شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-09-11 08:02
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين.
ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آل بيته الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
يقول الله في كتابه الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم [أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ](1). صدق الله العلي العظيم.
الحديث ـ بإذن الله تعالى ـ سيدور حول عناوين ثلاثة، هي: (شرعية) و(قدسية) و(محورية) نهضة ومبادئ وأهداف وشعائر سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليهما)، بشتى أبعادها وعلى ضوء وفي إطار هذه الآية الكريمة ولنتدبر بدايةً في حزمة من البصائر القرآنية في هذه الآية الشريفة:
التذكير مسئولية الجميع
البصيرة الأولى: إنّ الآية وإن كانت موجهة إلى النبي موسى (على نبينا واله عليه السلام) وهو الذي كان طرفا للخطاب، لكن الأمر المذكور فيها هو أمر عام شامل لكل مكلّف، سواء كان رجلاً أم امرأةً، وسواء كان عالماً دينياً أم شاباً جامعياً، أم موظفاً أم تاجراً، أم غير ذلك.
الرابط بين (ذكّرهم) و(أخرج)
البصيرة الثانية: الآية الكريمة تتضمن أمرين صريحين:
الأمر الأول: [أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]، والمراد بالظلمات: ظلمات الجهل وظلمات التخلّف وظلمات المعاصي وظلمات الابتعاد عن منهج الله سبحانه وتعالى.
ومقتضى هذا الأمر الوارد في الآية الشريفة هو: وجوب أن يبذل الإنسان قصارى جهده لإخراج قومه وشعبه واُمته وجماعته من الظلمات إلى النور؛ نور الهداية، نور الهدى، نور العقيدة السليمة والشريعة المستقيمة، نور الأخلاق الفاضلة، نور القِيَم الربّانية المثلى والقيم الفضلى والمبادئ العليا.
الأمر الثاني: الذي هو محط البحث هو قوله تعالى: [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] حيث ألقى الله على عاتق النبي موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) تذكير قومه بأيام الله تعالى بعد أن أمره بإخراج قومه من الظلمات.
ولعل العلاقة بين الجملة الأولى والثانية، أن الأمر الثاني وهو [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] هو من علل الأمر الأول أي [أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ...]، فإن التذكير المستمر بأيام الله من العلل التي تساعد الناس على الخروج من الضلالة والسوق إلى الهدى، أو يقال: إن الثاني هو من العلل المبقية للأول لا العلل المحدثة.
لكن الظاهر هو أنه لا مانعة جمع بينهما.
والحاصل أن تذكير عباد الله بأيام الله على مدار السنة يعدّ وسيلةً مثلى وفضلى لإخراجهم من الظلمات إلى النور حدوثاً، ثم المحافظة عليهم في دائرة النور والهدي، فإنّ الإنسان لو ذكّر عبادَ الله بشتى العناوين وبمختلف المناسبات بالأحداث والوقائع العظمى من أيام الله: من أعياد إلهية كعيد الأضحى والغدير، أو أحزان ومصائب كعاشوراء أو الفاطمية، فإن هذه تعدّ من إحدى أنجح وأنجع الطرق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
إن الذين يجهلون ويتجاهلون قيمة إحياء هذه المناسبات العظيمة، هم في الواقع قد ضيّعوا طريقة إلهية عقلائية مُثلى لهداية الناس؛ فإن الكثير من الناس في أيام شهر محرم الحرام يهتدي إلى الدين.
الكثير من العصاة يتوجه إلى التوبة في مثل هذه الأيام الحزينة أو في المناسبات والأعياد الإلهيّة، كعيد الفطر والأضحى والجمعة وعيد الغدير ومولد الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في 15 شهر شعبان، وكذا سائر الأيام الإلهية، فإن من مصاديق التذكير إحياء العشرة المهدوية، وكذا إحياء شهر كامل بعنوان أيام الفاطمية، كما يصنع بعض المؤمنين حيث يحيون ذكرى شهادة الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) شهراً كاملاً يصلون فيه بين الفاطميتين(2) بإقامة مجالس العزاء، ولبس السواد، فإن مثل هذا العمل تذكير بأيام الله.
