المعرفة الفلسفية والتقاطع البراجماتي
علي محمد اليوسف
2022-08-02 08:01
احدى مقولات كانط مثار نقاش جدلي قوله ( المعرفة تبدأ بالتجربة ولا تنشأ عنها) وبداية الاصطدام بجدار الممانعة في قبول تمرير صحتها القلقة يأتي من الفلسفة البراجماتية (الذرائعية) الامريكية التي تعتمد مفتاح المعرفة ليس في ادراكها العقلي المنظم الذي يصل حد تطابقها مع الواقع وبذا تكتسب جواز مرورها غير الصائب دليل ذلك قول هيجل ماهو عقلي واقعي وماهو واقعي عقلي وإن شاب تعبير هيجل الكثير من التبسيط المخل منها تغييبه التجربة العملانية التي استثمرتها الذرائعية الامريكية افضل استثمار نوعي فلسفي حين اعتبرت نجاح كل معرفة هما التجربة وتحقيق المنفعة منها وليس الاقرار بثنائية صحة تطابقها الادراكي العقلي مع الواقع.., عبارة هيجل كل ماهو واقعي عقلي وكل ماهو عقلي واقعي هي تعبير عن الادراك وليس تعبيرا عن معرفة الشيء وتجربة الانتفاع منه. الادراك هو غير معرفة الشيء التام بالتجربة العملانية.
وليس ادراك الشيء ومعرفة خواصه يمنحه تلقائيا (التجربة ) العملانية الصائبة من حيث تستطيع منظومة العقل الادراكية (الحواس + شبكة الاعصاب + الدماغ) ان تمنح الافكارنتاج العقل التفكيري في مطابقتها الواقع لكنها تبقى تلك الافكار فاقدة المشروعية التجريبية كي تكون فكرة عملانية قابلة للتطبيق الناجح على ارض الواقع وفي تطبيقها تتحقق المنفعة العامة بالحياة.
مفتاح المعرفة في الفلسفة الذرائعية أن التجربة العمليانية للافكار هي الفلترة التجريبية الوحيدة المقبولة التي تقود صحتها الفكرية بعد نجاحها الاختبار التجريبي تحقيقها المنفعة المجتمعية التطبيقية بالحياة والواقع. بمعنى مختصر التجربة العملانية للتاكد من صحة وصوابية الافكار المجردة ونتائجها تسبق تفكير العقل بها ونتائج مدركاته عنها. والتجربة الاختبارية العلمية والفكرية اجدى نفعا من تفكير العقل المجرد التنظيري غير الخاضع للتجربة التطبيقية.
تفكير العقل لا يكون على الدوام انتظاما صائبا في معرفة حقيقة مدركاته كونه يعتمد الحواس التضليلية للعقل وليس التجربة.. ومصادقة مقولات العقل القاطعة صحتها مقارنة بالمدركات الناتجة عن التجربة السابقة عملانيا لافكار مجردة تكون هي الاصوب والاكثر رجحانا من نظامية الافكار الادراكية المجردة الصادرة عن العقل بدون تجربة تطبيقية اختبارية لها.
العقل لا يدرك حقائق الاشياء بتمام وكمال المعرفة الادراكية. مثلها كمثل الحواس فهي لا تنقل الاحساسات الخارجية عن موجودات العالم الخارجي من حولنا في تمثّلها حقيقة تلك المدركات حسيّا ايضا الى الذهن حيث تكون تلك الاحساسات المنقولة انطباعات لم يخضعها العقل بعد للتجربة ليتاكد من صوابها. ولذلك قيل الحواس خادعة للعقل مثال ذلك رؤية السراب في صحراء على انه ماء.
بحسب فهمنا العبارة بمقاربة اخرى نقول كانط اراد بمقولته الاشكالية الفلسفية المعقدة ( المعرفة تبدأ بالمعرفة ولا تنشأ عنها) ان المعرفة حسية تبدأ بالحواس ولا تنشا عنها من غير مرورها التجريبي عبر منظومة العقل الادراكية التي هي الاخرى اي التجربة حسب كانط ليست كافية لمرور صحة الاخذ بتلك الافكار المعرفية التي استوفت كمال التجربة العقلية. في حين يؤمن كانط ان قالبي الادراك العقلي الزمكاني هما قالبان فطريان مزروعان بالعقل بغيرهما ينحل ويتلاشى الادراك ولا يوجد اثبات برهاني يقبله العلم والعقل عليه.
