الاسقاط النفسي والزمن
علي محمد اليوسف
2021-06-16 07:09
لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟
لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق بالصورة الالزامية التي ذكرناها. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.
وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) الذي يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا مدركا، يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها مطلقا ماهويا غير مدرك. كلتا الدئرتان المنفصلتان عن بعضهما البعض ماهويا.
فالفكر الاستذكاري لما ترغب النفس إستعادته من الماضي ماهيته الادراك الخيالي، ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق الزماني غير المدرك عقليا.
من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضيا بدلالة تحقيب نفسي لازماني لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التام عن النفس. وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للانسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست مطابقة زمن التاريخ الاستذكاري له ونحن نعيش الحاضر.
في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها ليس فقط بسبب مطلقية الزمان اللانهائية الازلية غير المحدودة بل لعدم المجانسة بين ماهية النفس كمدرك وماهية الزمان كمطلق أزلي لا يدرك. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته كون وعي الذات خاصيّة عقلية ينفرد بها الانسان وحده.
الزمان والطبيعة جوهران متلازمان غير متجانسان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه هما ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا على إعتبار الزمان وسيلة إدراك وليس خاصيّة ادراك كما يمتلكها العقل، ولا يكون الزمن ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة.
علاقة الطبيعة بالزمن يحددها ويدركها الانسان، وليست علاقة الزمن بالطبيعة علاقة بينية خاصة بينهما يستطيعان تنظيمها خارج تداخل العقل الانساني في إدراكه تلك العلاقة علاقة الزمن بالطبيعة علاقة يحددها العقل الانساني فقط ولا تمتلك تلك العلاقة قابلية تحديد نفسها لا من الطبيعة ولا من الزمن حتى لو امتلكا خاصية تجانسية تجمعهما.
هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن ما يدركه الانسان زمانيا هو إدراك متزامن مع مكان، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراك المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.
حين عبّرت في أسطر سابقة الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه إنما أردت تأكيد حقيقة أنه لا يوجد هناك إدراك زمكاني بدون إدراك عقلي. ملازمة إدراك العقل زمكانيا هي خاصيّة عقلية لا يمتلكها الزمان منفردا كما لا يمتلكها المكان منفردا والأهم أنهما لا يمكن إدراكهما المتزامن زمكانيا بينهما إلا تحت سطوة العقل الادراكية فقط في تعالقهما المشترك.
أهم خاصية يمتلكها العقل ليس ماهية التفكير المجرد المنعزل ذاتيا كما ذهب له ديكارت , وإنما العقل يمتلك خاصّية الإدراك للاشياء السابقة على خاصيّة توليد الافكار. لا الإدراك العقلي يتم بلا إدراك أولي شيئي أو موضوعي واقعي أو خيالي، ولا التفكير العقلي بمدركه كموضوع يتم من غير وجود مادة أو موضوع يكون هدفا قصديا للإدراك العقلي والتفكير فيه.
النفس والزمن
تبقى المحصلة الزمن هو الزمن بخصائصه والنفس هي النفس بخصائصها النوعية المتضادة كليّا مع الخاصية المطلقة للزمن. لا يمكن تحقيق محدودية الإدراك الشيئي بدلالة مطلق الزمان كخاصية نوعية. بل يمكن ذلك في إدراك ماهو محدود مكانا بدلالة ماهو ملازم له محدود زمانا ايضا. محدودية الزمان بدلالة محدودية مكانية ممكنة في تبادل الادوار من غير ما تداخل ماهوي جوهري بينهما على صعيد المجانسة النوعية المختلفة لكليهما، ولا علاقة جدلية تربطهما بل ارتباطهما هو من نوع التكامل الادراكي للعقل فقط.
متى يكون الزمان استشعارا متحركا كما هي طبيعته في إسقاط حوادثه على النفس بالعكس مما سبق لنا ذكره، وأقرب مثال حين نجد حوادث الزمن الماضي تمر في ذاكرتنا التخييلية كفيلم سينمائي نشاهده حين نستشعر الزمن تحقيبا وقائعيا تاريخيا ماضيا وليس تجريدا خياليا لا زمانيا.
