس ومحلات البيع وغيرها، فتسمع صوت القرآن، وأصداء المناجاة مع الرب سبحانه وتعالى! وكذلك المطارات - وللأسف مطارات بلاد المسلمين تملؤها موسيقى مريبة - فلم لا يملأ ارجاءها صوت القرآن طوال السنة؟ أو على الأقل في العشرة من شهر محرم، وفي الوزارات، في كل مكان! فلتتشح كافة بلاد الإسلام بهذا المظهر ولتتمظهر به.
ان القرآن كتاب هداية وإرشاد فلماذا أهملناه بعض الاهمال أو كثير الاهمال؟ ولقد كان ذلك تعليما من سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) إضافة إلى موضوعيته، إذ لماذا استشهد بابي هو وامي؟ اليس لكي يحفظ القرآن الكريم وقيمه ومبادئه وأهدافه السامية؟، فلنكن كذلك نحن أيضا.
وكذلك الأمر في البيت أيضاً، إذ قد نقرأ القرآن الكريم طوال السنة، لكن في العشرة الأولى من شهر محرم، بل طوال شهري محرم وصفر لِنَزِد على قراءة القرآن وعلى المناجاة نصف ساعة اخرى، وسترون أي أثر تربوي يتركه ذلك على الاسرة كلها وأي بركة يستجلبها ذلك إلى الإنسان.
إذن الرسالة الأولى هي رسالة الهداية والإرشاد وكما ذكرنا فإن هذه الرسالة ليست خاصة برجال الدين والعلماء والخطباء بل كل طبيب وكل مهندس ومحامي وصحفي ووزير وسياسي، عليه في شهر محرم أن يستفرغ بعض الوسع على الأقل في هداية الناس وإرشادهم إلى صراط العزيز الحميد.
الرسالة الثانية: رسالة الخدمة والإنسانية
وهذه رسالة مهمة جدا أغفلناها، ومع الأسف نجد الغرب قام بمبادرات في هذا الحقل وكان منها ما أسماه (الصليب الأحمر) وهو مظهر الإنسانية الخادع في واقعة وأهدافة المبيتة (وللانصاف قد تجد البعض من هؤلاء العاملين مخلصين ولهم اهداف نبيلة لكن الحديث عن الجهات العليا التي تدير كل ذلك).
لكن لماذا الإنسانية وخدمة البشر – على اغراضها المبيتة – تأتي من الغرب؟!! وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"
لماذا هم عندهم فقط المبادرات؟ لماذا حين تحدث حالات من القحط أو الزلازل أو الفيضانات تجد أول مبادر: الغربيون وأذنابهم، أما المسلمون فلا تسمع لهم الا همسا؟ وان ساهموا فمساهمتهم بسيطة ضئيلة في معظم الأحيان.
ان الطرف الآخر سواءاً أكان مسيحيا أم يهوديا أم بوذيا أم غير ذلك، عندما يرى أنك أنت المسلم، انت الشيعي، تقوم بمساعدته وانك انت المبادر فانه سيسمع عبر ذلك رسالة الاسلام، والتي هي رسالة الامام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، وذلك كما صنع سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، وكما صنع الامام السجاد صلوات الله وسلامه عليه، في ظلم الليل البهيم حيث كان يحمل جراب الطعام على ظهره المبارك ليوصله الى المحتاجين.
لماذا نحن لا نصنع ذلك؟ لماذا تخلفنا عن التأسي بسادتنا وقادتنا واولياء امورنا؟!!
ان شهر محرم هو شهر الخدمة بامتياز، وانكم جميعاً ترون أصحاب الهيئات وهم يجندون أنفسهم لخدمة الناس، جزاهم الله خير جزاء المحسنين وكذلك كل من خدم، لكن هناك خدمة أخرى ينبغي ان تقدم لغير المسلمين أيضاً، وكما تعلمون فان الملايين من الناس تشيعوا في الهند ببركة المجالس الحسينية والاطعام وسائر البرامج الارشادية والخدمية، وانك عندما تنفتح على العالم باسم الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فسوف تهز العالم كله.
لننفتح على العالم باسم الإمام الحسين (عليه السلام)
ان الغرب ينفتح على العالم ـ بزعمه ـ باسم الديموقراطية وما أشبه ذلك، فلماذا لا ننفتح على العالم باسم من تجسدت فيه كل القيم بأجلى صورها وبأنصع درجات نقائها؟. لماذا لا ننفتح على العالم؟
ولو اننا ذهبنا الآن إلى الصين، في شهر محرم، هل سنرى شيئا من ذكر الحسين ومبادئه وقيمه وثورته المباركة؟ او لو ذهبنا إلى استراليا او روسيا أو أمريكا اللاتينية؟ كلا سوف لا نسمع ولا نرى شيئا يذكر حول قضية الامام الحسين صلوات الله تعالى عليه
وقد تتبعت في العام الماضي ولم أرَ شيئا إلا القليل بل النادر، لم؟ ان هذه مسؤوليتنا نحن، لماذا نحن محدودون ومحصورون في بلادنا، في حسينياتنا، في فضائياتنا؟ الصين ذات مليار وخمسمائة مليون إنسان، لم لا يسمعون رسالة الحسين صلوات الله وسلامه عليه؟ ما ذلك الا لأننا متقوقعين على أنفسنا إلى حد كبير.