ومع تطور تجربة كانط الفلسفية اعترف قبل وفاته بفضل ديفيد هيوم عليه قوله هيوم انقذني من وهمي الدوجماطيقي حيث انكر هيوم خرافة الافكار الفطرية الموروثة باستثناء ما تورثه الجينات في تكوين صفات الكروموسومات في DNAللشخص.
نظام الافكار العقلي في مطابقة الواقع ادراكا تكامليا صحيحا لا يعني ان ذلك الانتظام اكتسب الصفة التجريبية الصالحة للتطبيق الناجح بالحياة. صحة الافكار يشترط اكتسابها الصواب النفعي المطلق للحياة في اجتيازها الفلترة التجريبية انها صائبة صحيحة اولا ومن ثم مطابقتها المعرفية التكاملية مع العقل في تحويله تلك الافكار من التجريد المنظم الى تكاملية تطبيقها الميداني التجريبي الناجح بالحياة.
اكتساب المعرفة المجردة تنظيريا عن الاشياء لا يعني أن افكارها النظرية متسقة تماما تنظيريا تجريديا بما يقبله العقل عوضا عن التجربة العملانية الميدانية. بل اكتساب المعرفة يجب ان تهدف الى تطبيق ينتج لنا منفعة مجتمعية. لا يكفي تمرير صوابية الافكار من قبل العقل ان تكون ناجحة في التطبيق.
بمعنى تعبيرنا في استعارة غير نصية لمقولة بروتا غوراس القرن الخامس قبل الميلاد الانسان مقياس كل شيء يعني البذرة التي زرعها بروتاغوراس ان الافكار السفسطائية التي كانت تهمة تلصق بالسفسطائيين وبروتاغوراس احدهم انهم باعة كلام نقاشي حواري مرتكزه مقارعة الحجة بالحجة للوصول الى قناعات فكرية فلسفية مجردة لا علاقة لها بالواقع والحياة بل بالميتافيزيقا البدائية في معنى الوجود والطبيعة ما قبل ظهور ميتافيزيقا التدين..
لماذا تكون المعرفة صائبة وصحيحة عملانية بعد مرورها بنجاح في اجتيازها التجربة.؟ المفارقة التي مهدت الى ان تعتبر الذرائعية منفعة الافكار هو في مرورها التجريبي واجتيازها الاختبار بما يقبله العقل في اشتراط تطابق صحة التجربة بما يحقق منفعة واقعية مجتمعية عملانية وليس انتظاما فكريا عقلانيا مجردا يمرره العقل من دون تجربة ميدانية لها.. .
بمعنى الفكر بعد التجربة البعدية ليس لمعرفة صحة الفكر الانتظامية النسقية التجريدية في توصيفها الواقع. بل الفكر بعد التجربة الميدانية الاختبارية يغادر خاصيته التجريدية ولا يبقى فكرا انفصاليا عن واقع الحياة غير تجريبي منظما في اكتسابه قبول العقل تمرير تعبير اللغة عنه واخذ مجاله التطبيقي العملاني في تحقيق منفعة بالحياة.
في اختلاف فهم كانط التجربة انها بداية صحيحة لكل معرفة لكنها لا تنشأ عنها مراوغة لفظية في الالتفاف على ان اسمى حقيقة معرفية هي ناتج تجربة واقعية صالحة للتطبيق وهو ما يأخذ به العلم .
نعم يوجد الكثير جدا من المعارف المكتسبة كبديهيات موضوعية لا تحتاج برهان تحققها بالتجربة العملانية لانها اصبحت ليس ناتج تجربة بل ناتج معرفة تنظيرية اخذت مداها التطبيقي الناجح بالحياة بالتكرار الدارج النافع.. وهو ما لا يأخذ به هيوم وجون لوك وبيركلي.