المفارقة هنا تكمن في ممانعة فرق إختلاف ثبات الزمن الإستجابة لمتغيرات المزاجات النفسية المتقلبة على الدوام. نحن نعيش الزمن وندركه سلسلة من التعاقبات الحادثة واقعيا بدلالة المكان ولا ندرك الزمن ثابتا محايدا حين تمر من خلاله الحوادث التي نستقبلها عن طريق الاستذكارات النفسية الخيالية. فحوادث الماضي تمر في الزمن الماضي وتصلنا استذكارا ذاكراتيا لها عن المخيلة والذاكرة، ومن خلال الزمن كتحقيب وقائعي وليس كزمن تجريدي تعرف تلك الحوادث التاريخية بدلالته. إدراك الوقائع الحادثة زمانيا في تلازمها المكاني مع الزمن هي غيرها إدراك الحوادث الماضية إستذكارا زمنيا خياليا.
الحقيقة التي لا نتوقف معها طويلا أن الماضي زمن وتاريخ معا يعرف أحدهما بدلالة الآخر. بمعنى أوضح التاريخ يبقى زمانيا ماضيا في كل الاحوال والاوقات بينما يمكن للزمان أن يكون تجريدا مطلقا كليّا لا يدركه العقل تجريدا خارج محدودية وقائع التاريخ.
التاريخ لا يحتاج الزمن لإدراكه ومعرفته على مر العصور فهو وجود حصل ويحصل داخل وخارج الزمن في وقت واحد، في حين يكون حضور ملازمة الزمان لوقائع التاريخ حضورا ملازما ومحايدا لكل حقبة أو مرحلة أو عصر من عصور التاريخ.
مطلق الزمان لا يحدّه التاريخ ولا يحدّه الوجود كاملا كما لا يحده زمانا آخر محال إختراعه وجوديا. كي تستطيع أن تحد الزمان عليك إستحضار زمانا آخر يمتلك نفس ماهية الزمن الذي ترغب حدّه به. وقد عبّر ارسطو عن هذه الحقيقة في مقولته "لايحد الزمان زمان". فمطلق أزلية الزمان لا يمكن تكرارها لأي سبب كان فالزمن واحد مطلق لا يكرر نفسه زمانيا، ولا يمكن الإتيان بزمن غيره نحدّه به.
نحن حين نرغب إستقدام حوادث التاريخ من الماضي لا نحتاج الزمن في إدراكها لكنا نحتاج الزمن في إنتسابه (المحدود) لها كقطوعات ندركها تاريخيا وليس زمنيا. على خلاف مدركاتنا الواقعية من زمن الحاضر الذي لا يمكننا إعتبار الاحداث التي تجري فيه هي تاريخ ندركه في ملازمة الزمن الحاضر له كون ما يحدث في الحاضر من أحداث ووقائع لا تعتبر وقائعا تاريخية ثابتة كون الحاضر زمن متحرك ولا يحتفظ بوقائع قلقة الانتساب لأحد طرفي إستقطابه أمّا أن تكون وقائع الزمن الحاضر من حصة الماضي أو تكون من حصة المستقبل غير المحسوس إدراكيا.
هنا تكون أحداث الحاضر زمانية متغيرة وزائلة أكثر منها تاريخية ثابتة كما في الزمن الماضي، كل حدث في الزمن الحاضر لا يصبح تاريخا ماضيا من غير مغادرته التحقيبية الحضورية له في الزمن الحاضر الذي تعيشه تلك الحوادث.
الزمان في حقيقته بالنسبة لنا هو إدراك متعالق الدلالة بغيره من الموجودات والاشياء. ما يجعل الزمن في حقيقته الثابتة تجريد غير لغوي وغير مدرك حدسيا، فهو مطلق بخصائص ماهوية لا يمكن لمحدودية الإدراك العقلي فك شفراتها لا بالادراك المباشر ولا بالادراك بدلالة تعالق الزمن بالاشياء، ما ندركه مكانا بدلالة ملازمة الزمن له، لا يمنحنا العكس من ذلك أن ندرك تجريد الزمن منفصلا مجردا بدلالة المكان. المكان كما هو الزمان لا يدرك أحدهما منفصلا عن الآخر في نفس اللحظة.
حين تمر بنا الاحداث المتعاقبة عبر زمانية حاضرة ثابتة نكون في حالة فرز زماني كتحقيب هو أن حوادث ما سبق لها ووقعت في زمن مضى هي غيرها حوادث الحاضر النفسي الذي نرغب إستحضاره من الماضي زمانيا حاضرا ترغبه النفس ولا يرفضه الزمان. طالما إدراكنا الزمان بدلالة شيئية أو موضوعية خياليا عندها يكون الزمان طوع الإستجابة الراغبة في جعل إستحضار ذكريات الماضي زمانا آنيا حاضرا ممكنا متاحا. الحقيقة الخادعة أن الزمان لا يتغير بتحقيب زماني منقسم الى ماض وحاضر ومستقبل، الزمن جوهر خارج التحقيب الذي يدركه العقل مباشرة بدلالة غيره. حين ندرك الاشياء من حولنا لا نبحث عن زمن إدراكها من قبلنا في أغلب الاحيان.