هذه هي النقطة الأولى في أن التذكير المسمى بأيام الله تعالى، له جانب طريقي ومقدمي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالعلاقة الوجودية بين [أَخْرِجْ قَوْمَكَ] وبين [ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] هي علاقة المعدّ والسبب، فإنّ (ذكّر) من الوسائل المعدة والمسببة لإخراج القوم من الظلمة إلى النور.
كلمة (ذكرهم)
البصيرة الثالثة: في الآية الشريفة تتعلق بكلمة [ذَكِّرْهُمْ] وهي من باب التفعيل، وإن من موارد استعمال باب التفعيل هو فيما أريد الكثرة من المادة بمعنى أن المطلوب هو التذكير المتواصل المتكرر وليس التذكير مرة أو مرتين كما في قول المولى: (قطّع الحبل) فإنه يفترق عن (اقطع الحبل) فإن (اقطع) يراد منه اجعله قطعتين، بينما يراد من قطّع اجعله قطعاً كثيرة، وكذا الفرق بين (قَطَعَ الحبل) و(قطَّع الحبل).
فـ [ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] يعني أكثر من تذكيرهم بأيام الله.
ما هي حدود التذكير بأيام الله؟
وهنا يبرز سؤال عن حدود هذا التذكير؟ فهل له حد محدد؟
الجواب: كلا، بل هو مطلوب دائما وأبداً وفي كل الظروف والحالات، ومن جميع الناس، فمثلا: العالم والمبلّغ والمعلّم في دروسه وفي محاضراته، وفي كتاباته، والأب لأبنائه، والأم لبناتها، والأخ لأخيه، والجار لجاره، وكذلك أرباب الحسينيات والمساجد والمدارس والمكتبات وسائر المؤسسات، هؤلاء عليهم أن يّذكروا الناس بأيام الله.
ومن مصاديق ذلك: أن يجد كل من يدخل في أي مستوصف أو ميتم أو مستشفى أو صندوق إقراض خيري أو مصرف، لوحات أو لافتات أو ملصقات تذكر بأيام الله.
فليس لهذا الأمر حدٌ يتوقف عنده، بل هو بمقدار قابلية القابل، وبمقدار علو همة الفاعل، فعلى الإنسان أن يذكّر الآخرين بأيام الله إلى أن يتحقق الهدف الأسمى الذي هو أعلى درجات الهداية.
بتعبير آخر: فإن (التذكير) من الحقائق التشكيكية ذات المراتب، مثل النور الذي له مراتب، مرتبة ضعيفة كضوء الشمعة، ومرتبة متوسطة كضوء القمر، ومرتبة عليا كالشمس الساطعة.
فالإنسان المسئول، عليه أن يذكّر ويذكّر بلا كلل وملل إلى أن تتحقق الغاية المُثلى، وهي خروج الناس بأجمعهم من الظلمات إلى النور، ثم إن اُولئك الذين خرجوا من الظلمات إلى النور لهم أيضاً مدارج كمال ومعارج سمو ورقي واكتمال، وهي تمّر عبر هذه الأيام، ففي مثل هذه الأيام، كالأعياد والوفيات كأيام محرم وصفر وأيام الأربعين، كلما ازداد تذكير الإنسان للناس بها، سواء أكان خطيباً، أم مولّفاً، أم مرجعاً، وسواء أكان محامياً أم طبيباً، أم بقالاً أم مُزارعاً أم عطاراً، ازدادت عوامل السمو والتكامل واقتربنا إلى السعادة وإلى رضا الله سبحانه وإلى النور الإلهي أكثر فأكثر.