كانط في مقولته الفلسفية الاستعصائية على الفهم التوضيحي الفلسفي او العلمي كان يريد اختزال صدق المعرفة انها عملية عقلية صرفة لا علاقة لها بالتجريب الذي يسبق التطبيق العملاني.
ويعتبر كانط ادراكات الحواس وشبكة المنظومة العصبية والعقلية هو بداية تجربة اصيلة تقودها منظومة العقل الادراكية كتجريد لكنه لا يمتلك برهانه على انه يمثل ادراكا حقيقيا صائبا ناجزا للعقل.
افكار العقل التجريدية غير التجريبية التي لم تمر بمختبر فلترة الحياة لها لا قيمة حقيقية لها كونها محاورات على صعيد معنى اللغة بما هي لغة وليس معنى اللغة بما هي وسيلة ادراك معرفي يتوسّلها الانسان في تبديل الحياة الى الافضل.. يلاحظ هنا كم كانت الذرائعية الامريكية تمهيدا فلسفيا امام فتح اشكالية معنى اللغة لتصبح هذه الاشكالية الفلسفة الاولى بعد النصف الثاني من القرن العشرين بعد انتشار تيارات فلسفة اللغة ونظرية المعنى اللغوي وفلسفة العقل ونظرية الوعي المقصود وعلوم اللسانيات وغيرها قامت في بعضها كبدايات سرعان ما تخلت عنها مثل الفلسفة البنيوية وبعضها الاخر اصبح نهايات موغلة في غرابة التجريد وتطرفه في التضاد التفسيري الفلسفي في البحث عن معنى فائض اللغة كما في الفلسفات التاويلية والتفكيكية والعدمية وغيرها.
ما تنقله مدركات الحواس هو انطباعات عابرة للذهن نحو الدماغ. وما يصدره الدماغ من مقولات معرفية ينقلها الوعي وتعبير اللغة في تفسير الادراكات التي تناولها الدماغ هي ليست صائبة وحقيقية ونافعة ما لم تمر بالتجربة العملانية في معرفة صدقها من عدمه. وهي ناتج مدركات حسية لم تخضع لتجربة التحقق من صدقيتها الميدانية في التطبيق المجتمعي النافع.
من المسائل الجوهرية الفلسفية الهامة في فلسفة كانط حول الادراك والمعرفة مقولته الزمان والمكان لا يدركان كموضوعين منفصلين في المعرفة. بل هما ثنائية واحدة في التكامل الادراكي لا تنقسم على نفسها باستقلالية مادية يدركهما العقل كلا بمفرده. كل منهما موضوعا بذاته. يدركهما العقل موضوعين مكان وزمان كما يدرك بقية الاشياء المادية وغير المادية الخيالية.
والزمان والمكان في تعالقهما الثنائي هما وسيلة ادراكية كما يعّبر كانط الزمان والمكان قالبي ادراك فطريان مزروعان بالعقل لا يمتلك العقل امكانية التحكم بهما لانهما يفقدانه خاصية التفكير اذا ما اراد العقل معرفتهما اليقينية كموضوعي ادراك معرفي له. ويكونان بالنتيجة وسيلة ادراك للعقل وليس موضوعا يدركه العقل انطولوجيا.
هنا بهذا الفهم كانط يعتبر الادراك معرفة ليست يقينية صحيحة مطلقة ليس لانها غير مكتسبة كامل صوابها المتحقق بالتجربة كما ذهبت له البراجماتية بعد قرنين من الزمان على افكار كانط. بل كانط كان يشير الى بديهة علمية فلسفية الى ان كل مدركاتنا ومعارفنا هي مراحل زائلة بالتقادم الزمني عليها في تحقق الافضل. اي نسبية المعرفة وليس تجاوزها للقديم بسبب فشله وفقدانه للتجريبية الميدانية فقط...ما يدركه العقل قد يبدو حقيقيا واقعيا, لكن ليست كل حقيقة في موجود واقعي مدرك يمكنه ملازمة الصفة المعرفية المطلقة والنهائية له.
العليّة (السببية) التي انكرها هيوم وتأثر بها كانط ملخصها انها ليست وسيلة معرفية بل هي اداة تضليل العقل في متاهات متعاقبة متوالية لا تقف عند حدود معينة. هنا اذا اعتبرنا العليّة هي سبب لتحقق نتيجة افضل نكون دخلنا في دوامة من السيرورة التغييرية المستمرة اللانهائية وهذه سنة الطبيعة وحياة الانسان عليها وتعالقه الثنائي بها.