الزمان في حقيقته الجوهرية في تعالقه الادراكي بالاشياء هو خاصية ثابتة لا يتأثر بما تدركه الذات، فالزمان يبقى حضورا محايدا أمام سعي العقل الإدراكي معرفة الاشياء مجردة عن زمانيتها.
أما حينما نريد إدراك مقدار الزمن بدلالة حركة الاجسام داخله عندها ايضا لا يغادر الزمن خاصيته الانفرادية المطلقة المنفصلة عن عدم إمكانية موضعته التجانسية النوعية بما ندركه من أشياء لها خصائص صفاتية وماهوية لا تنسجم مع خصائص الزمن.
أن نفكر في إحتواء الزمن لتلك الحوادث التي نستذكرها زمانيا ماضيا فهنا نقع في ازدواجية الزمن الماضي في ضرورة تفريقه الى نوعين من التحقيب الوقائعي الثابت المختلف وليس الزمان المطلق المتغير حركيا.
فزمن الحوادث الثابتة التي نستذكرها من الماضي هي غيرها استذكاراتنا الزمن الماضي الذي يجعلنا نعيش الماضي زمنا حاضرا نستحضره بغبطة وإنتشاء نفسي بالاستذكار الخيالي لحوادثه التاريخية التي يحتويها، كل ذلك يتم أمام حقيقة الزمن لا يتداخل مع إدراكاتنا بما نرغبه أن يكون ولكن حضوره أمام حقيقة أن الزمن بالنسبة لإدراكاتنا ورغائبنا النفسية هو حضور محايد في إسقاطنا كل ما نفكر فيه عليه.. في كل الاحوال نحن لا ندرك الزمن زمانا تجريديا مطلق الماهية بل ندركه زمانا محدودا بدلالة إدراكنا المكان.
لماذا لا يمكننا إدراك قطوعات الزمن إلا بدلالة غيره من الاشياء؟ كل مدركات العقل هي محددات انطولوجية كاشياء أو خياليا كمواضيع، بمعنى الادراك هو تعيّن موجودي لشيء او لموضوع، وهذا لا ينطبق على الزمن أنه غير محدود وجودا إلا بدلالة غيره من مكان ثابت أو حركي، نحن نعبّر عن تقسيمنا الزمن مرحليا الى ماض وحاضر ومستقبل إنما نكون بذلك نقوم في عملية تحقيب واقعي لمدركاتنا من الاشياء والطبيعة والظواهر مجردة عن زمانيتها. لا نمتلك استدلالا واقعيا برهانيا يجعلنا نسّلم أن الزمن يقبل التقسيم التحقيبي التجريدي الى ثلاث أزمنة من الزمان ماض، حاضر، ومستقبل من دون تعالقه بدلالة مادية أو خيالية يدركها العقل. كيف ندرك تغيرات الفصول الاربعة زمنيا؟ ندرك ذلك بدلالة التغيرات التي تطرأ في المناخ والبيئة والطبيعة ولا ندرك أكثر من حدس الزمان المرافق لها.
الماضي والحاضر والمستقبل حينما نقصدها تحقيبات زمانية إنما نحن نستعمل مجازا تحقيب الحوادث والوقائع فيها كتحقيب تاريخي يحكمه الزمان لكنه لا يكون جزءا من تلك الحوادث التاريخية تحقيبا ثابتا. التاريخ ثابت والزمن مطلق متغير. ونعرف واقعية التاريخ بدلالة مطلقية الزمن كماهية غير محدودة.
خاصية الزمن في مطلقيته يجعل منه على الدوام حضورا إستدلاليا وليس حضورا إدراكيا تجريديا له. حتى عندما نقيس مقدار حركة جسم ما داخل الزمن فإننا بذلك نقيس مقدار حركة الجسم داخل الزمن فقط وليس مقدار حركة الزمن بدلالة حركة المكان. لذا لم يكن تعبير ارسطو خاطئا قوله الزمان هو مقدار حركة الاجسام بدلالته لكن ليس الزمن حركة بذاتها ندركها مجردة عن حركة الاجسام التي تحتويها.