قدسية (أيام الله)
البصيرة الرابعة: والتنبيه الآخر في كلمة [أَيَّامِ اللهِ]: إن كلمة (أيّام) قد أضيفت للفظ الجلالة (الله) سبحانه وتعالى [ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] وهذه الإضافة لها قيمة كبرى ودلالة بالغة، وذلك كما لو قلت: فلان خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو فضة خادمة الزهراء (عليها السلام) فكيف لو قلت: الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! لأنّ المضاف يكتسب كثيراً من صفات المضاف إليه، فإذا كان المضاف إليه ذا قيمة ــ شخصية من الشخصيات أو عظيماً من العظماء ــ فان الناس سيحترمونه طبيعيا، وأما إذا كان ذاك الرجل ــ والعياذ بالله ــ شريراً كفرعون وهامان والحجّاج وهتلر وصدام، فقيل مساعد أو سكرتير أو ابن ذاك الرجل الشرير، فإن الناس سيتوخون منه الحذر حتى يثبت لهم بالقطع عكس ذلك.
والحاصل أن هذه قضية طبيعية وهي أن المضاف يكتسب كثيرا من صفاته ومن قيمته أو من معانيه من المضاف إليه.
وفي هذه الآية الشريفة نلاحظ أن [أَيَّامِ] قد أضيفت إلى [اللهِ] فبذلك تكتسب هذه الأيام قدسيتها الخاصة، من انتسابها إلى الله تعالى، كما تقول (الكعبة بيت الله) فإن هذه الأحجار قد لا تكون لها قدسية بحد ذاتها، ولكنها لأنها نسبت إلى الله تعالى وأضيفت إليه (عزوجل)، صارت تحمل قيمة كبرى ودلالات عظيمة.
[وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] وهذه الأيام مثل أيام العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، تكتسب قدسيتها من إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى، وفي آية قرآنية أخرى نقرأ [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ] {سورة الحج:32} لاحظوا جيداً أن من مصاديق شعائر الله هي أيام الله [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] أي: إن أيام الله هي من مفردات شعائر الله، لكن لماذا هي شعائر الله؟ الجواب: لأنها تشعرك بالله، وتُعْلِمك بالله، وتذّكرك بالله.
وبتعبير آخر: توجد لدينا كبرى كلية وهي [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ] وصغرى جزئية وهي [أَيَّام اللهِ]، وبالقياس المنطقي نقول حول مثل عاشوراء أو يوم الأربعين: (يوم الأربعين يوم من أيام الله) و(كل يوم من أيام الله من شعائر الله) (فيوم الأربعين من شعائر الله) أو نظير هذا القياس.
وإذا عرفنا أن (أيام الله) تكتسب قدسيتها من إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى عرفنا قيمة أيام محرم والأربعين، وذلك لأن سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) قد نهض لإحياء دين الله، ولأجل الإصلاح في العباد والبلاد، حيث صرّح (صلوات الله عليه) بقوله:
(إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمة جدي).
ولأن سيد الشهداء (عليه الصلاة والسلام) أخلص نيته وبأعلى درجات الخلوص لله سبحانه وتعالى، وبذل مهجته لله عزوجل وكافة ما يملك، وبأسمى وأرقى وأعلى درجات البذل والتضحية؛ لذلك صار ذلك اليوم من أيام الله؛ لأنه يذكّرنا بالله سبحانه، ويذكّرنا بوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يذكّرنا بعظيم تلك التضحيات، ويذكّرنا بما لم ير وجه التاريخ له مثيلا من أسمى درجات الإيثار والشهامة والبطولة وعزة النفس والإباء والشموخ (شموخ الحق وشموخ الحقيقة وعلو هذا المجد) الذي لا نظير له في عالم الإمكان، إلاّ في دائرة الرسول الأعظم ) وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ومن ثَّم سائر الأنبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) الأمثل فالأمثل.