كل علّة قبلية تقود الى عليّة بعدية تكون فاعلة ومتجاوزة لما قبلها. وبهذه العملية الميكانيكية المستمرة في تعاقب سبب ونتيجة الى ما لا نهاية له. نصل بعدها الى حقيقية صادمة للعقل هي التوقف امام علّة بلا معلول وموجود مخلوق بلا خالق, هو الله. لتثار اسئلة لها بدايات لا نهائيات لها ترافقها اجوبة اكثر دهشة استعصائية من التساؤلات نفسها في مناقشة تفاصيل في الميتافيزيقا بلا جدوى. عندها يصبح البحث عن الحلول جزء مغذي لادامة استمرارية حيوية الاشكالية المستدامة في معالجة ثنائية السبب والنتيجة وليس الاسهام بادنى حل لها تعليلي في اعطاء البديل كما فعل هيوم وفشل فشلا ذريعا.. هيوم انكر السببية وانكر العقل لا مجال تفصيلها.
هذه المتوالية من السيرورة سبب ونتيجة توقف العقل البشري الذي يؤمن بالعلة والنتيجة على انهما متواليات لا نهائية تحكم الكون والطبيعة والانسان والاهم من كل ذلك ان العقل اعتاد قبول ادراكهما كموضوعين تجمعهما ثنائية واحدة تقبل القسمة على نفسها بما يسهل مهمة العقل الادراكية التسليم بها وصحة الاستدلال المعرفي بتوسيلها التوظيفي.
الفيلسوف ديفيد هيوم انكر ان تحكم حياتنا السبب والنتيجة على انهما وسيلة ادراك معرفي لنا واعطى امثلة فلسفية تناقض ما اطلق عليه هيوم تسليم العقل الجمعي بنتائج تكرار السبب والنتيجة انهما بديهية ثنائية اكتسبت برهانها الحقيقي بمرور الزمن (عادة) اعتادها الانسان بالحياة ليست بحاجة البرهنة على عدم وجودها كحقيقة علمية. وهذا برأيه غير كاف بحاجة الى برهنة موثوقية عليه. معتبرا ثنائية السبب والنتيجة (عادة) من الاعتياد المقبول في المجتمع وفهم مسار الحياة.
باشلار وتنظيم الذاكرة
باشلار في تاكيده اهمية الاستذكار الزمني لوقائع الماضي يدخل برومانسية تصنع من العاطفة معرفة ما فوق عقلية ادراكية تتعامل مع العلم قبل النفس وتجلياتها العاطفية تتجاوز التحقيب الزمني الموزع بين الماضي والحاضر والمستقبل وهذا التحقيب بذاته اشكالية في تداخل زمني لا يمكن الفكاك منه. يبدأ بوهم الحاضركزمن ليكون التحقيب الزمني مقتصرا على تداخل ماض ومستقبل فقط.
يقول الفيلسوف العلمي جاستون باشلار ( الانسان لا يتذكر بمجرد التكرار وانه لا مناص له من تركيب ماضيه فالسمة هي حكاية النزوع في الانا, ومع الاستذكار لا يكتمل عمل التذكر ابدا. فالاستذكار لا يتناهى عندما ينتهي الحدث. لأن الذاكرة تكتمل بالصمت ) ص 67 من كتابه ( الزمن والجدل).
تنظيم الذاكرة كخبرة تخزينية تراكمية مكتسبة ليست فطرية معرفية ترتبط بالذهن ولا ينوب عنها يكون عملا ذاتيا تحكمه الذاكرة والارادة والوعي القصدي النفعي بالحياة.
مخزون الذاكرة هو وقائع استذكار الماضي الذي حدثت به برغبة ارادة ذاتية قصدية من الفرد. وبغياب تنظيم ارادة الاستذكار كحوادث من الماضي يلعب المخيال التصوري الناقص او الفائض دورا مهما في تعويض نسيان استذكارات الذاكرة. الذاكرة في الكثير الاعم تكون ناقصة الاستذكار بتقادم الزمن على مخزونها اتراكمي الخبراتي. لذا يقوم الخيال بتويض النقص الاستذكاري الى اضافة مالم يكن حدث في وقائع الماضي والتلاعب فيها تحت رغائب عديدة تخون التاريخ الصادق.