النفس لا زمانية
لماذا يكون الاستذكار الزماني بهيجا منعشا للنفس بعيدا عن ضغوطات الحياة في حاضرها المؤلم؟ هل الحنين للماضي يجعله يوتوبيا منقذة للنفس من وهدة السقوط المحتوم في الحاضر المؤلم الزائل المنقاد وراء زمن مستقبلي نهايته الاندثار والفناء. رغم إحتمال ربما كان الماضي أكثر إيلاما من حاضرنا الذي نعيشه؟
لماذا يتراجع إحساسنا الزماني في حالات البهجة النفسية والانشراح، ويتكثف الزمن ويطول حينما يجثم فوق صدورنا معطلا فينا منطق التعبير عن مباهج الحياة، وتوق النفس الخلاص من كابوس الزمن الحاضر المؤلم، علما أن الزمن واحدا في ملازمته حالتي البهجة والكآبة. والمتغير هو الاحساسات النفسية والعواطف والانفعالات فقط.
من المفارقات التي ربما لا نفرزها هي أن الشعور النفسي هو الذي يحدد نوع الزمن الذي تعيشه النفس. ويقل الاحساس بطول وقت الزمن في علاقة عكسية حينما تكون النفس في حال من السعادة والانشراح، ويكبر الاحساس بوطأة وقت الزمن الثقيل حينما تكون النفس في حالة من الحزن والاكتئاب. فعلاقة حالة النفس الحزينة يتناسب زمانها الملازم لها طرديا معها.
لذا تكون النفس الانسانية لا زمانية، كون الذي يحدد حال ما تكون عليه رغما عنها ليس هو الزمن بل حوادث الحياة التي تعيشها. وكل القطوعات التي نتصور نحدثها في الزمن هي قطوعات زائفة غير حقيقية لأن مصدرها قطوعات النفس المزاجية التي لا علاقة تحكم الزمن بها.
الزمان مطلق بلا حدود
في تعبير باشلار نجد مقاربة ضمنية من المعنى الذي ذهبنا له قوله " لا يمكن إدراك الزمان إلا في تعقده وتركيبه، فهو مهما كان فقيرا، فهو يطرح نفسه من خلال تعارضه مع الحدود والتخوم "1
نفهم فقر الزمان يكون في خاصيته الاطلاقية المتجردة عن مدركاتنا. بمعنى ما لا يمتلكه الزمان بتعالقه بالاشياء القابلة لإدراكنا يبقى خاصّية مطلقة انفرادية للزمان، ويبدو تعبيرنا هنا أن ملازمة الزمان لكل شيء بالوجود أزلية مستمدة من أزلية الزمان وليس من مدركاتنا، ولا تنفصل عن أي مدرك في الطبيعة والوجود لحظة واحدة، الزمان الذي نتعامل معه هو الزمان الذي يحتوي الوجود كاملا وليس بمقدور الوجود إحتوائه ولو جزئيا.
الزمان إمتلاء تام بالوجود في قبليتهما المعطاة من دون وقوفنا الكافي على الكيفية التي نشأت عنها مثل هذه العلاقة بين الزمان والوجود. علاقة إمتلاء الزمان بالوجود. موجودات الوجود من طبيعة وانسان ومخلوقات ونبات وجماد هي التي تمنح الزمان غنى وثراء إمتلائي يجعله معقدا في تركيبيته كما يعّبر باشلار. غنى الزمان يكون بما يحتويه من وجود إمتلائي لا بما يكون خارجه في عدم إدراكنا له. الحقيقة التي أوقعتنا في مثل هذا الخطأ تقوم على حقائق فلسفية تم تجاوزها عمدا هي:
- لا يوجد ما ندركه موجودا متعيّنا وما لا ندركه هو خارج محدودية ومطلق الزمان.
- كل ما لا يدركه العقل لا يقع خارج الادراك الزماني له وهو محال زمانيا ومحال إدراكه عقليا. فملازمة الزمن للوجود ملازمة أزلية مطلقة لانهائية ولا يمكن حدّها.
- ما يدركه العقل هو الموجودات المكانية التي يحتويها الزمن الادراكي شرطا مسبقا، كما أن ما لا يدركه العقل لا وجود له لا داخل ولا خارج الزمن ليست صحيحة.
- الاشياء والموجودات في الطبيعة وعالمنا الذي نعيشه سواء كانت مدركة لنا بدلالة زمنها أو غير مدركة بدلالة (غياب) تحقيبها زمنيا، هي في كل الاحوال لا تخلص من سطوة الزمن وهيمنته عليها.
- الوجود الذي ندركه هو في حقيقته زمن غير مدرك تجريدا.