كما تكتسب هذه الأيام (قدسيتها) من إضافتها (لله) سبحانه، كذلك تكتسب (خلودها) من (الله) تعالى؛ فإن هذه الأيام لا يمكن أن تمحى، فكما لا يستطيع أحد أن يمحو يوم عرفة، لأنه من (شعائر الله) ومن (أيام الله) كذلك لا يمكن لأحد أن يمحو عاشوراء أو يوم الأربعين فإنها من (أيام الله) و(شعائره)، وكم من الطغاة والعتاة والجناة أمثال: المتوكل العباسي وصدام التكريتي (عليهم لعائن الله) حاولوا أن يطمسوا هذا النور وأن يمنعوا زيارة الأربعين، فعلى الرغم من أربعين سنة تقريباً من ذلك الاستبداد الرهيب لكنكم جميعاً تشاهدون ما لا نظير له في العالم كله حيث الملايين من الناس (15 مليوناً أو أكثر) من كل أنحاء العراق وخارج العراق، يأتي الكثير منهم ومن دول شتى، مشياً على الأقدام وفي مسافات طويلة جداً، فمثلا: ينطلق مئات الألوف من البصرة وحدها ليقطعوا مسافة 600 كيلومتر تقريباً مشياً على الأقدام ولمدة 10 إلى 15 يوماً في شدة الحر أو شدة البرد، وكذلك الحال في الرميثة والسماوة والعمارة والناصرية والنجف وبغداد وغيرها من المدن والمحافظات ــ على اختلاف المسافات ــ وحتى من بعض البلاد المجاورة أيضا كما سمعت أن الكثيرين من إيران والبعض من الكويت ومن بلاد أخرى انطلقوا مشياً قبل فتره من الزمن كي ينالوا هذا الشرف العظيم، وهذا يعني أنهم قبل ثلاثين يوماً أو عشرين يوماً انطلقوا على الأقدام ليوصلوا أنفسهم إلى زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهذا شاهد بارز على (يوم من أيام الله) قد اكتسب قدسيته وخلوده من إضافته إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله أبدي سرمدي وما ينتسب إلى الله سبحانه وتعالى، في حدود عالم الإمكان، ستكون له الأبدية النسبية بإذن الله عزوجل.
مناشئ الشرعية
عندما نتصفح أوراق من نهضة سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما صلوات الله وسلامه) نجد أن كل واحد من (مبادئ) و(قيم) و(أهداف) و(شعائر) النهضة الحسينية، تمتلك قدسية استثنائية، كما تمتلك الشرعية المطلقة.
ولكي يتكامل لدينا التصور عن (الشرعية)، لابد أن نسأل عن: ما هو منشأ شرعية شخص أو شيء ما ؟ ومن أين يكتسب الشخص والشيء الشرعية؟
في الجواب نقول: الإنسان قد لا تكون له شرعية بذاته وبما هو هو، بل يكتسب شرعيته من القيم التي يتحلي بها، ومن توافر تلك القيمة فيه، فمثلا (الكرم) يعدُ قيمة من القيم، فإنّ الإنسان إذا كان كريماً فبنفس نسبة كرمه تكون له شرعية ومنزلة ومكانة ومحبة في قلوب الناس، و(العدل) قيمة من القيم فالأب مثلا إذا كان عادلا أو الأم إذا كان تعاملها مع الأولاد بعدل وإحسان فإنها تكتسب بنفس النسبة المحبة والمكانة والشرعية أيضا.
والحاصل: إن من مناشىء تولد الشرعية هو استيعاب الإنسان لقيمة من القيم العليا و كونه تجسيدا حياً لتلك القيمة.
وإليكم الأمثلة التالية:
1. شرعية رجل الدين
عالم الدين يكتسب مكانته ومنزلته وشرعيته في قلوب الناس من (ورعه وتقواه)؛ لذا ترون الناس يبحثون عن عالم دين متصف بالورع والتقوى، فإذا كان هناك شخص لم يجدوا فيه علائم الورع وسمات المتقين فلايعتبرونه حينئذ عالم دين، وإنما يرونه رجلا (متشبها بهم)، إذ مجرد وجود معلومات في الذهن لاتصنع من الإنسان (عالم دين) وإلا لكان الكومبيوتر أكبر عالم!! إن رجل الدين يكتسب قيمته من ورعه وتقواه وخدمته لأهل البيت (عليهم السلام)؛ وكلما كان الورع أكثر ودرجات الورع أعلى وأكبر كانت قيمته أعلى وأسمى.