اذهبوا إلى الذين يتحدثون باللغة الاسبانية، ثمان مائة مليون إنسان يتحدثون بهذه اللغة، أين خطباؤنا، أين كتبنا المترجمة بلغتهم؟ أين اسم الإمام الحسين من كل هؤلاء؟
الرسالة الثانية هي رسالة الإنسانية والخدمة، ان حركة سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه فيها كل العِبرَ وكل الدروس وكل البلاسم لمآسي ومشاكل البشرية وفيها توضيح وتأكيد وترسيخ لرسالات الله التي نهض لإحيائها حيث أراد أن يقيم الدين وقد قال تعالى: ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
الامام الحسين يخدم بنفسه اعداءه!
ومما يلفت النظر تلك الرواية المعروفة، في قضية جيش الحر، عندما قطع الطريق على سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه وكانوا – أي جيش الحر - عطاشا، فقال الإمام الحسين عليه السلام، لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء، فليس فقط أن تسقيه بل أن تجعله يرتوي وهم أعداء وكانوا ألف واحد فلم يكن سقيهم بالأمر المستسهل إذ من الممكن ان تنفد المياه كما حصل بعد ذلك) ورشفوا الخيل ترشيفا. حتى الخيل رشفوها ترشيفا بمعنى رش الماء على أجسادها كي تخف عنها وطأة حرارة الشمس!.
وذلك هو من أسمى مظاهر الإنسانية ومصاديق الخدمة، وقد كنا نحن ـ المسلمين ـ المظهر والسبّاقين، لكن الآخرين حازوا بعض قصب السبق منا، فسادوا العالم بما كان ينبغي أن نسود به العالم ونحن على حق وهم على باطل.
النموذج الآخر وهو ايضا معروف: علي ابن الطعان كان في اخريات جيش الحر، فعندما وصل وكان العطش قد ارهقه وكاد أن يهلكه فان سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه بنفسه بادر إلى خدمته. وهل تعهدون رئيس دوله يخدم ما عدوا له؟ أو حتى استاذاً في الجامعة أو عالماً شهيراً أو خطيباً بارزاً؟، قد نجد نماذج نادرة، ومع ذلك فاين مقامهم من مقام سيد شباب أهل الجنة؟ ثم انه كان هو المعلم المرشد السبّاق وهذا ما ينبغي أن نتعلمه من سيد الشهداء عليه السلام.
ولنقرأ نص الرواية لجمالها وروعتها ودلالالتها:
قال علي ابن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من اصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام (وهنا علينا ان نلاحظ أنه عليه السلام كان يراقب ويرصد من كانت منهم لديه حاجة، اما نحن فنغمض أعيننا ونسكرها وبعضنا لا عليه بالمحتاج ولا غيره) ما بي وبفرسي من العطش قال: انخ الراوية (والراوية تعني الجمل بلغة أهل الحجاز لكنها بلغة اهل الكوفة تعني السقاء وهي تشبه القربة إذ السقاء اناء من جلد السخلة يشرب به الماء أو الحليب) والراوية عندي السقاء، ثم قال: يابن الأخ (حيث عرف أني لم أفهم المقصود) أنخ الجمل، فأنخته، فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين عليه السلام: اخنث السقاء ـ أي اعطف (وضيق فمها بعض الشيء) فلم ادرِ كيف أفعل، فقام (لاحظوا: حجة الله على وجه الكون بشخصه المبارك يقوم ليخدم عدوه) فخنثه فشربت وسقيت فرسي)([2]).
اخدم حتى عدوك بما أوصى به الشرع، فكيف بالمنافس
ان رسالة شهر محرم هي الخدمة، رسالة شهر محرم هي الإنسانية، رسالة شهر محرم أن تتصالح حتى مع عدوك في إطار الضوابط الشرعية، والتعبير الأدق: ان تخدم حتى عدوك بالخدمات الإنسانية، فكيف إذ لم يكن عدوا؟ بل كان منافسا؟ فقد تكون هناك بعض المنافسة بين حسينية وأخرى، بين تيار وآخر، بين عشيرة أو حزب وحزب وعشيرة أخرى، فشهر محرم فرصة استثنائية لكي نقتدي بسيد الشهداء عليه السلام.
ان الحسينية الأخرى أو الحزب الآخر أو تلك المرجعية الأخرى ليست بعدو بدون شك ما دام ان له اجتهاده ولي اجتهادي إذ قد يكون هناك اختلاف الاجتهادات لكنه لا يبرر القطيعة والتدابر ابداً بل نقول: فليكن فرضا عدوا، لكن لم لا اخدمه كما فعل سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه؟
ان ذلك يورث المحبة ويكرس أواصر الاخوة الإيمانية ويسوق الجميع نحو أهداف سيد الشهداء الإصلاحية بإذن الله.