علينا هنا اثناء ممارستنا الاستذكار الماضي ان ندرك جيدا ان زمن الاستذكار هو غيره زمن التحقيب الوقائعي التاريخي. ما يرتب على هذه الحقيقة ان الماضي وقائع تاريخية تعرف بدلالة زمنية محايدة تلازمها ولا تكون جزءا منها. اي نحن ندرك الماضي كتاريخ وليس كزمن. والشيء المهم ان عملية الاستذكار زمنها الوهمي هو الحاضر الذي نعيشه. والحاضر زمن وهمي افتراضي وليس وجودا زمنيا ندركه بدلالة زمنية لا يدركها العقل. توجد نظريات فلسفية حديثة تنكر وجود زمن لا يدركه العقل.
السؤال هو لماذا نحن بحاجة الى تنظيم ماضينا في استذكاره كوقائع تاريخية وليس كزمن يحتوي تاريخه.؟ هنا الاستذكار يكون في وقت اكتسب فيه الماضي ثبات تاريخه كوقائع حدثت بتاريخ تدويني معيّن. الاستذكار يزامنه النسيان في حال كونه اي الاستذكار تجريدا مصدره الخيال وليس وقائع التاريخ المدوّنة.
وعندما نقول استذكار وقائع التاريخ فلا نقصد بهذا التاريخ تاريخ الحكام والحروب ونشوء الافكار الفلسفية والعلمية. وانما الماضي كتاريخ يشمل السير الذاتية العمرية للانسان كفرد عاش تاريخه الشخصي في تنمية ذاتيته ويستذكره حاليا كمعرفة او حلم يقظة او رومانسية حالمة يانس نفسيا بها.
علينا التوقف قليلا امام عبارة باشلار المنقولة عنه ( الاستذكار لا يتناهى عندما ينتهي الحدث لان الذاكرة تكتمل بالصمت ) نقلا عن المصدر السابق. هنا حسب تعقيبي المتسارع افهم ان الصمت اما ان يكون تفكيرا بموضوع مادي او استذكارا لحوادث الماضي دونما التعبير عنها بلغة الصوت ولا بلغة الكتابة بل يكون التعبير عنها بلغة الصمت. واما ان يكون الصمت استذكارا لموضوع مصدره خزين الذاكرة وهنا تلعب لغة الصمت اعلى اخصاب تخييلي للفكرمن دون ملازمة تعبير اللغة عنه.
الاستذكار والزمن
بالعودة الى ان الاستذكار في حقيقته يجمع زمانين, زمن الحاضر الذي يحصل فيه الاستذكار لحوادث الماضي, والزمن الماضي الذي وقعت فيه الحوادث التي اصبحت ثوابت تدوينية. امام هذه الحقيقة تكون عملية الاستذكار مزدوجة لا تتم وتكتمل الا بالصمت الذي يجعل من الذاكرة التخييلية تحقيبا من الماضي في تكامله حاضرا لم يعد محتاجا لزمن آخر يلازمه.
نرى مهما التذكير ان جاستون باشلار يشاطر رأي ليفي شتراوس في فهمهم كفلاسفة البنيوية انهم يعتبرون الكتابة انثروولوجيا سابقة على لغة الصوت ويعّبر بيار جانيه عن ذلك مقولته ( كل ما انشأه الانسان في البداية هو السرد وليس التسميع على الاطلاق) نقلا عن كتاب باشلار الزمن والجدل. هنا واضح بيار جانيه يحاول تغليب اختراع الانسان للكتابة قبل اختراعه لغة الحوار الصوتية.
ارى تنظيم الذاكرة خارج حسابات باشلار في محاولته تطويع الزمان والمكان لما ترغبه النفس والعاطفة الحالمة ان الماضي هو الحاضر والمستقبل بدليل غنى الماضي مقارنة بفقر الحاضر والمستقبل. وافضل الاشياء التي يتغنى بها باشلار في حلم اليقظة هو ما انجزه الماضي فقط ويستذكره بحنين عاطفي طاغ على العقل والوجود في زمن يعيشه في الآن.