2. شرعية الخبراء
و(المحامي) أو(الطبيب) أو (المهندس) يكتسب قيمته من إتقانه لعمله ومن خدمته للناس، فإن الطبيب غير المتقن لعمله الناس لا يثقون به، وكذلك المحامي.
وكذلك الحال في سائر شرائح المجتمع، فإنهم يكتسبون شرعيتهم ومكانتهم من إتقانهم لعملهم ومن تجنيدهم عقولهم وطاقاتهم لخدمة الناس وليس لخدمة أهوائهم ومصالحهم الشخصية وإن تعارضت مع مصالح الناس.
3. شرعية مسؤولي الدولة
والمسئول في الدولة ــ وقد يكون وزيراً أو أعلى أو أدنى ــ هذا المسئول من أين يكتسب شرعيته عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس، ولدى وجدانه وضميره هو أيضا؟ إنه يكتسب شرعيته من كفاءاته وحسن عمله، من دفاعه عن المظلومين ومطالبته بحقوق الناس ومن وقوفه بوجه الدولة كلما حاولت تضييع حقوق الناس أو مصادره أموالهم أو حرياتهم، لأن الدولة ما هي إلاّ وكيل وخادم للناس، أي: إن فلسفة الدولة الوجودية هي خدمة الناس. وذلك مثل شخص له في داره خادم، فهل يحق لهذا الخادم أن يتأمر على صاحب البيت؟
إذن المسئول إنما يكتسب الشرعية والقيمة إذا قام بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وخَدَمَ الناس واَطلق الحُريات وسعى في ازدهار البلد وتطوير المؤسسات: المؤسسات الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخدمية، وعضدها ودافع عنها.
إن هذا المسئول يكتسب قيمته من مقدار تصديه لهذه القضايا المفتاحية ومدي إنجازه على أرض الواقع، فما الذي صنعه للثقافة، وما الذي صنعه للزراعة؟ وما الذي صنعه للعمران؟ وما الذي صنعه للأيتام والأرامل؟ ولعامة الناس، وللحريات، وللصحافة، وللجامعات وللحوزات العليمة، والمدن المقدسة، وللخدمات من بني تحتية وماء وكهرباء ومواصلات وغيرها من الأمن والرفاه والتقدم؟
إن شرعيته وقيمته تنبع من ها هنا.
بل قد يقدم خدمة للناس وقد تكون كبيرة لكن كان يستطيع أن يقدم خدمة أكبر، إنه وبنفس هذه النسبة يعد مقصراً ومأثوماً ومحاسباً عند الله ومحاسباً عند الناس وذلك لأنه عند مجيئه إلى هذا الموقع كان عليه أن يجند كل طاقاته لخدمة الناس.
إن المسئول قد يبقى أربع سنوات – أو أكثر أو أقل – في منصبه، وهذه الأيام تنقضي لكن التاريخ لا ينسى، وإذا سحب المسئول وجدانه فإن التاريخ سوف يحاكمه على تقصيره في خدمة الناس؛ إذا طمس المسئول على وجدانه وأغفل الناس بإعلام مضلل، واشترى الأقلام المأجورة فرضاً، فإن الله سبحانه سيكون له بالمرصاد لأنه الشاهد على أعماله، ويجزيه بإحسانه إحسانا وبإساءته نيرانا، فيثاب أو يعاقب على حسب نوع عمل هذا الإنسان.
إذن (الشرعية) و(القدسية) يكتسبها الإنسان من خلال القيم التي تتجسد فيه، ومن أعماله وإنجازاته على أرض الواقع.
شرعية وقدسية نهضة سيد الشهداء (عليه السلام)
حركة سيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسين (عليه الصلاة السلام) تكتسب شرعيتها بل أعلى درجات الشرعية وأعلى درجات القدسية فيها، من تلك القيم النموذجية والمُثُل العليا التي لم ولا يوجد لها نظير، في شتي أبعادها على امتداد العصور والدهور.