ماذا يقصد باشلار أن فقر الزمان لا يسلم من تعارضه مع الحدود والتخوم. فهمنا تعبيره الزمان لا يحد بتخوم هي مدركات شيئية مادية وغير مادية لا تمتلك المجانسة النوعية مع ماهية الزمن المطلقة. والزمان حسب باشلار يتعارض مع كل الحدود, فهي صحيحة من حيث أن التفكير الوجودي بوضع حدود غير زمانية لا تتفق مع المجانسة الخصائصية للزمن هي مضيعة وقت بلا نتيجة. لا يحد الزمان حدودا تحد الوحدة الكليّة الشاملة اللانهائية المطلقة له التي تحتوي الوجود ولا يستطيع الوجود حد الزمان بها لا قطوعات ولا مطلق زماني مغاير.
الزمن النفس الروح
من أكثر المفردات المفاهيمية الفلسفية ارتباطا وثيقا بالزمن هي النفس والروح رغم التفاوت الكبير جدا بينهما الذي لا يؤخذ به أغلب الاحيان في عشوائية تعبير الدلالة اللفظية للمفردتين عن معنى دال واحد. ولا نأتي بجديد قدر أهمية التذكير أن النفس هي وعي ذاتي إدراكي يعيش الحياة في إفصاحه السلوكي عنها إنفراديا أو ضمن مجتمع. النفس وعي وسلوك متكامل مدرك في تجليّاته الإفصاحية التعبير عن دواخله بسكولوجيا.
بخلاف الروح التي هو مفهوم ميتافيزيقي غامض لا ندرك صفاته ولا ندرك ماهيته، وليس مصطلحا متفقا عليه أكثر من تكرار مقولة الروح تلازم حياة الانسان وتفترق عنه بالممات. ما يهمنا هو التنبيه بهذا التفريق السريع أن النفس هي ليست الروح ومن الخطورة إستعمال المفردتين في التعبير المتكافيء عن دلالة معنى واحد فلسفيا على الاقل.
في معرض إقتباس إستعاره باشلار عن بيار جانيه قوله "لا يوجد عند الاقوام البدائية حركات ما يسمى البدء – بمعنى حركات التعبير الجسدي الراقص المصحوب بصيحات هستيرية نفسية في التمهيد لممارسة طقس معين لا فرق أن يكون تعبيرا عن عبادة د وثنية أو عن ممارسة أسطورية خرافية قد تكون سحرية أو غيرها.- ولا حركات ختامية والكلام لباشلار تنهي ذلك الطقس "2، "فالاقوام البدائية كانوا يكتفون بالاعمال الانفجارية حسب تعبير بيار جانيه، أي الاعمال التي لا تتواصل حقا بالمعنى النفساني للكلمة لأن عواقبها في أفضل الاحيان هي من النوع الفيزيائي" 3
بضوء الإقتباس المار ذكره نضع التوضيحات التالية:
- الطقس الوثني البدائي على مر العصور الطويلة والاجيال هو فعالية حركية متفق عليها بوعي جمعي تفهمه تلك التجمعات البدائية تواصلا بينيا يجمعها في تعبيرات حركات الجسم بعيدا عن إفصاح اللغة الصوتية الابجدية تعبيرا عنها.. والطقس الوثني بما يصاحبه من رقصات وحركات هستيرية تعبيرية لم تكن تلك الاقوام ترغب التواصل من خلالها بغيرها من التجمعات التي ربما لا تعرف وجودها من عدمهـ بل كانت تلك الطقوس علاقة تنشد الخلاص النفسي مما تعانيه من خطورة متنوعة تتهددها بالفناءـ وهي تعبيرات نفسية عميقة في العجز عن التعبير عنها بوسائل أخرى غير الطقس الوثني الراقص والصيحات الصوتية الهستيرية التي لا يفهم منها شيئا.
- النفس عند الاقوام البدائية تكوين خبراتي تراكمي مستمد من الحياةـ يغلب عليه الطابع الطقسي أكثر مما يتوخى قصدا آخر يرغبون تحققه. فما تمارسه تلك الاقوام البدائية من طقس راقص صاخب إنفجاري ترافقه صيحات هستيرية إنما هي في حقيقتها بناء نفسي تراكمي دونما الشعور القصدي الماثل لبلوغ مراتب من البناءات النفسية المتوالية صعودا. ولا تفهم تلك الاقوام حاجتها الطقسية التواصلية بغيرها غير التواصل مع ما كانوا يتصورونه إلها أو معبودا بإمكانه درء الأخطار عنهم وحمايتهم.
- اتصور من غير المعقول مطالبة أقوام بدائية لا يتعدى تفكيرها صنع تمثال بحجم اصبع اليد أن تفهم أهمية الطقس الراقص في التعبير الواضح عن قصدية دينية وليس عن قصدية تواصلية مع الاخرين. الطقس الراقص خاصية بعيدة عن التعميم غير المتحقق أصلا فهمه داخل التجمع البدائي الانساني الواحد.