وهذا ما اخاطب به نفسي واصدقائنا والآخرين ايضا، فعلي أن اعمل أنا بذلك، كما اوصي اخوتنا، اصدقائنا، احبتنا، والمؤمنين كافة، وليس هذا كلامي فقط بل هو ما عمله سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه حيث كان يقوم بنفسه بخدمة عدوه، فما الذي يعنيه ذلك؟ ان ذلك يعني أن علينا ان نتعلم منه وأن نقتدي به، وصدقوا لو فعلنا ذلك لتغير وجه الأرض، ولدخل الناس من جديد في دين الله أفواجا.
هذه هي الرسالة الثانية، رسالة الخدمة والإنسانية.
الرسالة الثالثة: رسالة المحبة والحرية
وقد دلّنا سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه على ذلك بعبارة دقيقة رائعة معبّرة إذ يقول: "إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احرارا في دنياكم". فهذه إذن قيمة من القيم التي يدعو لها سيد الشهداء عليه السلام.
أنكم جميعاً تلاحظون الطير في القفص فانه وإن مرت عليه خمس سنين لا يتأقلم، فإذا ما فتحت له باب القفص فسوف يبادر بالطيران والهروب إلى العالم الأرحب، لكن المشكلة في الإنسان أنه يتطبّع على الاستبداد، فإذا وجدت قيود على السفر: فيزا وهوية وجواز وغيره، فانه يتطبع ويعتبرها الأصل، مع انها قيود في جوهرها وفي ظاهرها أيضاً.
ومن الواضح انه لم يأتِ بهذه القيود سلطان من الله، بل السلطان من الله هو على العكس.
في السفر قيود، في الحضر قيود، في الإقامة قيود، وكان يفترض في بلد الاسلام ان يقيم فيه من شاء، وانتهى الأمر؛ لان الارض لله ولمن عمّرها.
ان المشكلة في الإنسان هي انه على عكس الحيوان يمشي على فطرته، أن الانسان يتطبع على القيود الكابتة، كلا بل كما يقول الإمام الحسين (عليه السلام) كونوا احرارا في دنياكم، فإذا لم يكن بعضنا يريد أن يسمع كلام الله ورسوله حيث يقول:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وحيث يقول: "الناس مسلطــــــــــــــون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم" في القاعدة المصطيدة، فليكن حراً على الأقل. فلا قيود على التجارة ولا على الزراعة ولا على العمارة ولا على الحج والعمرة ولا على غير ذلك.
هذه إذن هي رسالة شهر محرم: أن نبني حياتنا، مجتمعنا، وثقافتنا على الحرية، إلا من الحد الذي أقره الله سبحانه وتعالى وشرعه.
حلّ البيعة الظاهرية لماذا؟
نختم بهذه الرواية وفيها دلالة وأية دلالة، بل دلالات، وأية دلالات:
يقول صلوات الله وسلامه عليه مخاطبا أصحابه: "وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا".
لمَ عبّر بـ (اتخذوه جملا)؟ لأن الجمل يُركب عليه لقضاء الحاجة فكذلك ستار الليل اتخذوه كالجمل لقضاء حاجتكم وهي الاختفاء عن اعين الاعداء والفرار من ساحة المعركة المهولة القارعة.
وتجده بأبي وأمي قبل ذلك يقول: وانتم في حلٍ من بيعتي، ليست لي في اعناقكم بيعة.
وهذه البيعة هي البيعة الظاهرية هي العرفية، رفعها عنهم، ولم يرفع البيعة الإلهية، فان تلك لازمة في الأعناق، لكن لماذا رفع البيعة الظاهرية؟ لكي يكون عقابهم لو تركوه وهربوا أقل، انه يحب الناس بما هو بشر وبما هم خلق الله، حتى العدو كان ينصحه بأن يذهب بعيدا (لا تسمع واعيتنا) لماذا؟ كي لا تعذب أكثر في النار!
(هذا الليل اتخذوه جملا)، ساترا واذهبوا. البيعة الظاهرية رفعتها منكم، حقه الظاهري اسقطه الإمام، فأية إنسانية هذه؟ أي مدرسة تربوية هذه؟
وبكلمة موجزة:
هذه رسالاتنا في شهر محرم:
رسالة الهداية والإرشاد، رسالة الخدمة والإنسانية، ورسالة الحرية والمحبة.
ولو اننا اهتممنا اهتماما حقيقياً، علماء وخطباء وأطباء ومهندسين وسياسيين وتجار ومزارعين وعمال وغير ذلك، بهذه الرسالات وبغيرها لتغير وجه الأرض ولدخل الناس في دين الله افواجا ولَكُنَّا ملتزمين عاملين بقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ).
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لنا ولكم للعمل بذلك كله، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.ِ