فإنكم إذا أردتم (الإيثار) فإن المثل الأعلى في الإيثار تجدونه قد تجسد بأروع صورة وأبهى معانيه في أبي الفضل العباس (عليه السلام) وعلي الأكبر (عليه السلام) وسائر الشهداء (عليهم السلام).
لقد كانوا قمة الإيثار والبطولة والإباء والشهامة والإخلاص الذي لا يشوبه أدنى شك.
وإذا أردتم الصلاح والطهارة فإنّ هذه الحركة الإصلاحية الحسينية تتربع قمة المجد في الصلاح والطهارة والقداسة، حتى إنّك لاتجد نظيراً لهذه الحركة الربّانية والنهضة والثورة المقدسة لكونها من جميع الجهات طاهرة مطهّرة نقيّة خالصة مخلّصة.
حتى الأنبياء الذين قادوا معارك وحروباً ضد الظلم والطغاة كنبي الله موسى والرسول المصطفى (عليهما صلوات الله وسلامه) كان في أصحابهم الصالح والطالح.
في قضية طالوت وفي معارك النبي ) لم يكن كل المحاربين والمشاركين الذين صحبوا النبي ) في غزواته من الصالحين، بل كان فيهم المنافقون وكان فيهم مثل (شهيد الحمار) الذي خرج مع النبي ) كي يحصل على حمار في الجيش المقابل لكنه قُتل، فقال الناس هنيئا له الجنة، فقال النبي ): هذا شهيد الحمار؛ إذ لم يكن خروجه لنصرة رسول الله ) ولا للإسلام، بل لأجل أن يغنم حماراً! فخسر الدنيا والآخرة.
وذلك الآخر أسموه (شهيد اُم جميل) لأنه قاتل ليغنم امرأة كانت في صف المشركين مسماة بأم جميل، فقُتل، فسمي بشهيد أم جميل.
أما حركة سيد الشهداء (عليه السلام) فلقد كانت مثالية من كل الجهات، وللبحث تفصيل نتركه لوقت آخر.
وبكلمة: اكتسبت حركة سيد الشهداء (عليه الصلاة والسلام) وخروجه وقيامه ونهضته وشعائره أعلى درجات القدسية والشرعية، من أنها التجسيد الأسمى والأعلى والأجلى لكل القيم الربانية والإنسانية، بل إن المثل العليا التي قد نبحث عنها في الخيال فلا نجدها، هي موجودة في هذه الحركة المقدسة.
لكن ما هو واجبنا نحن؟
نشير في هذه العجالة إلى مسئوليتين رئيسيتين:
مسئوليتنا تجاه النهضة الحسينية
المسؤولية الأولى: مواجهة الظلمة ونصرة المؤمنين.
يقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي ابن أبي طالب (عليه الصلاة وأزكى السلام): (ألا وإنّكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(3).
إننا لا نستطيع أن نكون كشهداء الطف سمواً ومجداً وشرفاً إلاّ إن علينا قدر المستطاع أن نهذّب أنفسنا ونربّيها كي نتأسى بشهداء الطف في التحلي بتلك المُثُل العليا والقيم الفضلى، فعلينا أن نخلّص نيتنا لله تعالى وأن نتصدي للمنكر، وللطغاة والظلمة، وفي أي موقع كانوا وبمختلف السبل، وعلينا أن لا نخاف من الظالم، بل نعتمد على نصرة الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ](4).
نعم المؤمن عليه أن يكون بطلاً شهماً ليثاً هزبراً ضرغاماً، لا يخضع لحاكم مستبد أو مستعمر مستكبر أو ظالم جائر بل عليه أن ينهض في مقابل الباطل وفي مقابل الظلم والجور، أمّا بالنسبة للمؤمنين فعليه أن يكون معهم، خلوقاً طيباً متواضعاً، يخفض لهم جناح الذل من الرحمة: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ](5).