معنى لغة الاستذكار
المعنى باللغة دلالة تجريدية متموضعة بالاشياء المدركة وبالمواضيع التي مصدرها الخيال. وكلا الموضوعين يتم التعبير عنهما بلغة الصوت او لغة التدوين المكتوبة بنفس الآلية الابجدية التي يتعامل بها شعب من الشعوب او امة من الامم. بمعنى لغة التجريد في التعبير عن مدركات العالم الخارجي وموضوعات الخيال الصامتة هي تفكير تجريد لغوي ابجدي باختلاف صوت اللغة خارجيا وصمت اللغة داخليا.
يذهب فلاسفة السلوك اللفظي اللغوي يتقدمهم سكنر معنى اللغة وعي قصدي يروم البحث عن فهم اكثر مما يعرفه في فائض المعنى اللغوي الذي لم تفصح عنه اللغة.
والمعنى اللغوي الذي دافعه ومصدره سايكولوجي هو محاولة فرض المعنى الذهني على الشيء المقصود في محاولة تطابق ما في سايكولوجيا قصدية تفكير الذهن مع واقع الشيء المادي في العالم المحيط بنا. اصحاب فلسفة السلوك اللفظي يؤمنون بان اللغة هي سلوك نفسي يمارسه الفرد داخل مجتمع.
الوعي السايكولوجي القصدي لا يحمل معنى متحقق بالضرورة القصدية, بل احتمال كبير ان المعنى اللغوي المتموضع بالاشياء يقاطع الوعي القصدي قبل التحقق الادراكي الذي ينفرز عنه صحة او خطا المعنى المقصود.
الارادة والزمن
الارادة الانسانية لا تخلق زمانا لها ولا ازمنة لغيرها. الارادة حاجة ينفذها السلوك للوصول الى تداخل تخارجي مع ثلاثة عوالم هي :علاقة الارادة بعالم الذات والنفس, وعلاقة الارادة بموجودات العالم الخارجي, وتخارج الارادة مع عالم الخيال المستمد من الذاكرة. الارادة الانسانية لا تخلق زمانا خاصا ولا ازمنة جمعية, والارادة لا تقود الزمن, بل الارادة كما ذكرنا تدخل في علاقة تخارج غير جدلي بل تخارج معرفي تكاملي مع مواضيع يدركها الانسان موزعة عديدة ويتعامل معها الزمن بحيادية انفصالية عنها .الارادة الذاتية والزمن جوهران يتحدان معرفيا وينفصلان بالصفات والجوهر.
الاستذكار المكاني والنفس
الاستذكار في فهم جاستون باشلارالذي يمارسه ويعتمده في المخيال القائم على حلم يقظة يستحضر المكان من الماضي ويبني عليه استثارة نفسية تجعله ينتشي بنوع من تغييب الحاضر في استجلاب ما يعلق بالذاكرة من غبطة ونشوة يكون عاشها بنفسه. وتنظيمه الاستذكار هو تنظيم مخيال الذاكرة بضوء رغائب النفس.
تنظيم الاستذكار لدى باشلار تتم ممارسته باستجلاب قطوعات تذكريّة من الوقائع التاريخية التي مركز الاستثارة بها المكان وليس الماضي كزمن مجردا من ملازمته المكان. وهذا الاستذكار ذاكرة تنظيمية عمادها استثارات نفسية بل كل ارادة نفسية لا علاقة لها بثوابت من الماضي كزمن يحتوي حوادثه الخاصة به.لماذا يكون الاستذكار متجها نحو الماضي وليس نحو المستقبل. هل لان الماضي حوادث ووقائع تتسم بالثبات الذي يصلح معيارا للقياس النفسي؟ والمستقبل مجهول هلامي لا تجارب نفسية فيه تقود الى اهمية استذكاره. والذاكرة لا تنظم نفسها ذاتيا بمعيار مستقبلي لم يعرف بعد ولم يكتمل كحضور مكاني تكون للنفس ذكريات فيه.