وذلك حتى بالنسبة للمنافسين، كما لو وجدت عشيرة منافسة، أو هيئة أو مؤسسة أو كلية أو صحيفة أو مجلة أو إذاعة أو قناة فضائية منافسة، فعلى المؤمن في أي موقع كان أن يمد يد العون للآخرين من أي تجمع أو جماعه كانوا، بل حتى لو كان التنافس من الفريقين على أشده، إن ذلك هو ما يرضي الله ويرضي سيد الشهداء (عليه السلام) وأخاه أبا الفضل العباس (عليه السلام)، قال تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى](6).
والسبب في ذلك واضح، إذ إنه توجد هنالك ــ على مر التاريخ ــ جبهتان: جبهة الحق وجبهة الباطل، جبهة النور وجبهة الظلام، جيش الهدى وجيش الضلالة، جيش الرحمن وجيش الشيطان، وعلى الإنسان أن يكون في جبهة الحق، في جبهة (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا) و(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)(7) كما قال رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ففي هذه الجبهة الإلهية الرحمانية يجب أن نقاتل على امتداد الأزمان، ويجب أن يتعاضد بعضنا مع بعض دون أن تفرقنا العصبيات أو القوميات أو الحزبيات أو الطبقات أو غيرها.
وفي الجبهة الأخرى يوجد أعداء يحاولون أن يستهدفوا أهداف وقيم نهضة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، ويحاولون أن يستهدفوا شرعية نهضته المباركة، وإن لم يستطيعوا استهداف الشرعية يحاولون أن يستهدفوا قدسية هذه النهضة أو بعض مبادئها وقيمها وما أشبه ذلك، لكنهم بلا شك يخيبون، والدنيا دار امتحان وهم يمتحنون ونحن نمتحن في ذلك أيضا.
مواجهة من يستهدف قدسية النهضة الحسينية
المسؤولية الثانية: مواجهة أولئك الذين يستهدفون قدسية أو أهداف أو شعائر النهضة الحسينية المباركة، وذلك بتأسيس المزيد ثم المزيد ثم المزيد من مراكز الدراسات الحسينية، والصحف والمجلات والقنوات الفضائية، والهيئات والحسينيات والمجالس، وأيضا تأسيس كليات خاصة في جامعاتنا متخصصة بدروس النهضة الحسينية، وآثارها وأبعادها وسبل تحصين المكتسبات وتطوير الأداء، وأيضاً التصدي العلمي والمنطقي والفكري لأولئك الذين يحاولون بطرق مباشرة أو غير مباشرة إضعاف وَهَج وإشراقة ونور وقداسة النهضة الحسينية الربّانية المباركة.
ومن الأمثلة على ذلك: كنت أقرأ مقالاً علميا تحقيقياً! في مجلة معروفة إسلامية لأحد الكتّاب الذين تخرجوا من بعض المدارس الغربية التي تثقّف روادها بثقافة انهزامية بل انبطاحية وبمنهج مغاير لمنهج الإسلام وقيمه، وبرؤية أخرى تختلف عن الرؤية الدينية والإسلامية بشكل جذري، ذلك أن الغرب يقيّم الإنسان بمنظار والإسلام يقيّمه بمنظار آخر، وإننا لا نستطيع أن نستخدم ذلك المنظار الناقص المشوه البشري، الذي تحكمت فيه الأهواء والشهوات لتقييم حركة إلهية.
المهم أن كاتب المقال أراد أن يقوم بدراسة عليمة! لبطولات شهداء معركة الطف، وحاول أن يقوم بعملية تشريحية وتفكيكية من خلال هذه الدراسة بتلك الأدوات المشوّهة التي ورثها من الغرب.
أدوات معرفيّة يسمونها "القواعد" والتي هي في واقعها (فرضيات) وليست حتى (نظريات) وليست إلاّ نِتاج استقراء ناقص، وليست إلاّ حصيلة مواقف فكرية مسبقة متحيّزة(8).
هذا الكاتب أراد أن يدرس واقعة الطف وروايات واقعة الطف وما جرى في معركة الطف من بطولات سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه سلام الله) وأبي الفضل والعباس وعلي الأكبر (عليهم الصلاة وأزكى السلام) وحبيب بن مظاهر وزهير ابن القين وبرير وبقية الأصحاب الأبرار (عليهم السلام)، لكن الدراسة هذه كانت على ضوء خلفيّة معرفيّة انهزاميّة غربيّة، مستخدماً بعض الأدوات البسيطة المتواضعة من البحوث التي اكتسبها من الدراسات المُجيَّرة للوصول إلى نتائج محدودة من قبل، ولذا كله نجده يقول: هل يعقل أن الإمام الحسين (عليه السلام) صدرت منه أمثال تلك البطولات الخارقة؟ أو من أبي الفضل العباس أو علي الأكبر؟
وحقيقة إن الإنسان عندما يقرأ مثل هذا المقال يستغرب من مدى ضحالة المستوي المعرفي لهؤلاء، ومن مدى سذاجة أدواتهم العلمية التي يستخدمونها لتحليل الوقائع التاريخية، وأول ما يلفتنا في أمثال هذه الدراسة: أن أمثال هذا الشخص، في أعماقهم وفي لاوعيهم، اعتبروا مقياس الصحة والسقم في تحليل أية قضية تاريخية: (حدود قدراتهم هم) و(مستوى وعيهم هم) لذلك فإنه ليست بمقدوره أن يهضم أعمال العظماء ولا أن يتخيل إنجازاتهم.
إن هذه الشخص لم يكن بطلاً في يوم من الأيام ويبدوا أنه لم يشاهد في عمره أبطالا كباراً، ويبدوا أن أفقه الفكري محدود جداً، لذلك هو لا يستطيع أن يتصور عظمة البطل ومدى قدراته وحدود إنجازاته فكيف له أن يتصور بطولة العباس (عليه السلام)؟
ولتقريب الفكرة نمثل بشخص يعجز عن حمل (50) كيلوغراما ثم إذا سمع بأن فلاناً قادر على حمل (500) كيلو فإنه إذا كان ذا أفق فكري محدود لا يصدق ذلك، خاصة إذا كان مغروراً بنفسه، معتداً بقدراته، فإذا لم يكن قد رأى أبطالاً وكان يعيش في غرفة منعزلة بين مجموعة من أناس يشبهونه فإنه يستخدم أدوات مادية فكرية محدودة وقواعد اختلقها فكر الإنسان لينكر بعض أعظم الحقائق!
وفي الواقع أن الهدف من أمثال هذه الدراسة العلمية ـ والتي كثرت في الفترة الأخيرة ـ ليس كما يدعون الوصول إلي الحقيقة بل الهدف هو إيجاد نوع من الوهن والضعف والتشكيك في هذه الشرعية والقدسية اللامتناهية والتي ملأت أجواء التاريخ، ولكن [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ](9).
وقالت السيدة زينب (سلام الله عليها): (فَكِد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا)(10)، وقالت (عليها السلام): (ليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علواً)(11).
وفي الختام نقول: إن كثيراً من القواعد التي أرسوا دعائمها في علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي والإدارة والتاريخ ودراسة التاريخ، لهي مخلوقة لهذا الفكر البشري، كما أنها محدودة بحسب العقل البشري، ولاتصلح أن تكون مقياس "حق وباطل" فكيف يستند إليها من يعترف بنسبية المعرفة.
هذا مع قطع النظر عن الأهداف المبيّتة لبعض هذه القواعد والتي بعضها تستهدف البنى التحتية للدين والقدسية والشرعية، لكن تحت غطاء علمي حضاري!
فالعدو إذن استهدف هذه الشرعية وهذه القدسية بعناوين شتى لكن هيهات هيهات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويجعلنا وإياكم من الذين يذكّرون الناس بأيام الله، على مدار السنين والأسابيع والأيام، وما ذلك على الله بعزيز، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.